صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

نور روح الله: السجود آخر منازل القرب


إنّ سرّ السجود هو عند أهل السرّ: سرّ كلّ الصلاة، وآخر منازل القرب، ومنتهى نهاية الوصول. فحال السجود هو الوقت الذي ينقطع فيه الساجد عن جميع الإشارات؛ وتصبح فيه جميع الألسن خرساً؛ ويعجز كلّ بيان عن (توضيح) مقامه.

*حقيقة السّجود ولو في العمر مرة واحدة
في مصباح الشريعة، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "ما خسر - والله - من أتى بحقيقة السجود ولو كان في العمر مرةً واحدةً. وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال إلّا شبيهاً بمخادع لنفسه، غافلاً لاهياً عمّا أعدّ الله للساجدين من أُنس العاجل، وراحة الآجل. ولا بَعُد عن الله أبداً من أَحْسَنَ تقرّبه في السجود، ولا قرُب إليه أبداً من أساء أدبه، وضيّع حرمته، بتعلّق قلبه بسواه في حال سجوده. فاسجد سجود متواضعٍ لله تعالى ذليلٍ، علم أنّه خُلِق من ترابٍ يطأُه الخَلق، وأنّه اتّخذك من نطفةٍ يستقذرها كلّ أحدٍ، وكوّن ولم يكن.
وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسرّ والرّوح، فمن قرب منه بعُد عن غيره. ألا ترى في الظاهر أنّه لا يستوي حال السجود إلّا بالتواري عن جميع الأشياء، والاحتجاب عن كلّ ما تراه العيون؟!

كذلك أراد الله تعالى أمر الباطن؛ فمن كان قلبه متعلّقاً في صلاته بشيءٍ دون الله تعالى فهو قريب من ذلك الشيء، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته. قال الله عزَّ وجلّ: ﴿مَاَ جَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِيْ جَوْفِهِ (الأحزاب 4)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: لا أطّلع على قلب عبدٍ فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي، إلّا تولّيت تقويمه وسياسته. ومن اشتغل في صلاته بغيري، فهو من المستهزئين بنفسه، ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين"(1).
تدبّر هذا الحديث الشريف. ولا تتوهّم أنّ صلاة أهل الله كصلاتنا.

*لا خَلوة مع الله للغافل
إنّ حقيقة الخلوة مع الله هي في ترك غيره، حتّى النفس وهي من أكبر الحجب وأسمكها؛ فما دام الإنسان منشغلاً بنفسه، فهو غافل عن الله فضلاً عن أن تكون له الخلوة به.
ولو حصلت له الخلوة الحقيقيّة في سجدةٍ واحدةٍ طوال عمره لجبرت خسران سائر أيّام العمر، ولأخذت بيده ألطاف الله وأخرجته من دائرة دعوة الشيطان.
أمّا إذا كان القلب مشغولاً بغيره وهو في حال السّجود - المعبّر عن ترك الآخرين ورفض الأنانيّة - فقد دخل في سلك المنافقين والمخادعين. نستعيذ بالله من أشكال مكر النّفس والشيطان، ومن الخسران والخذلان والخزي في محضر الربوبيّة.
والتي صارت كرامةً للساجدين هي حلاوة الأنس مع المحبوب، وهذه (الكرامة) هي لأهلها خيرٌ من الدنيا وما فيها.
أمّا في الآخرة (فكرامتهم) هي كشف الحجب وَبذْل الألطاف الخاصّة وهي قرّة عين الأولياء.

*أمّن يجيب المضطرّ
ولأننا نحن المساكين حيارى وادي الضلالة، وسكارى كأس الغفلة وعبادة النّفس، محرومون من صلاة أهل المعرفة وسجود أصحاب القلوب، فخير لنا أن نضع نصب أعيننا حالة قصورنا وتقصيرنا وذلّنا ومذلّتنا، وأن نأسف على حرماننا، ونلهف على كيفيّة احتجابنا، وأن نعوذ بالله – تعالى – من هذا الخسران ومن تسلّط النّفس والشّيطان، فعسى أن تحصل لنا حالة "الاضطرار" فتستجيب تلك الذات المقدّسة لـ "المضطرّين" ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء (النمل: 62).
فلنعفّر -ونحن في حالةٍ من القلق والاضطراب بقلبٍ حزينٍ مغمومٍ- رؤوسنا بتراب المذلّة وهو أصل خلقتنا، ونتذكّر نشأتنا بالذلّ والمسكنة، ونطلب من الله، وهو وليّ النّعم، بلسان الحال جبران النقائص، ونتضرّع قائلين:
اللّهمّ.. نحن واقعون في حجب عالم الطبيعة المظلمة، وفي الشّباك الكبيرة لعبادة الأهواء وحبّ النّفس، وإنّ الشيطان متسلّط على عروقنا وجلودنا ودمائنا، فنحن تحت سلطانه بكلّ كياننا، ولا سبيل لنا للخلاص من هذا العدوّ القويّ سوى الاستعاذة بذاتك المقدّسة.

*بالسجود تكتمل دائرة الكمال
اللهمّ.. فخُذ أنت بأيدينا وأعنّا واجعل قلوبنا متوجّهة إليك..
إلهنا.. إنّ تَوَجُّهَنا إلى غيرك ليس عن استهزاءٍ، فما نحن ومن نكون لنستكبر ونهزأ في المحضر المقدّس لملك الملوك على الإطلاق؟!
ولكنّ قصورنا الذاتيّ ونقائصنا هي التي صرفت قلوبنا المحجوبة عنك.
ولولا عصمتك وحصنك لبقينا في شقوتنا إلى الأزل، فليس لدينا سبيل للخلاص.
اللهمّ.. ومن نكون نحن (وما يكون حالنا) وداود النبي عليه السلام قد قال: "لولا عصمتك لعصيتك".
ورد في الحديث الشريف أنّه: "لمّا نزل قوله ﴿سبحانه سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في سجودكم"(2).
وفي السجود على الأرض إشارة -لمن كان له قلب- إلى تحقيق معنى ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ.


1- بحار الأنوار، ج82، ص136.
2- الهداية، الصدوق، ص136.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع