ما يزال حديثنا يدور حول مسائل النبوة، حيث تطرّقنا في الحلقات الماضية لإثبات ضرورة النبوة، وضرورة وجود طرق واضحة لمعرفة النبي الصادق من المدعي، وانتهى بنا المقام إلى إثبات نبوة خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم من خلال معجزته الخالدة القرآن الكريم.
في هذه الحلقة، نتناول مسألة أخرى نختم بها الحديث عن مسائل النبوة، عنيت بها عصمة الأنبياء.
من الميزات اللامعة التي يتفرد بها مذهب أهل البيت عليهم السلام تنزيه الأنبياء العظام عن المعاصي والذنوب، كبيرة كانت أم صغيرة، في جميع مراحل حياتهم وعلى كل المستويات وفي المقابل ترى أن أصحاب الأديان والمذاهب الأخرى يضعون من مقام أنبيائهم ويهبطون بهم إلى مستوى تحسن عنده صور الفسّاق والمجرمين.
يشهد بذلك قصص الأنبياء المروية في التوراة والإنجيل المتعارفة، والقصص المروية عن غير طريق أهل البيت ولا حاجة بنا لذكرها. وقد حاول بعضهم أن يستشهد بآيات من القرآن الكريم للاستدلال على وقوع المعصية من الأنبياء، إلا أن علماء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصدوا لهم وفندوا كل التهم والافتراءات الموجهة ضد الأنبياء عليهم السلام، وكان خير ما حرّر في هذا المجال كتاب "تنزيه الأنبياء" للسيد المرتضى رضوان الله تعالى عليه.
ونحن في هذه الحلقة سوف نلتزم بالاستدلال العقلي والنقلي أحياناً على ضرورة عصمة الأنبياء دون الخوض في الآيات المتشابهة مرجئين ذلك إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
* ما هي العصمة:
يقال عصم الشيء: منعه. وعصمه من المكروه أو الخطأ: حفظه ووقاه. فالعصمة هي الحفظ والوقاية من الوقوع في المكروه أو الخطأ. ويكون ذلك من خلال ملكة أو قوة باطنية في نفس المعصوم مع تمكنه من المعاصي. وبتعبير آخر:
العصمة هي ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.
ويظهر من التعريف أن النبي المعصوم لا يكون مجبراً على ترك المعصية- وإلا- فلا يكون له فضل في تركها، لأن المجبر على ترك المعاصي والذنوب لا يستحق فضلاً ولا مدحاً ولا ثواباً على تركه هذا ولذلك نعتقد أن النبي قادر على فعل المعصية ولا يفعلها، ليس لأنه مجبر على ذلك بل لأنه مؤيد بملكة العصمة التي تحفظه من الوقوع في المعصية.
وقد يقول قائل: لماذا ميِّز الله تعالى مجموعة خاصة من البشر ومنحها ملكة العصمة. ولم يجعل الآخرين معصومين كذلك. أليس ذلك منافياً للعدل الإلهي؟
وجوابه أن الله تعالى لم يميز الأنبياء عليهم السلام بالعصمة عن الآخرين اعتباطاً، بل أن رحمته وسعت كل شيء، وهو يدافع عن الذين آمنوا، كل المؤمنين، في الدنيا والآخرة، ويخرجهم من الظلمات إلى النور وقد وعد الذين يجاهدون فيه أن يهديهم الصراط المستقيم ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأن الله لمع المحسنين﴾ (العنكبوت/69).
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فيحفظهم ويجعلهم من المخلصين الذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم ﴿إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار﴾ (ص/46).
فكل من يؤمن بالله ويجاهد في سبيله ويكر من ذكر الدار الآخرة وأحوالها سوف يكون من المخلَصين الذين يقول الشيطان في حقهم ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلَصين﴾ (ص82/83) فالأمر ليس مخصوص بالأنبياء، بل كل إنسان يُسلم وجهه لله تعالى ويخلص نفسه وعمله لله ويخرج من الأنانية وحب النفس ورؤيتها، يكون معصوماً ولا يقع في معصية. إلا أننا نقول إن الله تعالى لا يختار أنبياءه إلا من بين هؤلاء للأسباب التي سنتعرض لها فيما يأتي.
ينقسم الحديث في عصمة الأنبياء إلى مقامات ثلاث:
1- العصمة في مقام التلقي.
2- العصمة في مقام التبليغ.
3- العصمة في مقام العمل.
وقد اتفق المسلمون، إلا ما شذ وندر، على وجوب عصمة النبي في مقامي التلقي والتبليغ، حيث أن الحكمة الإلهية التي اقتضت إرسال الأنبياء لهداية الناس وتربيتهم من خلال الشريعة الإلهية، تقتضي أن يتعرّف الناس على الشريعة كما هي منزلة من عند الله تعالى دون أن يلحق بها تغيير أو تحريف.
ولما كان النبي هو الواسطة بين الله تعالى والناس، فهو الذي يتلقى الشريعة من الله، وهو الذي يبلغها للناس، وجب أن تكون هذه الواسطة معصومة حتى لا يحصل الخطأ في عملية إيصال الشريعة إلى الناس. وما لم نطمئن إلى أن الخطأ لا يتسلل في هذه المراحل (التلقي والتبليغ) فإن الحجة لا تتم على الناس وهو ما ينافي الحكمة الإلهية.
فالوحي منذ صدوره وحتى إبلاغه للناس مصون عن الخطأ والاشتباه، والأنبياء معصومون في تلقي الوحي وإبلاغه.
والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في كثير من آياته، ففي سورة الحاقة يقول تعالى: ﴿ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين﴾ (الحاقة: 44/47).
إن الحكمة الإلهية تقتضي أن يكون الأنبياء معصومين في مقامي التلقي والتبليغ حتى لا يتسلل الخطأ إلى الشريعة الإلهية.
وفي سورة الجن أيضاً يقول تعالى: ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول...﴾ (الجن: 26/27).
والأمر بالطاعة المطلقة للرسول، كما في الآية 64 من سورة النساء ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾، يفيد وجوب عصمة الرسول. إذ لو كان الرسول يضيف شيئاً من نفسه أو يخطئ في تبليغ ما أوحي إليه لما وجبت طاعته في ذلك، بينما الأمر بطاعته مطلق، فيعلم من ذلك أن ما بينه هو مورد رضا الله سبحانه وتصديقه.
واختلف المسلمون في مسألة عصمة الأنبياء في مقام العمل، حيث ذهبت بعض الفرق الإسلامية إلى أن الأنبياء وإن كانوا معصومين في تبليغ الرسالة، كما دل عليه البرهان المتقدم، إلا أنهم قد لا يعملون بمحتوى رسالتهم ويلتزمون بها، فهم يقولون ولا يفعلون في بعض الأحيان.
أما الشيعة فإنهم يعتقدون بعصمة الأنبياء في جميع الحالات، وأنهم لا يمكن أن يقوموا بمعصية حتى قبل النبوة، فهم معصومون منذ بدء ولادتهم وإلى وفاتهم عن جميع الذنوب الصغيرة والكبيرة. ويدل على ذلك أمور منها:
1: الحاجة إلى المربي:
إن الهدف الرئيسي من بعثة الأنبياء هو التربية والهداية، ولا يخفى أنه في عملية التربية يجب أن يتوفر الجانب العملي في المربى فإنه أكثر تأثيراً من الجانب الوعظي والإرشادي.
فالسلوك القويم للمربي والممارسة العملية المستقيمة لأقواله وإرشاداته يمكنها أن توجد تحولات عميقة الأثر في حياة الإنسان، وذلك لأن مبدأ المحاكاة- وهو من المبادئ النفسية المسلمة- يدفع الإنسان لأن يحاكي شيئاً فشيئاً ذلك السلوك الأمثل للمربي ويتخلق بأخلاقه ويسلك طرائق سلوكه.. حتى تتحول نفسه إلى نفس شفافة تتقبل الألوان التربوية كما يتقبل سطح الماء الصافي الرقراق انعكاسات السماء الصافية الزرقاء.
إن القول وحده لن يستطيع أن يقوم بعبء الدور المفروض في المجال التربوي وإنما نحتاج في عملية التربية الكبرى للبشرية وهي سر بعثة الأنبياء- إلى أن يكون الأنبياء ذوي صفات خاصة وسلوك متميز طاهر من أن تشوبه معصية أو اشتباه، وذلك لكي يستطيعوا أن يقودوا العالم إلى الهدف المقدس ويسيروا به بالعدل والخير نحو السعادة.
ومن هنا نفهم سر كون الأنبياء بشراً مثلنا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولماذا لم يستجب الله تعالى لطلب المعارضين بإرسال الملائكة فيقول تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾ (الأنعام/9). فالملائكة لا يمكن أن تشكل الأسوة والقدوة التي تربي البشر لأنها خارجة عن دائرة التكليف والامتحان الإلهي.
أما النبي فلما كان ﴿إنما أنا بشر مثلكم﴾ (الكهف/110) فهو أسوة حسنة ومثالاً يحتذي به الناس إلى الصراط المستقيم.
إن سر التقدم الرائع للأنبياء يكمن في مطابقة أقوالهم لأفعالهم. فاللَّه تعالى لا يختار لوحيه ورسالته ﴿إلا من ارتضى من رسول﴾ (الجن/27) وهو لا يرتضي من يقول ولا يفعل. ﴿كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾ (الصف/3) ولذلك كان أئمة أهل البيت عليهم السلام يدعون شيعتهم ليكونوا دعاة بغير ألسنتهم بل بأعمالهم.
ولما كان عمل الرسول لا يقل شأناً عن قوله، أصبح الفعل مثل القول حجة على البشر ودليلاً على الحكم الشرعي ومصدراً من مصادر التشريع الإلهي. فالسنة النبوية الشريفة هي قول الرسول وفعله وتقريره، وهي أحد أهم مصادر الفقه الإسلامي إلى جانب القرآن الكريم.
ب: التقبل والاطمئنان:
كلَّما كان إيمان الناس بالقائل وثقتهم به أكبر، كان مدى تقبّلهم لدعوته واستجابتهم لها أفضل.
إن إرسال شخص يدعو الناس لعبادة الله تعالى وطاعته وترك معصيته ونبذ عبادة الأصنام، فلو كان هذا الشخص يفعل المعصية ويعبد هواه من دون الله لتنفرت منه الناس كما تتنفر من الكاذب عندما يدعو للصدق، ومن الظالم عندما يدعو للعدل. فالطبع البشري لا يتقبل هذا النوع من الدعاة المخالفين لما يدعون إليه.
ولهذا فإن الأنبياء يجب أن يكونوا بطريق أولى متحلّين من الذنوب والمعاصي، لأنهم المبلغون لأوامر الله، والمانعون من تردّي الناس في هوَّة الذنوب والتلوّث بالمعاصي، فيتقبل الناس أقوالهم بثقة أكبر ويسعون في سبيل إنزال برامجهم الحياتية وأوامرهم الإصلاحية إلى مجال التطبيق، ويعتقدون من أعماق قلوبهم بأن الأنبياء قادتهم وأئمتهم. وذلك يؤمن السير على طريق الهدف من بعثة الأنبياء، وهو هداية الناس نحو التكامل في جميع جوانب الحياة الإنسانية، وبدون ذلك لن تتحقق الحكمة من بعثة الأنبياء ولا يمكن تحقق شيء خلاف الحكمة والرحمة الإلهية.