آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

كيف تُعالج مشكلات الشباب الفكرية والعقائدية

الأستاذ الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي


تطرقنا في الحلقة الماضية إلى الأسلوب الذي اختاره الغرب لحلّ مشكلات الشباب الدينية والعقائدية حيث اعتمد فصل الدين عن العلم والحياة وحصره بمسائل اللاهوت والعالم الآخر واعتبار الدين أمر ذاتي ثانوي لا أكثر.
في هذه الحلقة نتعرف على الطريق السليم والأسلوب الأمثل لمعالجة المشكلات الآنفة الذكر.

* لا تسامح في الدين
إنّ من له أدنى اطلاع على الفكر الإسلامي يدرك أنّ الإسلام لا يرضخ للمساومة بين الحقّ والباطل ولا يتسامح في ذلك مطلقاً. وإذا كان القرآن يؤكد على أسلوب الدعوة ﴿ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، ويأمر بالإحسان إلى الآخرين حتّى الأعداء، ومعاملة الكفار والمشركين بالبر والعدل إلاّ أنّه في الجانب الفكري والعقائدي يتشدّد إلى أقصى الحدود فالمسلمون يجب أن يكونوا أشدّاء في دينهم وعليهم أن يواجهوا كلّ من يتعرّض لهم ويحاربهم في أمور دينهم وهذا من المبادئ الأساسية في الإسلام.
 

يقول تعالى ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "الممتحنة/4".
ففي الإسلام، لا قداسة للمذاهب الباطلة، فإن ننظر إلى المذاهب الوثنية تحت عنوان العناصر الثقافية الأصيلة في مجتمعنا، ونطلق عليهم بدل الأصنام التماثيل الرمزية أو التجريدية وننتج أفلاماً تشرح نظرتهم في عبادة الأصنام كرمز وتعبير عن الله تعالى، ثمّ نذرف الدمع باسم العلم والحضارة لأنّ الحروف قد قضت على معابدهم وتراثهم وحطّمت أصنامهم، إنّ هذه النظرة مخالفة بشدّة للإسلام ولتعاليمه الرشيدة أنّ النظر إلى الدين على أنّه أمر شخصي، وأن على الإنسان أن يعبد ربّه "أو أربابه" ويرضيه بالطريقة التي يرتضيها هو في الحقيقة نفي لأصالة الدين أنّ هذا يعني أنّه لا يوجد لدينا دين حق ولا فرق هنا بين الإسلام والمسيحية أو الزرادشتيه في حال إنّ القرآن الكريم ينادي ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ "آل عمران/58".
 

لقد أخطأ الغرب في اعتبار الدين مسألة ذاتية ذوقية، كما أخطأ من قبل في اعتبار القيم الأخلاقية والاجتماعية مسألة ذاتية وذوقية ولكن هل حقاً إنّ القيم الأخلاقية والاجتماعية والتي هي منشأ القوانين الحقوقية والقضائية الجزائية، أمر ذاتي ذوقي؟ أو لا يتبع المبدأ المذكور هذا مفاسد كبرى وتعارض في القيم والمصالح؟
في الإسلام يوجد الكثير من الأحكام التي تختصّ بهذه القيم، حيث يعيش المسلم الملتزم حالة من الاحترام لهذه القيم ويجتنب العمل على خلافها اجتناباً يقرب من الحرمة والأحكام في الإسلام واقعية بمعنى أنّها تنظر إلى المصالح والمفاسد الواقعية المترتبة على هذه الأحكام، وهذا يدلّ على أنّ هذه القيم ليست شخصية وذوقية ولو كان هذا الرأي يستند إلى الرغبات الخاصّة والذوق لم يعد الإسلام المذهب البروتستانتي عند المسيحية.

* الإسلام دين العلم
إنّ التشدّد تجاه الدين في الإسلام ﴿بَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ "الممتحنة/4". ناتج عن اعتبار الدين منهجاً ومسلكاً لتنظيم حياة الإنسان وبلوغ الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة.
ففي الإسلام لا تعارض بين العلم والدين لأنّ الإسلام دين العقل ودين العلم وهو بعد ذلك دين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كان العلماء قديماً يعتقدون أنّ الأرض هي مركز الكون. والقرآن يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ "الأنبياء /33" وكان العلماء آنذاك يعتقدون أنّ النجوم ذات معدن ذهبي وهي معلّقة في السماء دون حركة وهكذا قسموا الأفلاك إلى ثابتة ومتحرّكة،

أمّا القرآن فهو يؤكّد أنّ الجميع في حركة مستمرّة ومنظّمة إنّ أمثال هذه الحقائق العلمية كثيرة في القرآن، وهذه ليست من المسائل اللاهوتية، بل هي من الحقائق الثابتة التي لا تقبل التأثّر والتغيّر فالقرآن هو الكتاب الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ "فصلت/42". أمّا الظاهرة العلمية فهي تخضع للتغيّر لأنّها فرضيات تؤيدها التجربة وقد يأتي يوم تتناقض التجربة مع الظاهرة العلمية فتنقلب خرافة وتبطل حقانيتها.
 

الظاهرة العلمية قابلة للتغير، وهي ليست حقيقة مطلقة وليس إطلاق العلم عليها إلاّ من باب الاصطلاح والاتفاق، أمّا الوحي الإلهي فإنّه لا يبطل أبداً. نحن لا نقول أنّ القرآن هو كتاب علمي، بل هو كتاب هداية لكنّه لا يتعارض مطلقاً مع العلم فهو يدعو إلى التفكّر والتدبّر، والنظر في السموات والأرض. والتوصّل من خلال ذلك إلى الأسرار والقوانين العلمية الحاكمة على الكون.
وقد أشار إلى بعض منها، وعلى الإنسان أن يستخدم عقله والمنهج العلمي ليصل إلى ما تبقّى من أسرار وقوانين. ويجب أن يلتفت أنّ النتيجة التي يتوصل إليها الإنسان ليست مقدّسة ولا مطلقة أبداً وإنّما هي قابلة للتغير والتبدّل وبذلك فلا تعارض بين الدين والعلم.
 

ومن جهة أخرى يجب الالتفات جيداً عند نقل الآيات القرآنية والروايات الشريفة وتفسيرها تفسيراً صحيحاً فالآية القرآنية الكريمة وإن كانت قطعية الصدور ولا شك في ذلك مطلقاً، إلاّ أنّه قد يكون لها أكثر من مدلول واحد فيجب بذل الجهد لمعرفة المدلول الحقيقة للآية ومضافاً إلى ذلك يجب تمحيص الروايات الصحيحة للأخذ بها وإلقاء الروايات الموضوعة والضعيفة السند جانباً، وعلماء الإسلام قدّموا تضحيات جلّى وأبلوا بلاءً حسناً في هذا المضمار فالآيات الكريمة والروايات الشريفة الصحيحة والمتواترة لا يمكن أن تتعارض مع العلم بأيّ شكلّ من الأشكال، إلاّ أن تكون النظرية العلمية مجرّد فكرة أو فرضية لم يقم عليها دليل أو برهان وفي هذه الحال فالوحي أولى بالاتباع.
وخلاصة القول إنّ العلم الحقيقي واليقيني لا يتعارض أبداً مع الدين الحقيقي.

* الإسلام دين الحياة
وفي الإسلام لا فصل بين الدين وحياة الإنسان فالدين ينظّم حياة الإنسان في جميع جوانبها الاقتصادية والسياسية والقانونية وما إلى ذلك وما من واقعة تمرّ على الإنسان إلاّ ولله فيها حكم والحكم الإلهي عندما يأمر بشيء ما فإنّه ينظر إلى مصلحة واقعية تحصل من خلال أداء هذا الشيء، وعندما ينهى عن شيء آخر يكون ناظراً إلى مفسدة حقيقية فيه، ولا شيء من ذلك خاضع لذوق الناس أو رغبتهم.
فالقيم الأخلاقية والاجتماعية والحقوقية وغيرها في الإسلام قيم واقعية لا ذوقية، ولو اجتمعت كلّ الطوائف والملل والشعوب على الاعتراف بقانون مخالف لشريعة الله ورسوله، فإنّه لن يكتسب أيّة قيمة أو شرعيإنّ أيّ حكم غير حكم الله تعالى هو حكم جاهلي طاغوتي

﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ "المائدة/50".
وقد ورد في أكثر من آية النهي عن اتباع غير حكم الله تعالى. يقول تعالى:
﴿لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ "المائدة/44"
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "المائدة /45"
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "المائدة/47"
﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ "المائدة/48"
 

فالله تعالى هو الهادي إلى الحق وإلى النظام والقانون الأصلح، لأنّه وحده العالم بالمفاسد والمصالح الواقعية في هذا العالم وفي الآخرة أيضاً، أمّا الناس العاجزون عن إدارة حياتهم اليومية فكيف يهتدون طريق الصواب؟ ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ "يونس /35" فالقرآن يخاطب عقولنا ويؤكّد إن من يضلّ عن طريقة فلن يصل إلى الحقّ أبداً، ومن يدّعي قيادة الآخرين وهدايتهم عليه أن يكون محيطاً بكلّ الحقائق ومهتدياً إليها، وعلى الإنسان أن لا يغتر بقليل علمه، والعلم يؤكد حقيقة الآية الكريمة ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً "الإسراء/85".

* الحل في إحياء الفكر
إذاً الإسلام هو دين الفطرة والعقل ولا يوجد أيّ تعارض مع العقل وإن وجدنا بعض التعارض فهو راجع إلى جهلنا وعدم تدبّرنا إذ من الواضح أن التلازم بين الدين من جهة والفطرة والعقل من جهة أخرى لا يعني أنّ أيّ إنسان مهما كان علمه، يستطيع الإجابة على الشبهات والأفكار الإلحادية المروّجة فالكثير منها يحتاج إلى تدبّر وتفكر عميقين فكما أنّ الطفل إذا لم يجد الحل لمعادلة رياضية مؤلفة من مجهولين فلا يعني ذلك أن لا جواب لهذه المعادلة بل الجواب موجود ولكن يحتاج إلى مقدمات يدرسها الطالب تحت إشراف مدرس حتّى يمكن إدراكها واستيعابها جيداً. كذلك كثير من الشبهات حول الدين تحتاج إلى مطالعة وتدبّر ودراسة، وإذا لم يجد الحل فلا يعني أن لا جواب عليها بل عليه الرجوع إلى المتخصّصين في هذا المجال.
 

إنّ الحل الوحيد الذي يمكن من خلاله منع الانحرافات العقائدية والأخلاقية والفكرية التي تعصف بشبابنا يكمن في تقوية البنية الفكرية العلمية لديهم. ونحن في الواقع بحاجة إلى ثورة ثقافية تنبع من الأمة كافة وتقع على عاتق الشباب الجامعي المسؤولية الأكبر في هذا المجال وفي الإسلام لا يوجد سؤال ليس له جواب بل قد يكون للسؤال أجوبة متعدّدة وفي مجالات مختلفة، وهنا ينبغي ملاحظة مستوى السائل ومراعاة قدرته على الفهم والاستيعاب.
 

يجب طرح أجوبة الإشكالات بشكل مركز وفي الاجتماعات العامّة بما يتناسب مع المقام، فالبلاء الذي أصاب المسيحية أنّها لم تعد قادرة على الإجابة على أسئلة علمية وفلسفية كثيرة ولذلك اختارت أنّ الدين إيمان قلبي ولا برهان لذلك لم يكن أمامهم حل آخر لكن الأمر في الإسلام مختلف تماماً. لقد جاء الإسلام بأدلّة كافية في مسائل التوحيد والنبوة وعالم الآخرة وعلينا تقديم هذه الأدلة بالأسلوب المنطقي المناسب ليصل إلى جميع طبقات المجتمع وفئاته.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع