تحدثنا في الحلقة الماضية عن مقام الإمامة في القرآن الكريم، وأنها أعظم من النبوة باعتبار الحقيقة والواقع، وباعتبار عظيم خطر المهمة الإلهية التي يضطلع بها. ثم أتينا بالإجمال على ذكر بعض الخصائص الأساسية للإمام، ومنها العصمة، والمستفادة من القرآن الكريم، وفهم حقيقة الإمامة.
في هذه الحلقة نتعرض إلى عصمة الإمام بشيء من التفصيل نظراً لأهمية الموضوع.
* العصمة قوة باطنية ولكن؟
عندما تحدثنا عن عصمة الأنبياء في حلقة سابقة، ذكرنا هناك أن:
العصمة قوة باطنية أو ملكة في نفس المعصوم تصونه من الوقوع في الخطأ أو المعصية، ولكن ما هي حقيقة هذه القوة الباطنية؟
لتوضيح ذلك نقول:
يوجد في الإنسان ملكات نفسانية وقوى باطنية تحدّد الوجهة التي يتولاها والهيئة التي تكون عليها أفعاله الصادرة منه. فالشجاع، أي الشخص الذي لديه ملكة الشجاعة، لا يهاب من عظائم الأمور ولا ترتعد فرائصه عند مواجهة المخاطر، بل يقف أمامها ثابت الجنان مطمئن البال، بخلاف الرعديد الجبان، الفاقد لهذه الملكة الفاضلة.
وهكذا سائر الملكات الفاضلة كالعفة والكرم والعدالة وغيرها التي يصدر عنها نوع من الأفعال مغاير تماماً لما يصدر عن مقابلاتها. والملكات النفسانية هذه نوع من العلم يحصل للإنسان بالمجاهدة العملية والمواظبة على الأعمال المناسبة لها، تماماً كما تحصل العلوم والإدراكات النظرية من خلال الدراسة والمذاكرة.
فالإنسان الذي يخشى الوحدة والظلام يمكن له بالمجاهدة والتعوّد على العيش وحيداً في الأماكن المظلمة، ولو لفترات قليلة، أن يتخلص شيئاً فشيئاً من هذا الخوف. وشارب الدخان إذا وضع لنفسه برنامجاً للإقلال من التدخين ومن ثم للإقلاع عنه، فإنه يلاقي صعوبة في بداية الأمر، إلا أن ذلك يسهل عليه في نهاية المطاف وتصبح لديه ملكة عدم التدخين.
* بين العدالة والعصمة
العصمة والعدالة كلاهما من القوى الباطنية والملكات النفسانية التي يمكن أن يتصف بها الإنسان، وهما معاً تصونان الإنسان عن الوقوع في الخطأ أو المعصية، إلا أن ثمة فارقاً أساسياً بينهما ينبغي ملاحظته.
إن العدالة ملكة من نوع العلوم العملية الاكتسابية، أي العلوم العملية التي تحصل للإنسان بمجاهدة النفس في ترك المعاصي وأداء الواجبات، ولذلك لا يمكن الحكم بامتناع صدور المعصية من الشخص العادل، بل قد تصدر منه المعصية وتزول بذلك ملكة العدالة من أساسها. نعم قد ترجع بالإنابة والتوبة النصوح.
أما العصمة فهي نوع من العلوم اللدنية التي يمتنع معها صدور المعصية. فالمعصوم يحصل على علم يقيني تام يفاض عليه بالإلهام الإلهي الخفي والتعليم اللدني من خلال الإلقاء بالقلب، كما في الحديث الشريف "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده".
ومعلوم أن قوة الملكة وشدتها تابع لقوة العلم وشدته، ولما كان هذا العلم يقيني تام، فهو مانع من الضلال مطلقاً ويصون صاحبه عن الوقوع في الخطأ أو المعصية. يقول الإمام الخميني قدس سره في الأربعون حديثاً- الحديث الواحد والثلاثون:
"العصمة هي حالة نفسية، وأنوار باطنية تتفجر من نور اليقين الكامل والاطمئنان التام. إن مصدر جميع الخطايا والمعاصي التي تصدر من الإنسان هو النقص في اليقين والإيمان، وإن مراتب اليقين والإيمان مختلفة بدرجة لا يمكن عدّها وبيانها.
وإن اليقين الكامل والاطمئنان التام الذي يحظى به الأنبياء، والحاصل من المشاهدة الحضورية، هو الذي يعصمهم من الآثام".
وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى عن أهل بيت العصمة والطهارة. فعن الإمام الرضا عليه الصلاة و السلام: "وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً فلم يغير بعده بجواب ولا يحيد فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد، موفق مسدّد، قد أمن الخطايا والزلل والعثار...".
وورد عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام في وصف حجج الله تعالى: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين..." وغير ذلك من الروايات الشريفة.
* العصمة لا تنافي الإرادة والاختيار
لا يخفى على اللبيب أن العصمة بهذا المعنى لا تنافي الإرادة والاختيار البتة، بل هي تؤيدهما وتؤكدهما. إذ أن أهم مقدمات الفعل الإرادي الاختياري هو العلم، فالإنسان يعلم بمصلحة ما له في الفعل الفلاني فيختاره ويريده، وما لم يعلم ويقطع بالمصلحة فلا يختار ولا يريد بل يبقى حائراً متردداً. ولما كانت العصمة نوع من العلم، وهو يقيني تام، فقوة هذا العلم وشدته لا توجب إلا قوة الإرادة والإختيار وشدتهما، لا أنها تلغيهما وتنفيهما.
