تتقدّم مجلة بقية الله من قرائها بأسمى آيات العزاء لفقد سماحة الشيخ مصطفى قصير الذي أمضى عمره في خدمة الرسالة الإسلامية الأصيلة وتربية الأجيال في إدارة المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم – مدارس المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة، وإحياءً لذكراه تنشر هذه المقابلة معه حول طلب العلم، والتي لم يسبق نشرها من قبل.
* ورد في الحديث الشريف: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة"(1)، لِمَ اعتُبر فريضة؟
في الحديث الشريف عناصر ثلاثة هي:
العنصر الأول: طلب العلم: لم يجعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العلم فريضة وإنما طلبه هو الفريضة، لأن العلم له مقدّمات وسبل للحصول عليه، والطلب يدخل في الأفعال الإرادية للإنسان فيتعلق به التكليف. والتعبير بالطلب يستبطن ضرورة السعي ومعرفة المصادر.
وليس كل من طلب شيئاً أدركه، فالواجب هو الطلب أما التيسير فعلى الله، ففي "مُنية المريد" عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "من طلب علماً فأدركه كتب الله له كِفْلَين من الأجر ومن طلب علماً فلم يدركه كتب الله له كفلاً من الأجر"(2).
العنصر الثاني: الفريضة: ما يعني أنه تكليف، وواجب، وليس أمراً داخلاً في المباحات أو المندوبات.
العنصر الثالث: العموم: هذه الفريضة ليست خاصة بشريحة أو جماعة، وليست من الواجبات الكفائية التي إذا قام بها بعض المسلمين سقطت عن الباقين، بل هي فريضة على كل مسلم ومسلمة.
* لماذا كل هذا التأكيد على طلب العلم في الإسلام؟
ما ورد في الآيات في فضل العلم يجعله على رأس الكمالات الإنسانية، والفضائل التي يُحَثّ على التحلّي بها، ومن ذلك:
روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "العلم رأس الخير كله والجهل رأس الشر كله"(3).
وقال: "تَعَلَّمُوا العِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ حَسَنَةٌ وَمُدارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ وَالْبَحْثُ عَنْهُ جِهادٌ وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ... وَبِالعِلْمِ يُعْرَفُ اللهُ وَيُوَحَّدُ، وبالعِلْمِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الحَلالُ وَالحَرامُ، والعِلْمُ إِمَامُ العَقْلِ وَالعَقْلُ تَابِعُهُ، يُلْهِمُهُ اللهُ السُّعَداءَ وَيَحْرِمُهُ الأَشْقِيَاءَ"(4).
* ما هو الحد الذي يقف عنده طلب العلم؟ في أي عمر وفي أي مرحلة؟
ليس لطلب العلم حدّ، لا على مستوى العمر، ولا على مستوى المراحل، ولا على مستوى المكان والوسائل. أما العمر فقد اشتهر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أطلب العلم من المهد إلى اللّحد"(5).
وأما المراحل فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ مَنْهُومُ عِلْمٍ وَمَنْهُومُ مَالٍ"(6) فكلما قطع الإنسان شوطاً في طلب العلم ازداد شعوراً بالحاجة للمزيد، واكتشف أن ما حصل عليه ليس سوى قطرة ماء في بحر من المعارف والعلوم التي لا زال يجهلها، وتقسيم المراحل – كما في عصرنا – هو ضرورة تعليمية تنطلق من الحاجة لتجزئة الأهداف وتوزيعها زمانياً ليسهل تحصيلها، لا ليشعر المتعلّم بالاكتفاء عند نهاية المرحلة.
وأما المكان والوسائل فقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اطْلُبُوا العِلْمَ وَلَوْ بالصِّينِ"(7)، وسيرة العلماء الكبار زاخرة بالشواهد على تحمّلهم مشقّة السفر والاغتراب وطول الغياب عن الأهل والأوطان في سبيل طلب العلم.
* تُقسم العلوم إلى طبيعية (أكاديمية) ودينية (حوزوية)، هل يجعل هذا التقسيم العلم والدين في تنافر أم في تكامل؟
السؤال الذي يفرض نفسه دائماً: ماذا نطلب من العلم؟ خاصة أن العلوم كثيرة وهي بحر واسع جداً، فلا العمر يكفي للإحاطة بكل العلوم ولا القدرات المتاحة تتناسب مع كل ذلك.
هناك حدٌّ من العلوم الدينية ضروريّ لكل مؤمن، لا غنى لأحدٍ عنه سواء طلبه في حوزة علمية وضمن برامج منظمة، أو تلقّاه بطريقة أخرى، المهم أن يحصل عليه ولا يحسن الجهل به مهما كان اتجاهه التخصصي. بقية العلوم والمعارف إذا كانت تشكل حاجة للمجتمع وتحدث تكاملاً وتوازناً فيه، بحيث يتقاسم الناس الأدوار في طلب العلوم والتخصص فيها بما يمنح المجتمع قوّة وعزّة وحصانة فهذا هو المطلوب.
والعلوم تتفاوت من حيث الأهمية، والمعيار هو ارتباط العلم والمعرفة بحاجات الإنسان الأخروية والدنيوية. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فَخُذْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ"(8). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "العِلْمُ عِلْمَانِ عِلْمُ الأَدْيَانِ وَعِلْمُ الأَبْدَانِ"(9). ومهما يكن فإن العلوم إذا كانت تعبر عن حقائق فالحقائق لا تتعارض ولا تتنافى، وإذا وجدنا فيها شيئاً من التنافي فيعود ذلك إلى أخطاء المدّعين للعلم، إما في فهمهم للحقيقة أو للنصّ، أو في النقل، وإلّا فلا يعقل التعاض بين الحقائق.
* تُقسم العلوم من حيث رسالتها إلى دنيويّة وأخرويّة. حبذا لو تحدثونا عن أهمية الرسالة التي يؤديها العلم في المجتمع حيث يكمن المغزى في روحية الشخص مهما كان اختصاصه (على سبيل المثال يمكن أن يكون هدف الطبيب رسالياً ويمكن أن يكون هدف عالم الدين مادياً...).
نعم هذه نقطة جوهريّة، ترتبط بالدافع الذي يقف وراء طلب العلم ونشره، وهذا الأمر يتعدّى لكل ما يقوم به الإنسان، "إنّما الأعمال بالنيات ولكلّ امرئ ما نوى"(10). فالمؤمن الرسالي الذي يعمل امتثالاً لأمر الله، ويرجو الحصول على رضاه، يأتي طلب العلم لديه في هذا السياق فيختار من العلوم ما فيه لله رضىً، وما يقرّبه منه، أما طالب الدنيا فيأخذ من العلوم ما يعزّز له دنياه، ويستعمل علمه لغايات دنيوية، تبعّده عن الله عزّ وجل، وقد ورد عن عليّ عليه السلام ذمّ المستأكل بعلمه: "المُسْتَأْكِلُ بِدينِهِ حَظُّهُ مِنْ دِينهِ ما يأْكُلُهُ"(11). ورد عن ابن عباس قال: "سمعتُ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: طَلَبَةُ هَذَا العِلْمِ على ثَلاثَةِ أَصْنافٍ ألا فَاعْرِفُوهُمْ بِصِفاتِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، صِنْفٌ مِنْهُمْ يَتَعلَّمُونَ للْمِرَاءِ وَالْجَهْلِ [الجدَلِ]، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَتَعَلَّمُونَ للاسْتِطالَةِ وَالْخَتَلِ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَتَعَلَّمُونَ للفِقْهِ والعَقْلِ"(12).
* ما هي آداب وأخلاقيات طلب العلم في الإسلام؟
من جملة الآداب: الإخلاص والنية الصادقة، التواضع مهما بلغت منزلة العالم، الصبر وتحمل المشاق، التقوى وأثرها في التوفيق والزهد في الدنيا.
ولعل ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام من الروايات الجامعة لآداب طلب العلم، قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: يَا طَالِبَ العِلْمِ إِنَّ العِلْمَ ذُو فَضَائِلَ كَثِيرَةِ فَرَأْسُهُ التَّواضُعُ وَعَيْنُهُ البَرَاءَةُ مِنَ الحَسَدِ وَأُذُنُهُ الفَهْمُ وَلِسَانُهُ الصِّدْقُ وَحِفْظُهُ الفَحْصُ وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الأَشْيَاءِ وَالأُمُورِ وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ العُلَمَاءِ وَهِمَّتُهُ السَّلامَةُ وَحِكْمَتُهُ الوَرَعُ وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ وَقَائِدُهُ العَافِيَةُ وَمَرْكِبُهُ الوَفَاءُ وسِلاحُهُ لِينُ الكَلِمَةِ وَسَيْفُهُ الرِّضَا وَقَوْسُهُ المُدَارَاةُ وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ العُلَمَاءِ وَمَالُهُ الأَدَبُ وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنُوبِ وَزَادُهُ المَعْرُوفُ وَمَاؤُهُ المُوَادَعَةُ وَدَلِيلُهُ الهُدَى وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ الأَخْيَارِ"(13).
1.المعتبر، المحقق الحلّي، ج1، ص18.
2.منية المريد، الشهيد الثاني، ص99.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص175.
4.الخصال، الصدوق، ص523.
5.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج3، ص504.
6.الخصال، م. س، ص53.
7.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج27، ص27.
8.موسوعة العقائد الإسلامية، الريشهري، ج2، ص315.
9.بحار الأنوار، م.س، ج1، ص220.
10.الهداية، الصدوق، ص62.
11.بحار الأنوار، م.س، ج75، ص63.
12.الأمالي، الصدوق، ص728.
13.الوافي، الكاشاني، ج1، ص171.