تحدثنا في حلقة سابقة عن المسؤولية المضاعفة الملقاة على عاتق زوجات الشهداء في تربية أبنائهم. ولئن كانت الزوجة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية في هذا المجال. إلا أن هذا لا يعني سقوط المسؤولية عن الآخرين.
في هذه الحلقة نتحدث عن الملاحظات التي ينبغي مراعاتها من قبل الجميع "الأمهات والأقارب، المجتمع، والمعنيون"، لأنهم الضمانة لضمان التربية الفضلى لأبناء الشهداء وذريتهم.
* المنزلة العظيمة
ينبغي على الذين يتعاملون مع أبناء الشهداء، أن لا يغفلوا ولو للحظة عن مكانة أبناء الشهداء ودرجتهم العظيمة. فاللَّه تعالى وليهم وحاميهم، وقد رفع الواسطة والحجاب بينه وبينهم وأصبحت علاقتهم وحركتهم أسرع بكثير نحو الملكوت الأعلى. ولذلك فإن دموعهم وآلامهم تخرق الحجب السبعة ويمكن أن تنزل اللعنة والعذاب.
إن هؤلاء الصغار اليافعين "ومن دونهم" جيل سام، وهم زبدة ما خلق اللَّه أنهم بقية الشهداء الذين ضحوا بأعز ما لديهم في سبيل اللَّه بكل إخلاص.
إنهم أبناء أولئك الأعزاء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل أعمار حياة البشر والدفاع عن شرفهم وكرامتهم أنهم النماذج الحية لحملة الأمانة الإلهية. ولا شك أن إهمالهم وعدم الاعتناء بهم لمن الأمور الخطيرة عند اللَّه عز وجل.
* ضرورة التربية الفضلى
بناء على ما تقدم، يجب على المعنيين بالأمر أولاً، وكل المسؤولين والأفراد في المجتمع الإسلامي ثانياً، أن يعملوا على إظهار هذا الجيل كمَثل علياً للكمال الإنساني. وتكمن أهمية هذا الأمر بالحفاظ على ميراث الأب الشهيد، حيث أن للشهادة والشهيد مكانة خاصة.
من خلال التربية الجيدة يستمر دم الشهيد جارياً في عروقه وبدنه، فلا يتخلى عن الطريق الذي أحبه الأب وضحى من أجله. ومن خلال زرع الصفات والمواهب الفاضلة فيهم يصبحون رجالاً نموذجيين في المجتمع.
إنهم يحتاجون، وقبل أي فئة أخرى، إلى تنمية مواهبهم وصقلها ليفهموا الحياة وأسرارها، ويصبحوا ممن يوحي لقاؤهم بأن ذكرى الشهيد حية في أعماقهم وسلوكهم. وهم بحاجة أيضاً ليتعرّفوا على أسلوب الصراع ضد الشر والفساد ليتمكنوا من الحفاظ على استمرار خط الشهداء والتغلب على العوامل التي تهدد حياة البشرية.
وهذا يحتاج إلى عناية خاصة من قبل الجميع.
* ملاحظات عامة
إن عملية تربية هذا الجيل يجب أن تشمل كل الأبعاد الإنسانية حتى تعطي أكلها في بناء الشخصية الفاضلة والمستقيمة. وهنا لا بد من ذكر جملة من الملاحظات الأساسية في هذا المجال:
1- الجانب العقائدي:
ترتبط قيمة الشهيد وعظمة قدره بما يحمل من عقيدة وفكر عظيمين. والأبناء لا يمكن لهم أن يحملوا هذا الشرف إلا من خلال حملهم لتعاليمه وعقيدته.
مما لا شك فيه أن التربية العقائدية واطلاع هذا الجيل على تعاليم الدين يعد أمراً أساسياً لتفعيلها وتطبيقها في سلوكه. إذ أنه من الضروري أن يكون بشكل يمكنه الدفاع عن مبادىء عقيدته التي استشهد أبوه دفاعاً عنها، وكذلك فهو بحاجة للعقيدة كي يتمكن من اللجوء إلى اللَّه ويطلب لعون منه، حين شعوره بالوحدة والضيق وأثناء الظروف الصعبة.
من هنا نجد أن ابن الشهيد يحتاج إلى ركائز ودعائم قوية وثابتة، كي يتمكن من طيّ طريق الحياة حتى يصل إلى سن الرشد والبلوغ، متحملاً آلام الفراق وغيب عاطفة الأب وآثار ذلك عليه، لهذا ينبغي أن تزرع في ذاته أبعاد عقائدية مناسبة وملائمة لشخصيته، كما ينبغي أن يتعلم تعاليم دينه وقيمه ويطّلع على فلسفة الحياة التي تتناسب مع آراء هذا الدين الحنيف ويسير عليها حافظاً نفسه من الانحراف طبقاً لتلك الأسس التي تعلمها.
2- النواحي الأخلاقية والاجتماعية:
ينبغي أن تكون تربيته من الناحية الاجتماية بشكل يجعل حياته بين أفراد المجتمع مثيرة وفعالة، حيث تمكنه من التفاعل مع محيطه دون أدنى شعور بالاحتقار أو الذل، كذلك دون الشعور بالغرور الذي يجره للتكبر على الآخرين. من هنا كان لا بد من تنظيم ميوله ورغباته بشكل مستقيم حيث تصبح الصفات الأخلاقية الفاضلة ملكة في جوهر ذاته، ولذا يجب السعي لزرع الصفات الأخلاقية فيه لتثمر روحه طهارة وتقوى وقدسية وصفاء، فيتدرج من مراحله الأولية على الاستمرار على الأعمال الطيبة التي تتوافق مع الأسس والنظم الأخلاقية السامية، وتؤسس حياته على عزة النفس واحترام الآخرين مبتعداً عن لغرور والانحراف والتفاخر.
3- النواحي السياسية:
تعتبر التربية السياسية واطلاعه على الحوادث التي تعترض المجتمع والعالم مسألة في غاية الأهمية. ويجب أن تنال مزيداً من الاهتمام والتركيز لدى المربين والأساتذة. ويجب أن يُراعى في تربيته صقل قواه الذاتية وتوجيهها نحو القيم السامية بعيداً عن الرغبات والميول الآنية ليتمكن من تحمل المسؤولية ويخطو خطوة نحو أهدافه السياسية التي تخدم عقيدته. كذلك يجب أن يكون ناضجاً وقوياً في النواحي الحزبية، التشكيلية، التنظيمية، القيادية، والتوجيهية. ويجب أن يتعلم فنون النظام ورسم الجهاد التحريري والدفاعي. وطريقة إرشاد المجتمع بحيث يصبح ذو شخصية مستقلة وحرة، وواعياً متكاملاً من الناحية الذاتية ولتصبح عناصر الفضيلة والسمو والحرية من أهم أسس حياته وليرفض بكل بأس، أي شكل للذل والامتهان والتبعية.
4- النواحي الاقتصادية:
إن سمو ورفعة درجة ابن الشهيد لهي أعظم من أن يعيش شاكياً الحاجة والعوز. فأبن الشهيد ينبغي أن يمتلك استقلالاً اقتصادياً يجعله قادراً على الاعتماد على نفسه وتأمين حياته. من هنا يمكن اعتبار تقرير جزء من تربيته، لكيفية اعتماده على نفسه وتعليمه، حرفة أو عملاً ما، سلاحاً يغنيه في المستقبل عن حاجة الآخرين، فيتمكن حينذاك من إدارة حياته بكرامة وعز.
إن تعليمه حرفة أو عملاً ما واطلاعه على الفعاليات الاقتصادية تخلق لديه أرضية مناسبة سواء من الناحية الجسدية أو العقلية للتقدم والعمل بعيداً عن أي خلل، ونلاحظ أن جزءاً لا يستهان به من الانحراف الذي
يصيب الإنسان هو بسبب الفراغ وعدم امتهان عمل ما أو إضاعة الوقت سدى... ومن الضروري جداً في هذا المجال، أن يعلم الطفل قيمة المال واعتباره وسيلة، وتعليمه كيفية ووسيلة صرفه بعيداً عن التقتير والإسراف واطلاعه على طرق الكسب المشروع وحدود الملكية والسائل الاقتصادية كي لا تصبح ذاته وحياته ضحية الثروة وكسب المال.
5- النواحي الثقافية:
هناك جزء من التربية يجب أن يراعى فيه الأسس التربوية الأساسية لدى الطفل، كتعليمه القراءة والحساب والكتابة وفهم القرآن وتعاليم الدين وهدف الوجود، بالإضافة إلى خلق الروح الغنية لديه، وتعليمه الآداب والرسوم والاهتمام بكل ما هو جديد وعصري.
ومن المسائل المهمة التي ينبغي أن يتعلمها الطفل هو تعلم القيم الروحية هذه القيم الإنسانية الرفيعة التي تجعله يحلق في عالم الطهارة والصفاء، ويبتعد عن عالم الماديات والمظاهر الزائلة، ومن القيم التي ينبغي التركيز عليها قيمة الشهادة التي يحوز من خلالها الإنسان على حب اللَّه تعالى ورضاه بل حتى على شوقه إليه.
إن ما يتعلمه هذا الطفل من فنون وآداب ستجعله متميزاً عن الآخرين معتمداً على الثورة والإيثار والفداء والشهادة والمواجهة لكل أنواع الظلم. لهذا يجب أن تهيأ له كل مستلزمات تحصيل العلم والفن والمهارة والذوق والفنون القتالية، وكيفية رسم وسلوك حياته ولا ينبغي أشغال ذهنه بأمور سطحية وتافهة، بل يجب إبقاؤه متوقداً وحذراً كي يمكنه الحضور في معترك الحياة بكل صلابة.
* الواجبات الأساسية
إن للجميع واجبات تجاه تربية الطفل ولكن نريد القول بأن دور الأم هو الأكثر أثراً وأهمية. فالأم تعتبر الكائن الذي ينبغي أن تجتمع فيه كل أشكال القوة والوسيلة، التي تترجم الحياة إلى الطفل لتشرح له خفايا الأمور على حقيقتها. فالأم يمكنها قبل الجميع أن تكشف التجارب والإدراكات له ويمكنها أن توجه بواعثه النفسية وعواطفه نحو عزة النفس والكرامة والسيادة ويمكنها أن تصنع شخصية الطفل من خلال تلقينه دروساً عملية عن الرشد والشهامة والشجاعة والتصرف الحكيم وذلك من خلال السيرة الذاتية لها.
ومن المؤكد أن الأم التي تنتهج خط الشهيد ومعتقداته، يمكنها أكثر من أي شخص آخر أن تعلم بن الشهيد طريق النجاة، والتقدم نحو أهدافه بخطى واثقة.
فمحبة الأم الخاصة ومراقبتها الدائمة لطفلها إنما هو رحمة واسعة لا حدود لها ويمكنها دون أدنى شك أن تحفظ هذه الأمانة الإلهية.
* الحذر من الضغوطات
إن أمر التربية ودقة اهتمام الأم به أمر ضروري حيث ينبغي أن تبعد أي نوع من الهم والحزن عن نفس ولدها خلال تربيته.
كما ينبغي أن توضع الأمور له بمستوى أعلى من أترابه ولكن دون أن يكون ذلك مبرراً لتحميله أموراً فوق طاقته، أو الإلحاح عليه بالأوامر الصارمة.
فحياة الطفل لا ينبغي أن تكون صعبة وثقيلة، إذ أن الأوامر والرفض الصارم الذي يلحق بالطفل يؤثر أن على شخصيته في المستقبل ومن جهة أخرى يجب أن لا تكون الأوامر عامل ضغط نفسي له، فيحاول التخلص من عامل الظلم الذي يشعر به فيرفض التقيد بالنظام. وهذا له عواقب وخيمة وسيئة جيداً. فعلى الأم أن تكون حذرة في هذا الجانب.