ويؤيد ذلك الأوامر والنواهي التي كانت تُوجَّه بلسان القرآن إلى الأنبياء المعصومين، كقوله تعالى ﴿...وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾. الأنعام- 88، وقوله تعالى مخاطباً الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الزمر- 65 ولو كانت العصمة توجب الإجبار والاضطرار لما صح النهي عن الشرك والوعيد عليه بإحباط العمل.
* بيان في عصمة الإمام
إن الوقوف على حقيقة الإمامة كاف لإثبات عصمة من يختاره الله تعالى لهذا المنصب الخطير، فالإمام هو القدوة حيث يقتدي به الناس ويتبعونه في أقواله وأفعاله، والمعصية منه توجب إتباع الناس له في ذلك وهذا غير معقول في حكمة الله تعالى ولطفه.
والإمام مؤيد من الله بروح القدس والطهارة، ومسدّد بقوة ربانية تلهمه العلم إلهاماً وتجعل يقينه أعلى مراتب اليقين. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ الأنبياء- 73 فكيف تأتي منه المعصية؟!
والقرآن بعد ذلك زاخر بالآيات التي يستفاد منها وجوب العصمة للإمام، وهنا نذكر بعضاً منها.
1- يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ النساء- 59.
فالآية تدل على افتراض طاعة أولي الأمر دون قيد أو شرط. حيث جمعت بين الرسول وأولي الأمر وذكرت لهما طاعة واحدة. وفي المقابل ورد أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وقال تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف- 28.
فلو جاز على الإمام، وهو مصداق أولي الأمر، المعصية فمن الواضح أنه لا طاعة له في ذلك، بل يجب الإنكار عليه ونهيه عنها. وهذا يناقض وجوب طاعته مطلقاً وكون طاعته عين طاعة الرسول.
وبتعبير آخر، لو جاز على الإمام المعصية لم يأمر الله تعالى بطاعته مطلقاً، ولما كان الله تعالى قد أمر بالطاعة المطلقة له فهذا دليل على وجوب كونه معصوماً ولا تصدر منه معصية.
2- ويقول تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة- 124.
وهذا دليل قرآني آخر على عصمة الإمام، فالظلم في المفهوم القرآني لا يختص بالاعتداء على الآخرين وسلب حقوقهم، بل يتسع ليشمل كل المعاصي، فالشرك مثلاً ظلم لقوله تعالى حاكياً عن لقمان وهو يعظ ولده: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان- 13.
وقد قسم أمير المؤمنين عليه السلام الظلم فقال:
"ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب".
"فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
"وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات".
"وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً".
وعليه فالمعصوم هو المنزه عن كل ألوان الظلم، والمتلبّس بأي نوع من أنواع الظلم لا يكون معصوماً.
وبالعودة إلى الآية الشريفة، فهي تنفي أن تكون الإمامة، والتي هي عهد الله، من نصيب الظالمين. فالظالم لا يمكن أن يكون إماماً مطلقاً، أما غير الظالم، وهو المعصوم، فيمكن له ذلك وإن لم يكن على نحو الضرورة.
ينقل العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان كلام لطيف لبعض العلماء حول الآية الكريمة وهذا توضيحه:
إن الإنسان المرشح للإمامة، من خلال سؤال إبراهيم عليه الصلاة و السلام، لا يخلو من أربعة أوجه:
1- أن يكون ظالماً في جميع عمره قبل الإمامة وبعدها.
2- أن لا يكون ظالماً في جميع عمره.
3- أن يكون ظالماً في أول عمره ولكنه صالح في آخره وخصوصاً عند تولّي الإمامة.
4- أن يكون غير ظالم في أول عمره ولكنه يصبح كذلك في آخره بعد تولي الإمامة.
ومن المؤكد أن الاحتمالات في الأول والأخير ساقطان عند نبي الله إبراهيم عليه الصلاة و السلام أفهو أجلّ شأناً من أن يسأل الإمامة لمن هو ظالم في جميع عمره أو في آخره أثناء تولي الإمامة.
فالمرشح للإمامة عند إبراهيم عليه الصلاة و السلام اثنان: الظالم في أول عمره دون آخره وهو الاحتمال الثالث، أو من لم يكن ظالماً مطلقاً بل هو معصوم في جميع عمره وهو الاحتمال الثاني، والجواب الإلهي "لا ينال عهدي الظالمين" أتى نفياً للاحتمال الثالث، فالإنسان الظالم في أول عمره، حتى وإن تاب عن ظلمه، وهذا خير له في حد ذاته، إلا أنه لا يليق بالإمامة وهو مدفوع عنها.
وخلاصة الأمر أن المرشح الوحيد المقبول لدى الله سبحانه وتعالى لمنصب الإمامة ينبغي أن يكون معصوماً في جميع مراحل حياته، من أولها حتى آخرها.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته. وكم ذا وأين أولئك"؟!
"أولئك والله الأقلون عدداً والاعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حجبه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه.
آه. آه شوقاً إلى رؤيتهم".