الأستاذ الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي
إن التركيز على جيل الشباب لمعالجة المشاكل التي يتعرض لها، سواء منها الدينية أو الاجتماعية أو التربوية أو غيرها، أمر لا ينكر ضرورته أحد. يكفي أنه على عاتق هذا الجيل يتم الإعداد للمستقبل القريب، والبعيد أيضاً، لأي شعب من الشعوب أو ملة من الملل.
في هذه الحلقة، اختارت بقية اللَّه بعضاً من المشاكل الدينية والعقائدية عالجها سماحة العلامة الأستاذ محمد تقي المصباح اليزدي، ونحن ننشرها تعميماً للفائدة.
عند البحث حول المشاكل العقائدية والدينية التي يعانيها الشباب، لا بد في البداية من الإشارة إلى العامل أو العوامل التي تؤدي إلى ظهور هذه المشاكل، وكذلك العوامل التي تزيد من تعقيدها وتأزمّها.
كما تنبغي الإشارة إلى طبيعة هذه المشكلات والمجتمعات البشرية التي تبرز فيها، وما هي الحلول التي اقترحت لها من قبل غير المسلمين، وفي نهاية البحث نطرح الحلول الناجمة التي تعترض الشباب في مجتمعاتنا الإسلامية.
* مشكلة التناقض
إن العامل الأساس والمهم في بروز هذه المشاكل هو تناقض الأفكار والعقائد الدينية والمذهبية في المجتمع الواحد. فالشباب يطلعون بشكل آلي على هذه الخلافات والتناقض مما يقدح في أذهانهم مجموعة من الأسئلة أهمها: أيّاً من هذه الأفكار والعقائد المتناقضة نختار ونصدّق بها؟
وتشكل الإجابة على هذا السؤال مفصلاً أساسياً في حياة الإنسان، فإن لم يجب عليه فإنه سيعيش حالة من الحيرة والضياع وهي مرشحة للازدياد حتى يقع فريسة أزمة فكرية وعقائدية شديدة.
في المجتمعات المغلقة وذات الطبيعة المتجانسة، يبدو أثر الأزمة الفكرية أقل وطأً، كما يظهر في دراسة أغلب المجتمعات في العصور القديمة، فكل مجتمع منها عبارة عن مجتمع مغلق وذي طبيعة متجانسة، وحيث لم تكن بين هذه المجتمعات روابط وعلاقات ثقافية وحضارية، فقد حافظ كلّ منها على انسجام عقائده ووحدتها، وبطبيعة الحال فإن جيل الشباب سوف يتلقى هذه المعتقدات دون ما يناقضها. وسواء كانت صحيحة أو خاطئة، لم يكن لحالة التأزم الفكري ظهور بارز.
ولكن في عصرنا اليوم، يعتبر وجود مثل هذه المجتمعات أمراً غاية في الندرة، حيث أن أكثر مجتمعات العالم اليوم تعيش حالة من الارتباط الثقافي القوي وتلاحق الأفكار والآراء المشتركة، وهذا أمر طبيعي وموجود في كل المجتمعات.
قد نجد اليوم، حتى في المجتمع الواحد، وجود أكثر من دين ومذهب، وانتشار هذه المذاهب والمعتقدات المتناقضة والمتباينة يخلق حالة من التناقض الفكري لدى الشباب.
طبعاً أن هذه التناقضات الفكرية لا تمس الشباب وحسب، بل يمكن للأحداث والكبار أن يقعوا فريسة لها أيضاً، إلا أن الأطفال والأحداث يكونون أقل تأثراً بها بالنظر إلى استئناسهم بمعتقدات الآباء دون سواهم، كما أن الرجال الكبار والشيوخ تكون أفكارهم وعقائدهم- سواء كانت صحيحة أم خاطئة- قد اتخذت شكلاً ثابتاً ومستقراً، ويندر أن تتأثر بما يغايرها ويخالفها.
