مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الأسرار المعنوية للحج



"الحج من العبادات العظيمة التي تحتوي أسراراً معنوية وباطنية لا يدركها إلاّ الغوّاص في بحر المعارف الإلهية والعلوم الربانية. وقد نقل العلاّمة المحقّق الفيض الكاشاني بعضاً منها في كتابه القيّم المحجّة البيضاء عن كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، ونحن ننقلها هنا مع شيء من التصرّف وإسقاط لبعض الزوائد، وإضافة أشياء أخرى مناسبة للمقام مع الإشارة إلى ذلك في محلّه.
 

إعلم أنّ أول الحج الفهم أعني تفهم موقع الحج من الدين ثم الشوق إله ثم العزم عليه، ثم قطع العلائق المانعة منه، ثم الزاد، ثم الخروج، ثم الإحرام من الميقات بالتلبية، ثمّ دخول مكة، ثم استتمام الأفعال. وفي كل واحدة من هذه الأمور تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر، وإشارة للفطن، فلنرمز إلى مفتاحها حتّى إذا انفتح بابها وعرف أسبابها انكشف لكلّ حاج من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وطهارة باطنه، وغزارة علمه.
 

* فهم موقع الحج
أمّا الفهم فاعلم أنّه لا وصول إلى الله تعالى إلاّ بالتنزّه عن الشهوات والكف عن اللذات والتجرّد لله سبحانه، في جميع الحركات والسكنات، ولأجل هذا انفرد الرهبان في الملل السالفة عن الخلق، وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله فتركوا اللذات الحاضرة وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقّة طمعاً في الآخرة، وأثنى الله عليهم في كتابه فقال: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ "المائدة/82"

فلمّا اندرس ذلك بعث الله محمداً صلّى الله عليه وآله، فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه فقال صلى الله عليه وآله: أبدلنا بها الجهاد والتكبير على شرف يعني الحج، وسئل عن السائحين قال صلى الله عليه وآله: هم الصائمون، فأنعم الله سبحانه على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم فشرّف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حواليه حرماً لبيته وتفخيماً لأمره، وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، وأكّد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره ووضعه على مثال حضرة الملوك والعظماء يقصده الزوار من كلّ فج عميق شعثاً غبراً متواضعين بتنزّهه عن أن يحويه بيت أو يكنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقّهم وعبوديتهم. وأتم في إذعانهم وانقيادهم، ولذلك وظّف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى كنه معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردّد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية، فإنّ الزكاة إرفاق وجهها معلوم ومفهوم وللعقل إليها ميل والصوم كسر الشهوة التي هي عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله تعالى بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله تعالى، فأمّا تردّدات السعي ورمي الجمار،  وأمثال هذه الأعمال فلا حظّ للنفوس ولا أنس للطبع فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلاّ الأمر المجرّد، وقصد الامتثال بالأمر من حيث أنّه أمر واجب الاتباع فقط، وفيه عزل العقل عن تصرّفه وصرف النفس والطبع عن محلّ أنسه، فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع ميلاً ما فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً معه على الفعل فلا يظهر كمال الرق والانقياد، وإذا اقتضت حكمة الله تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى، وأن يكون زمامها بيد الشرع فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد،  كان ما لا يُهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التقيدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطبع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق، وإذا تفطّنت لهذا فهمت أن تعجّب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدر الذهول عن أسرار التعبّدات وهذا القدر كافٍ في تفهّم أصل الحجّ.
 

* الشوق إلى الحج
وأما الشوق فإنّما ينبعث بعد الفهم والتحقّق بأنّ البيت بيت الله، وأنّه وضع على مثال حضرة الملوك فاصده قاصد إلى الله تعالى وزائر له، وإنّ من قصد البيت في النيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم والفوز بلقائه سبحانه، فالشوق إلى لقاء الله مشوّقة إلى أسباب اللقاء لا محالة هذا مع أن المحبّ يشتاق إلى كلّ ما له إلى محبوبه إضافةً، والبيت مضاف غلى الله فبالحري أن يشتاق إليه بمجرّد هذه الإضافة فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد به من الثواب الجزيل. قال المتحدث الجليل العارف بالله الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء في المقام أقول:
"لا تفهمن من لفظة النظر إلى وجه الله سبحانه حيث ما قيل في الكتاب والسنّة وغيرهما: النظر بعين الرأس وإلى الوجه كالوجوه تعالى الله عن ذلك بل له معنى آخر يعرفه الراسخون في العلم".
 

