هكذا هم عظماء التاريخ، يعيشون بين الناس في غربة. فالأقلون عدداً من يلتفت إلى عظمة قدرهم ومقامهم، والأكثرون عنهم غافلون، وعن الاستنارة بهديهم معرضون. فيحبس هؤلاء العظماء كنوز معارفهم ولآلىء علومهم لئلاً تعبث بها أيدي العابثين. فإذا ما رحلوا عن هذه الدار الفانية، أيقظ الناسَ افتقادُهم من سبات غفلتهم العميق.
والإمام الخميني قدس سره ذاق الغربة مرتين، الأولى من حكم الطاغوت والثانية من حكم العلماء. نعم لقد كانت غربة الإمام في حياته وأثناء أعمال ولايته أعظم بكثير ممّا هي عليه بعد وفاته.
أما اليوم، فقرّ عيناً أيها الإمام، فالأمة الوفية لم تنكص ولم تنقلب.
الكثير منا لا يعرف الإمام سوى قائد ثورة ومؤسس دولة، وله باع في العرفان. وما سوى ذلك، خصوصاً في الفقه والفقاهة، فلا يعدو أن يكون مرجعاً من بين مراجع، لا نقطع بأنه أعلمهم. وهذا يذكرني بأقوال بعض من تزيّا باللباس الديني عندما بدأ الإمام نضاله في عام 1963: "إن الخميني ليس من العلماء ولا من حوزة قم العلمية".
ولعمري أن ههنا الغربة كل الغربة! فالعالم الرباني وفقيه العصر المجدّد. الذي استخرج من بحر القرآن الزاخر لآلىء المعارف الإلهية، واستلهم من روافد السنة الشريفة النبع الزلال للإسلام المحمدي الأصيل، وقدم لنا الإسلام الخالص كلاً موحداً، لا تطغى عبادته على سياسته، ولا تتغلّب التقية فيه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ينزوي جانباً عن المشاكل الاقتصادية والإجتماعية والإدارية وغيرها.
هذا العبد الصالح الذي وعى الإسلام بأذن واعية ليس من العلماء ولا من حوزة قم العلمية، وفي أحسن الأحوال هو واحد من هؤلاء العلماء.
لقد فهمت الآن ماذا كان يعني الإمام قدس سره عندما قال: "يجب أن نسعى لكسر أغلال الجهل والخرافة لكي نصل إلى النبع الزلال للإسلام المحمدي الأصيل. واليوم أكثر الأشياء غربة في الدنيا هو الإسلام وهو محتاج إلى التضحية لإنقاذه".
نعم لقد جسّدت الإسلام بكلّك، وعرفك بعض من عرفك فقال فيك: "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام"، ولكنك كنت غريباً بين الآخرين، فلذلك كان أكثر الأشياء غربة في الدنيا هو الإسلام.
لو أن المنصف الطالب للحقيقة نظر بعين البصيرة، لوجد أن الإنجاز السياسي الكبير الذي حققه الإمام الخميني قدس سره لا يقاس بالفتح الكبير الذي حققه على مستوى الفقه والفقاهة. وإذا كان الوحيد البهبهاني رضي الله عنه قد قضى على الاخباريين، ونقل علاقة العامة بالفقهاء من علاقة مستمع لمحدّث إلى علاقة مقلِّد لمرجع، فإن الإمام الخميني قدس سره قد قضى على تقوقع الفقه الإسلامي في زوايا أحكام الحيض والنفاس، ونقل علاقة العامة بالمرجع إلى علاقة أمة بواي الأمر. والذي يتتبع آراءه الفقهية المتنوعة، يلاحظ أنها تستند إلى نظرة أصولية تجديدية تصلح أن تكون مفصلاً في حركة تطور علم أصول الفقة والفقه الشيعي عموماً. وإذا كان المجال لا يتسع لاستقصاء ذلك، فلا بأس بالتعرض إلى بعض منها.
فالإمام قدس سره في ندائه إلى العلماء والحوزات العلمية والمؤرخ 15 رجب 1409هـ. تحدث عن نظرة جديدة لدور المجتهد وحقيقة الاجتهاد. حيث اعتبر أن من الشروط الأساسية في الاجتهاد عنصري الزمان والمكان. يقول الإمام "الزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد. فالمسألة التي كان لها حكم سابق يمكن أن تأخذ حكماً جديداً بسبب ما يتعلق بالعلاقات الحاكمة على سياسة واجتماع واقتصاد نظام ما، بمعنى أنه من خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للموضوع الأول الذي لا يبدو في الظاهر مختلفاً عن السابق، ولكنه أصبح جديداً في الواقع ولا بد أنه يحتاج إلى حكم جديد".
ولو أردنا أن نوضح كلام الإمام رضي الله عنه ، فلنأخذ بعض الأمثلة على ذلك. فالذي يراجع الروايات الشريفة حول موضوع الدم مثلاً يجد أنها تصرح بشدة بحرمة بيعه وشرائه، فلو قطع المجتهد النظر عن عنصري الزمان والمكان لأفتى مباشرة بحرمة بيعه وشرائه الآن في هذا العصر، إلا في حال الضرورة القصوى بحكم ثانوي كما إذا تعرض مريض لخطر الموت في حال عدم توفر الدم اللازم له. ومن المعلوم كم هي المشاكل الكبرى التي ستصيب المعالجات الطبية في هذا العصر حتى مع وجود الحكم الثانوي، ثم ليس من المعقول أن الإسلام جاء لينظم حياة البشرية في كل عصر وزمان بأحكام ثانوية اضطرارية.
أما المجتهد الذي يلتفت إلى أن عنصري الزمان والمكان أساسيان في الاجتهاد، فإنه يرى أن الدم في عصر المعصوم لم يكن له منفعة محللة ولذلك كان حكمه حرمة بيعه وشرائه. أما في هذا العصر، ومع وجود المنافع المحللة الكثيرة له، وبالنظر إلى توقف المعالجات الطبيّة عليه، فإن الموضوع اختلف كليّاً عن الأول وأصبح موضوعاً جديداً حسب الروابط الجديدة ويحتاج إلى حكم جديد، وهو أن الدم حلال بيعه وشراؤه.
ومثال آخر على ذلك، الكنوز المستودعة في أراضي المسلمين. فمن المعلوم أن الإمام قد أباح ذلك للشيعة في عصر الغيبة، فلو وجد مسلم بئراً من النفط في أرضه فهو له ويخرج خمسه. لقد كان هذا صحيحاً حتى الأمس القريب. أما اليوم فمع وجود الحكومة الإسلامية تغيرت الروابط الاقتصادية الاجتماعية للموضوع (بئر النفط) وأصبح يحتاج إلى حكم جديد وهو أن هذا البئر ملك للدولة الإسلامية. ولا يخفى على اللبيب ماذا سيصيب اقتصاد الدولة الإسلامية لو بقينا على الحكم الأول. يقول الإمام في جواب على استفتاء في هذا الخصوص: "لو افترضنا أن المعادن والنفط والغاز موجودين ضمن الأملاك الشخصية، ولكون هذه المعادن وطنية وترتبط بالأجيال الحالية والقادمة التي ستظهر على مر الزمان لذلك تُستثنى من الأملاك الشخصية" هذا هو حكم الروابط الجديدة، وعدم الالتفات إليها سوف يؤدي إلى أضرار فادحة لا تحمد عقباها. يقول الإمام: "بناء على كون الأنفال قد حلّلت للشيعة، يصبح بإمكان الشيعة إذا أن يقضوا على الغابات بالآلات الحديثة دون أن يمنعهم أحد، ليقضوا بذلك على كل ما يساعد على نظافة البيئة والمحيط والسلامة العامة، مهددين أرواح الملايين من البشر بالخطر، ولا يحق لأحد أن يمنعهم!!".
فعلى المجتهد إذاً أن يحيط بأمور زمانه وعصره والروابط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليستطيع أن يحدد الموضوع الذي هو في الظاهر واحد، ولكنه واقعاً يتغير مع تغير هذه الروابط. ولذلك يقول الإمام: "يجب على المجتهد أن يكون ملماً بأمور زمانه، وليس مقبولاً للشعب وللشباب وحتى للعوام أن يقول مرجعهم ومجتهدهم أنالا أبدي رأياً في المسائل السياسية".
لأن المجتهد الذي لا يتدخل في الأمور السياسية لن يستطيع أن يحدد موضوع المسألة بدقة، إذ أن الأمور السياسية لها دخالة في تحديد الموضوع، وبالتالي فهو عندما يعطي حكماً، فكأنه يعطي حكماً لموضوع آخر غير المراد. ويتابع الإمام "ومن خصوصيات المجتهد الجامع معرفة أساليب التعامل مع حيل وتحريفات الثقافة الحاكمة على العالم. وامتلاك البصيرة والنظرة الاقتصادية. والاطلاع على كيفية التعامل مع الاقتصاد الحاكم على العالم، ومعرفة السياسات وحتى السياسيين ومعادلاتهم الموضوعة، وإدراك المركزية ونقاط القوة والضعف في القطبين الرأسمالي والشيوعي، والذي هو في الحقيقة إدراك لحقيقة الاستراتيجية الحاكمة على العالم.
ويجب أن يكون لدى المجتهد المهارة والذكاء والفراسة لهداية مجتمع إسلامي كبير، بل وحتى غير إسلامي. وبالإضافة إلى الإخلاص والتقوى والزهد التي هي من شأن المجتهد، يجب أن يكون في الواقع مديراً ومدّبراً".
ما الفقه فلم يعد تلك الرسالة العملية التي تهتم بالبعد العبادي للإنسان فقط. بل هو "النظرية الحقيقية والكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد. والهدف الأساسي هو كيف نحكم الأصول الثابتة للفقه في عمل الإنسان والمجتمع. ونتمكن من الحصول على جواب للمشاكل. وهذا ما يخشاه الاستكبار، أي أن يكون للفقه والاجتهاد بعد عيني وعملي ويمنح المسلمين قوة المواجهة".
فلو لم يرد الشارع المقدس أن نحّكم الأصول الثابتة للفقه في عمل الإنسان والمجتمع وحل المشاكل، فما هي الغاية والحكمة من التشريع إذاً؟ ولذلك كانت الحكومة وولاية الفقيه مسألة بديهية قد لا تحتاج إلى برهان لدى الفقيه العارف بأحكام الإسلام وقوانينه. ولذلك يعتبر أن المجتهد الحقيقي لا يمكن إلا أن يؤمن بالحكومة الإسلامية. يقول رضي الله عنه : "والحكومة في نظر المجتهد الحقيقي هي الفلسفة العملية لكل الفقه في جميع أبعاد حياة الإنسان، والحكومة تمثل الجانب العملي للفقه في تعامله مع جميع المشكلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية".
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى هذه النظرة الثاقبة في تحديد حقيقة الفقه والاجتهاد ودوره العملي في حياة الإنسان، وتحديد خصوصيات المجتهد الحقيقي والمرجع الذي نقلّده، فبه مصيرنا في الدنيا والآخرة.
اللهم اقشع عن بصائرنا سحاب الارتياب. واكشف عن قلوبنا أغشية المرية والحجاب حتى نرى الحق حقّا فنتبعه ونرى الباطل باطلاً فنجتنبه واجعلنا من المهتدين.