أما الشاب، فهو مدفوع بنور الفطرة الإنسانية لكشف الحقائق وإدراكها، وتمييز الحق من الباطل، ويكون عادة قد دخل في استقلاله الفكري، ولذلك فهو أكثر عرضة للتأثر بالتناقضات الفكرية خصوصاً إذا لم يكن يملك أسساً عقائدية سليمة، ولذلك كان تخصيص البحث في العوامل المسببة للمشاكل الفكرية والعقائدية التي يعاني منها الشباب وكيفية معالجتها؟
ذكرنا أن العامل الأساس هو تناقض الأفكار والمعتقدات والثقافات، ويمكن تفريع هذا العامل إلى ثلاثة فروع:
1- اختلاف المذاهب
التناقضات التي تبرز بين العقائد الدينية التي تدين بها العائلة التي ينتمي إليها الشاب، والمعتقدات الدينية الأخرى التي تنتشر في المجتمع، كالشاب الذي ينتمي إلى أبوين مسلمين ويخضع إلى تربية إسلامية في طفولته، ثم يختلط بعد ذلك بأصدقاء له أو زملاء من مذاهب أخرى كالمذهب المسيحي مثلاً، وبكل تأكيد فإن الاختلاف العقائدي بين المذهبين سيفتح أبواب التساؤل أمام الشباب، هل أن التوحيد الإسلامي هو الحق أم التثليث المسيحي؟ فإذا كان لكل واحد الدلائل التي يطمئن إليها- ولو كانت خاطئة- فإن ذلك يخفف من الأزمة الفكرية، وإلا فإن التأزم النفسي والضياع الفكري قد يذهب بالإنسان كل مذهب.
إن انتشار المذاهب والمعتقدات المتناقضة والمتباينة في المجتمع الواحد يخلق حالة من التأزم الفكري لدى الشباب.
2- الدين والعلم
وهو التعارض بين الأفكار الدينية والنظريات العلمية، فقد يكتسب الشاب ضمن محيطه العائلي آراء ومعتقدات دينية معينة، ثم بعد ولوج المحيط العلمي- وخاصة الوسط الجامعي- يطلع على سلسلة من النظريات والآراء العلمية التي قد تحمل أحياناً تناقضاً وتعارضاً مع معتقداته الدينية.
وإذا لم يتمكن من التوفيق بينهما، فإنه إما أن يرفض النظريات العلمية أو يتخلى عن معتقداته الدينية.
ولما كان بريق المسائل العلمية أشد جاذبية في هذه الأيام، خصوصاً ضمن الأجواء العلمية، فإنها غالباً ما تنتصر في هذه المعركة وتنهزم أمامها العقائد الدينية، وبالأخص إذا لم تكن مبنية على قرار مكين وأساس متين. وعلى كل حال، فالاختلاف والتناقض بين العلم والدين، إن صح التعبير، كثير الوقوع، ومن الممكن أن ينتج عنه أزمات نفسية كبيرة.
3- الدين والمجتمع
التناقض بين المعتقدات الدينية السامية وبين الرغبات والقيم الشائعة في المجتمع "وخصوصاً تلك التي يعمل على نشرها المترفون والمفسدون".
كان النوع الأول من التناقض بين ديانتين، والنوع الثاني بين المعتقدات الدينية ونظريات العلم الحديثة، أما النوع الثالث فهو التناقض بين معتقدات الدين وشرائعه السامية من جهة، وبين القيم والرغبات الاجتماعية من جهة أخرى ويوجد أمثلة كثيرة وتجارب حية متعددة تدلّ على مثل هذا النوع من التناقض فالشاب الذي تربى على المبادئ والقيم الدينية والتربوية ضمن محيطه العائلي فإنه يتخذ موقفاً إيجابياً لجهة بعض القيم والعادات ويعتبرها حسنة، ويجعل الأعمال المطابقة لها ممدوحة، بينما يعتبر قيماً وعادات أخرى سيئة وما يطابقها من أعمال فهو مذموم ومرفوض، لكنه عندما يدخل التجربة الاجتماعية من أبوابها الواسعة، فإنه يجد أن الكثير ممن يتعامل معهم يرون عكس ما يرى تماماً، فالأمور التي كان يراها حسنة وذات قيمة سامية ليست جديرة بالاهتمام عندهم إن لم تكن سيئة ومتخلفة، كما أن ما استقبحه من القيم يستحسنه الآخرون.
هذه الحالة قد يصادفها الشاب بشكل مباشر عن طريق النقد الخطابي، أو من خلال الإيحاء الواقع تحت تأثير استنتاجاته الذهنية مما يصادفه عملياً من سلوك وقيم لا تتلاءم ومعتقداته الدينية. إن الجو العام في المجتمعات اليوم يثير الغرائز ويحرك الميول والرغبات المنحرفة، التي تزيد من حدة الصراع الداخلي وتجتذب الشاب نحو التحرك خلافاً لمعتقداته الدينية، فالدين يحرم على الشاب مجموعة من الأمور، ولكن المجتمع يشجع عليها، والجو العام السائد في المجتمع يحرك لديه الدوافع والشهوات والغرائز لاقتراف المحرمات. وهذا هو العامل الثالث الذي يسبب الاضطراب والقلق لدى الشاب الذي لم تترسخ في نفسه العقائد الدينية بعد، وهنا يجد نفسه في حالة من الصراع الشديد مع أسئلة كثيرة، أهمها:
كيف لي أن أقتنع بأن هذا العلم الذي يحرمه الدين سيء مع وجود هذه الرغبة الشديدة لدي في الإتيان به؟
وكيف لي أن أجتنب عملاً يقره المجتمع ويشجع عليه؟
وهل حقا أن هذا العمل سيء؟
وغيرها الكثير من الأسئلة، فإن لم يستطع الشاب أن يعطي الأجوبة الصحيحة عليها، فإنه سيقع تدريجياً، في حالة من الحيرة والتأزم تؤدي به في معظم الأحيان إلى إنكار معتقداته الدينية، أو أنه يقع فريسة أزمة واضطراب روحي مريرين ناتجين عن الصراع بين الدوافع والحوافز الدينية من جهة والدوافع والمبررات الاجتماعية من جهة أخرى.
إن تحدّي المجتمع للمحرمات الدينية يجعل الشاب في اضطراب روحي مرير إن لم يدفعه إلى التخلي عن معتقداته الدينية.
* طرق المعالجة
هذه هي بشكل عام أهم العوامل التي تسبب المشاكل العقائدية والدينية للشباب في المجتمعات المعاصرة، ذكرناها على نحو الإجمال، ولا ننكر وجودها في المجتمعات السابقة بنحو أو بآخر.
إلا أنها اليوم تعقّدت بشكل كبير، وخاصة في مسألة التعارض الحاصل بين المعتقدات الدينية المنتشرة في العالم وبين النظريات العلمية، ولعل أكثر المجتمعات التي تعاني من هكذا مشكال هي المجتمعات الغربية.
منذ القرون الوسطى كانت العقائد المسيحية هي الحاكمة في الغرب، وخصوصاً مذهب الكنيسة الكاثوليكية، مضافاً إلى بعض النشاط للكنيسة الأرثوذكسية، وقد تبنّت هذه المذاهب مسائل علمية على أنها من العقائد والمسلَّمات الدينية، وعندما جاء عصر الاكتشافات العلمية الحديثة، وظهر التناقض الجلي بين المعتقدات الكنسية والنظريات العلمية، حدثت موجة عارمة من الضياع الفكري والعقائدي بين الشعوب الأوروبية وخصوصاً ضمن جيل الشباب آنذاك، وهي ما تزال مستمرة إلى عصرنا الراهن بنحو أو بآخر.
أما عن كيفية معالجة هذه المشاكل، فينقسم البحث إلى قسمين:
الأول وهو كيف واجه الآخرون من المؤمنين والمتدينين هذه المشاكل... وبتعبير آخر كيف استطاع أصحاب الأديان المختلفة في المجتمعات اللاإسلامية التعامل مع التفاعلات الناتجة عن المشاكل العقائدية وما هو الحل الذي اختاروه لذلك؟
الثاني وهو كيف استطاع علماء الإسلام معالجة هذا الأمر في المجتمعات الإسلامية.
وهذا ما سنتعرض له في الحلقة القادمة إن شاء اللَّه تعالى..