* العزم على الحج
"وأمّا العزم فليعلم أنّه بعزمه قاصد إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجهاً إلى زيارة بيت الله تعالى فليعظم في نفسه قدر البيت وقدر ربّ البيت، وليعلم أنّه عزم على أمر رفيع شأنّه، خطير أمره. وإنّ من طلب عظيماً خاطر العظيم وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة وليتحقّق أنّه لا يقبل من قصده وعمله إلاّ الخالص، وإنّ من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الملك وحرمه، والمقصود غيره، فليصحّح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة وليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
 

* قطع العلائق المانعة
وأمّا قطع العلائق فمعناه ردّ المظالم والتوبة الخالصة لله تعالى عن جميع المعاصي وكلّ مظلمة علاقة وكلّ علاقة مثل غريم حاضر متعلّق بتلابيبه ينادي عليه ويقول إلى أين تتوجّه؟
أتقصد بيت ملك الملوك وأنت مضيّع أمره في منزلك هذا ومستهين به ومهمل له أو لا تستحي من أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك، فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فنفذ أوامره وردّ المظالم، وتب إليه أولاً من جميع المعاصي، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما ورائك لتكون متوجهاً إليه بوجه قلبك كما أنت متوجه إلى بيته بوجه ظاهرك، فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولاً إلاّ النصب والشقاء وآخراً إلاّ الطرد والردّ وليقطع العلائق عن وطنه، قطع من انقطع عنه، وقدّر أن لا يعود إليه وليكتب وصيته لأهله وأولاده، فإن المسافر ومتاعه لعلى قَلَتٍ [هلاك وفساد] إلاّ ما وقى الله، وليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الاخرة فإنّ ذلك بين يديه على القرب وما تقدّمه من هذا السفر طمع في تيسير ذلك السفر، فهو المستقر وإليه المصير فلا ينبغي أن يغفل عن ذلك السفر عند الاستعداد لهذا السفر.
 

* تهيئة الزاد
وأمّا الزاد فليطلبه من موضع حلال؛ وإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استكثاره، وطلب ما يبقى منه على طول السفر، ولا يتغيّر ولا يفسد قبل بلوغ المقصد فليتذكر أنّ سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأنّ زاده التقوى وأنّ ما عداه فما يظنّ أنّه زاده يتخلّف عنه عند الموت ويخونه، ولا يبقى معه كالطعام والرطب التي تفسد من أول منازل السفر فيبقى وقت الحاجة متحيراً محتاجاً لا حيلة له فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت بل تفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير.
 

* الخروج من البلد
وأمّا الخروج من البلد فليعلم أنّه فارق الأهل والوطن متوجهاً إلى الله في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا، فليحضر في قلبه ماذا يريد وأين يتوجّه وزيارة من يقصد وأنّه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين إليه الذين نودوا فأجابوا وشوّقوا فاشتاقوا استنهضوا فقطعوا العلائق وفارقوا الخلائق وأقبلوا على بيت الله الذي فخم أمره وعظم شأنه ورفع قدره، تسلياً بلقاء البيت عن لقاء رب البيت إلى أن يرزقوا متهى مناهم ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا إدلالاً بأعماله في الارتحال، ومفارقة الأهل والمال، ولكن ثقة بفضل الله ورجاء لتحقيقه وعده لمن زار بيته وليرج أنّه لم يصل وأدركته المنية في الطريق لقي الله وافداً إليه إذ قال: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا "النساء/100".
 

* الإحرام والتلبية
وأمّا الإحرام والتلبية بالميقات فليعلم أنّ معناه إجابة نداء الله فارج أن يكون مقبولاً واخشَ أن يقال لك لا لبّيك ولا سعديك فكن بين الرجاء والخوف متردّداً ومن حولك وقوّتك متبرّئاً، وعلى فضل الله وكرمه متكلاً، فإن وقت التلبية هو بداية الأمر وهو محلّ الخطر. قال سفيان بن عيينة: حج علي بن الحسين عليهما السلام فلمّا أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وانتفض ووقع عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبّي فقيل له لِمَ لا تلبّي؟ فقال أخشى أن يقول لي ربّي لا لبيك ولا سعديك فلمّا لبّى غُشي عليه وسقط من راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتّى قضى حجّه.
 

وليتذكّر الملبّي عند رفع الأصوات بالتلبية في الميقات إجابة لنداء الله تعالى إذ قال: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق "الحج/27" نداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبور وازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء الله ومنقسمين إلى مقربين وممقوتين، ومقبولين لا يدرون أيتيسر لهم إتمام الحج وقبوله أم لا.
 

قال العارف الكامل والفيلسوف المتأله القاضي سعيد القمي قدس الله روحه: "وأمّا التلبية فإنّما هي إجابة لربّ الأرباب إذ نادى العباد حين الإحرام وأعطاهم الرخصة لدخول البيت الحرام، ففي الخبر أنّ الناس إذا أحرموا ناداهم الله عبادي لأحرمنّكم على النار فيقولون لبيك هذه الإجابة، يعني لما استأذنوا في الميقات بالغسل ولبس ثوبي الإحرام واستعدوا للوفود إلى البيت الحرام أذن لهم بالنداء فينبغي لهم الإجابة لهم بالتلبية، ثمّ الشكر على هذه النعمة. وعن مولانا الصادق عليه السلام: إنّ موسى مرّ بصفائح الروحاء:"موضع بين الحرمين على ثلاثين أو أربعين ميلاً من المدينة، فقال لبيك كشّاف الكرب العظيم لبّيك ومرّ عيسى بهذا الموضوع فقال لبيك عبدك وابن أمتك لبيك. ومرّ نبيّنا صلّى الله عليه وآله بهذا الموضع فقال لبيك ذا المعارج لبيك.
 

وسرّ ذلك أنّه أجاب كلّ واحد من هؤلاء المرسلين من أولى العزم المكرّمين بذكر النعمة العظيمة التي عنده من الله. أمّا نبيّ الله موسى عليه السلام فقد كشف الله كربته من الرجوع إلى أمّه ثمّ إلى وطنه ثمّ هلاك فرعون وقومه وإنجاء بني إسرائيل من شرّهم وخلوص الدين لله بعدما أهلك الله طوائف الظلم والكفر والعدوان وأحزاب الشيطان، وأمّا روح الله عيسى عليه السلام فالنعمة العظيمة عنده أنّ الله أنشأه من دون أب من  صديقة طيّبة اصطفاها الله لنفخ روحه فيها ثمّ لما زعمت طائفة أنّه ابن الله وغير ذلك أثبت لنفسه العبودية المحضة التي هي جوهرة كنهها الربوبية وهي من أعظم النعم وأمّا نبيّنا صلّى الله عليه وآله فأعظم نعم الله عليه أنّه عرج به جميع معارج الأنبياء عليهم السلام حتّى بلغ به قاب قوسين أو أدنى وبالجملة لا نعمة عنده أعظم من عروجه إلى الله الصمد وصعوده إلى حيث لم يكن بينه وبين الله أحد". انتهى كلامه، رفع في المقعد الصدق مقامه.
 

* دخول مكّة
وأمّا دخول مكّة فليتذكّر عندها أنّه قد انتهى إلى حرم آمن وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله، وليخشَ أن لا يكون أهلاً للقرب فيكون بدخول الحرام خائباً مستحقاً للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم وشرف البيت عظيم وحق الزائر مرعي وذمام المستجير اللائذ غير مضيّع.
 

