نهى عبد الله
على سرير المرض، صباحاً، أمسك قلمه بيده المُنهكة وهي ترتجف، وأخذ يكتب: "إلى أحبّ الناس على قلبي؛ أمّي وأبيّ، أنا ممتنّ لكما؛ لمحبّتكما ورعايتكما لي، وشدّة اهتمامكما بي صغيراً وكبيراً. ربما لم يحظَ أبناءٌ كثيرون بما حظيت به؛ فقد قدّمتما لي أفضل تعليم، وتخرّجتُ من جامعة باهظة الكلفة، وتكلّفتما كثيراً لأتمّ دراساتي العليا في الخارج، وحصّلت بفضلكما مهاراتٍ كثيرة في إدارة الأموال والأعمال. فعلاً، لقد قدّمتما لي كلّ ما يُؤمّن حياةً لائقةً ومستقبلاً باهراً، وكانت عبارتك الدائمة أبي: أحبّ أن تتعلّم كلّ ما يخدمك في حياتك، يجب أن لا تحتاج إلى أحد.
صدقت أبي، في حياتي الدنيا لم ينقصني شيء، إلى أن باغتني المرض، وعمري بات قصيراً. عتبي عليكما شديد؛ لأنّكما لم تزوّداني لحياتي القادمة بعد الموت. تبيّن لي أنّ سؤالاً سيأتيني في القبر عن عمري وعملي، سأذهب إلى عالمٍ لم أعرفه، إلى بيتٍ لم أفرشه، إلى ربٍّ لم أعبده...
أنا لم أدعُه يوماً، ولم أدخل مسجداً، ولا رأيتكما تصلّيان. لم أشعر بالاطمئنان الذي يعيشه المريض الذي يشاركني الغرفة بعد كلّ صلاة، ولم أختبر انعتاق الروح عن كلّ شيء في سجدةٍ تختفي فيها معالم الدنيا، فتتوجّه الروح إلى من يسمع الهمس ويحيط بالقلب. أنا لم أسجد لله سجدةً واحدة في كلّ حياتي! واليوم، على سرير المرض، أموت حسرةً، وأحاكي السجود عاجزاً إلّا من جلوس، قامتي الآن لا تُثنى في محضر الله.
أخبرني جاري المريض سرّاً: إنّ من لم يثنِ ركبتيه خضوعاً لله، ولم يُخشع جبهته التي هي أشمخ ما فيه لتلاصق الأرض سجوداً لله، لا ينال العزّة في حياته ولا يرتفع.
أمنيتي اليوم سجدةٌ يتيمةٌ ألوذ بها بربّي وأنا أحتضر. ليتكما قدّمتما آخرتي على دنياي، يا أحبّ الناس إليّ، ليتكما.
ابنكما المشتاق إلى السجود
الحوش
غادة فواز
2023-10-02 08:12:49
اكثر من رائعة