* النظر إلى البيت
وأمّا وقوع البصر على البيت فينبغي أن تحضر عنده عظمة البيت في القلب، وتقدّر كأنك شاهد لربّ البيت لشدّة تعظيمك وارج أن يرزقك لقاءه كما رزقك لقاء البيت، واشكر الله على تبليغه إيّاك هذه الرتبة وإلحاقه إيّاك بزمرة الوافدين إليه، واذكر عند ذاك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنّة آملين لدخولها كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين انقسام الحجّاج إلى مقبولين ومردودين، ولا تغفل عن تذكّر أمور الآخرة في شيء ممّا تراه فإنّ كل أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة.
 

* الطواف
وأمّا الطواف بالبيت فاعلم أنّه صلة واحضر قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبّة واعلم أنّك في الطواف متشبه بالملائكة المقرّبين الحافين حول العرش الطائفين حوله، ولا تظنّن أن المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر ربّ البيت حتّى لا يبتدى الذكر إلاّ به ولا يختم إلاّ به، كما يبتدى الطائف الطواف من البيت ويختم بالبيت، واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية، وأنّ البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهو في عالم الملكوت، كما أنّ البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر، وهو في عالم الغيب، وأنّ عالم الملك والشهادة مدّرجة إلى عالم الغيب والملكوت، لمن فتح له الباب وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأنّ البيت المعمور في السماوات بإزاء الكعبة وإنّ طواف الملائكة بها كطواف الإنس بهذا البيت، ولمّا قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان، ووعدوا بأنّ من تشبه بقوم فهو منهم، والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال: إنّ الكعبة تزوره وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله.
 

* استلام البيت والتعلّق بأستاره
وأمّا الاستلام فاعتقد عنده أنّك مبايع لله على طاعته فصمّم عزيمتك على الوفاء ببيعتك فمن غدر في المبايعة استحقّ المقت. وقد روى ابن عبّاس عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه.
 

وأمّا التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم فليكن نيّتك في الالتزام طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولربّ البيت وتبرّكاً بالمماسّة ورجاء للتحصّن من البناء في كلّ جزء لاقى البيت، وليكن نيّتك في التعلّق بالستر والإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلّق بثياب من أذنب إليه المتضرّع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنّه لا ملجأ له منه إلاّ إليه ولا مفزع إلاّ عفوه وكرمه وأنّه لا يفارق ذيله إلاّ بالعفو وبذلك الأمن في المستقبل.
 

* السعي
وأمّا السعي بين الصفاء والمروة في فناء البيت فيضاهى تردّد العبد بفناء داء الملك جائياً وذاهباً مرّة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالذي دخل على الملك. وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقّه من قبول أو ردّ فلا يزال يتردّد على فناء الدار مرّة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى، وليتذكّر عند تردّده بين الصفا والمروة تردّده بين كفّتي الميزان في عرصات القيامة، وليمثل الصفا بكفّة الحسنات، والمروة بكفّة السيئات وليتذكّر تردّده بين الكفتين ناظراً إلى الرجحان والنقصان مردّداً بين العذاب والغفران.
 

* الوقوف في عرفة
وأمّا الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات واتباع الفرق أئمتهم في التردّدات على المشاعر اقتفاءً لهم وسيراً بسيرتهم عرصات القيامة، واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة واقتفاء كلّ أمّة نبيّها وطمعهم في شفاعتهم وتحيّرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الردّ والقبول، وإذا تذكرت ذلك فالزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين وحقّق رجاءك بالإجابة، فالموقف شريف والرحمة إنّما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من أوتاد الأرض، ولا ينفكّ الموقف عن طبقة من الإبدال والأوتاد وطبقات من الصالحين وأرباب القلوب، فإذا اجتمعت هممهم وتجرّدت للضراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت إلى الله أيديهم وامتدّت إليه أعناقهم وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمّة واحدة على طلب الرحمة فلا تظنّن أنّه يخيب أملهم ويضيع سعيهم ويدّخر عنهم رحمة تغمرهم ولذلك قيل: إنّ من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أن الله لم يغفر له، وكأنّ اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة الإبدال والأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد هو سرّ الحج وغاية مقصودة ولذا قال صلّى الله عليه وآله: الحج عرفة فلا طريق إلى استدرار رحمة الله مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد على صعيد واحد.
 

* الوقوف في المشعر الحرام
قال المحقّق الجليل الفيض الكاشاني قدس سره: "وأمّا الوقوف بالمشعر فاستحضر أنّه قد أقبل عليك مولاك بعد أن كان مدبراً عنك طارداً لك عن بابه فأذن لك في دخوله حرمه، فإنّ المشعر من ملة الحرم وعرفة خارجة عنه، فقد أشرفت على أبواب الرحمة وهبت عليك نسمات الرأفة وكسيت خلع القبول بالأذن في دخل حرم الملك".
 

* رمي الجمار
وأمّا رمي الجمار فاقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرقّ والعبودية وانتهاضاً لمجرّد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس ثمّ اقصد به التشبّه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس عليه اللعنة في هذا الموضع ليدخل على حجة شبهة أو فتنة بمعصية فأمره الله أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأصله فإن خطر لك أنّ الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه، وأمّا أنا فليس يعرض لي الشيطان، فاعلم أنّ هذا الخاطر من الشيطان فإنّه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ويخيل إليك أنّه فعل لا فائدة فيه، وأنّه يضاهي اللعب فلم تشتغل به فاطرده عن نفسك بالجد والتشمّر في الرمي، فيه ترغم أنف الشيطان واعلم أنّه في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقية تري به وجه الشيطان وتقصم به ظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلاّ بامتثالك أمر الله تعظيماً بمجرّد الأمر من غير حظ النفس والعقل فيه.
 

* الهدي
وأمّا ذبح الهدي فاعلم أنه تقرب إلى الله بحكم الامتثال وأكمل الهدي وأجزءه وارج أن يعتقل بكل جزء منها جزءاً منك من النار فهكذا أورد الوعد فكلّما كان الهدي أكثر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النار أعمّ.

ولنختم الكلام بما ورد عن مولانا الصادق عليه السلام في أسرار الحج ودقائقه تبركاً بكلامه عليه السلام وتشريفاً للختام وري في مصباح الشريعة عنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين أنّه قال:

"إذا أردت الحج فجرد قلبك لله تعالى من كلّ شاعل وحجاب كل حاجب، وفوض أمورك كلّها إلى خالقك وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، وتدع الدنيا والراحة والخلق واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين،  ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخالفة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً فإنّ من ادعى رضى الله واعتمد على ما سواه صيّره عليه وبالاً وعدواً ليعلم أنّه ليس له قوة وحيلة ولا أحد إلاً بعصمة الله وتوفيقه فاستعد استعداداً من لا يرجو الرجوع وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائص الله وسنن نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع، واحرم من كلّ شيء يمنعك عن ذكر الله ويحجبك عن طاعته، ولبّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله تعالى في دعوتك متمسكاً العروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت،  وهرول هرولة من هواك وتبرأ من حولك وقوتك، واخرج من غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى منى ولا تتمن ما لا يحل لك ولا تستحقه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدد عهدك عن الله تعالى بوحدانيته وتقرّب إليه، واتقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم ودر حول البيت محقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضى بقسمته وخضوعاً لعزّته وودع ما سواه بطواف الوادع واصف روحك وسرك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا وكن ذا مروة من الله، بفناء أوصافك عند المروة، واستقم على شروط حجّك هذه ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبته له إلى يوم القيامة، واعلم بأنّ الله تعالى لم يفرض الحج ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى:﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا "آل عمران" ولا شرع نبيه سنة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه إلاّ للاستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة وفضل بيان السبق من دخول الجنّة أهلها ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحج من أولها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهي.
انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع