زهرة بدر الدين
يمثّل الشكر أحد أهمّ مظاهر الإيمان لدى الإنسان، فيما يعتبر الكفران للنعم مظهراً للكفر، فكيف يخرج الإنسان عن الإيمان إذا مارس بعض السلوكيات الـمـــنـافــيـة للشــكـر؟ وكيف يكون الصبّر متلازماً مع الشكر؟
*الشكر وأهميته
"الشكر هو تصوّر النعمة وإظهارها، وقيل هو مقلوب عن الكشر أي: الكشف، ويضاده الكفر، وهو: نسيان النعمة وسترها"(1).
والشكر والشاكر والشكور اسم من أسماء الله تعالى، فقد ورد في القرآن الكريم:﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ (التغابن: 17)،
وورد في دعاء الجوشن الكبير "يا خير شاكر ومشكور".
فللشكر أهمية خاصة نابعة من الاسم المبارك، وله ارتباط بالنعم العديدة التي لا تُحصى، وورد أن الشكر بحدّ ذاته نعمة تستحق الشكر.
ولا يتحقّق الشكر الحقيقي إلّا بمعرفة أن كلّ النعم هي من الله تعالى، وأنه هو المنعم وكل ما دونه إنما هم وسائط مسخّرات من قبله تعالى. ومما سأل موسى عليه السلام ربه في مناجاته: "إلهي خلقت آدم بيدك، وأسكنته جنتك، وزوجته حوّاء أمتك، فكيف شَكَرك؟ فقال: عَلِم أن ذلك مني فكانت معرفته شُكراً"(2).
وهو بذلك يعتبر من أفضل منازل الأبرار وهو موجب لدفع وازدياد النعمة، فورد الترغيب به وعُدَّ تركه كفراناً للنعم، يستوجب نزول البلاء ونقصاً في الأموال والنعم، كما قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة: 152).
*العلاقة بين الشكر والكفر
كل فعل يصدر عن أفعال الإنسان، إمّا أن يكون مصداقاً للشكر أو للكفر، ولا تنفك الأعمال عنهما، وهذا الكفر هنا هو ما يعبّر عنه بلسان الفقه بالكراهة.
ويعتبر كفران النعم من سمات النفوس الضعيفة والوضيعة، ودليلاً على جهل فاعله، ولهذا نرى كيف بيَّن لنا القرآن الكريم سيرة أقوام أصابهم البلاء والعذاب الإلهي في الدنيا نتيجة كفرانهم النعم الإلهية: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون﴾ (النحل: 112).
وكذا سئل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾ (سبأ: 19) فقال: "هؤلاء كانت لهم قرى متصلة، ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية، وأموال ظاهرة، فكفروا نعم الله عزَّ وجلّ وغيّروها وغيّروا ما بأنفسهم من عافية الله فغيّر الله ما بهم من نعمة، ﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11) فأرسل الله عليهم سيْل العرِم ففرّق قراهم، وخرّب ديارهم، وذهب بأموالهم، وأبدلهم مكان جناتهم جنّتين ذواتي أُكُلٍ خَمْطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نُجازي إلّا الكفور"(3).
إذاً، تغيّر النعم مرتبط بكفران النعم إلّا أنّ لكلّ كفر عذاباً وبلاءً خاصاً وعدّ "من أسرع الذنوب عقوبة" كما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام.
*منافيات الشكر
قد يُظهر الإنسان نتيجة لعدم معرفته، وأحياناً لجهله وقلّة إيمانه، سلوكيّات عدّة منافية للشكر، ويدخل بذلك تحت عنوان كفران النعم. منها:
أ - الطمع: الإنسان حريص على حب المال كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (العاديات: 8) أي المال، ونتيجة لتعلّقه بحب الدنيا فإنّه يعتبر كل ما يخرج من يده خسراناً له كالتصدّق وإعطاء ذي الرحم وغيرها، فلا يقتنع بما يملك، بل دائماً يرغب ويطمع بما في أيدي الناس لمجرد أنه لا يملكه، بغض النظر عن كونه مورِد حاجة له أم لا.
وبما أنّ الشكر الحقيقي هو استخدام النعم بما يحب الله تعالى وبما يرضى فيكون الحريص كافراً بأنعمه لأنه يمنع الإنفاق والإعطاء في سبيله والبذخ، خوفاً من خسارة ماله، وبذلك يكون الطمع سبباً لخروج الإيمان من قلبه، حيث سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن الذي يثبت الإيمان في العبد، قال: الورع، والذي يخرجه منه؟ قال: الطمع (4).
وقد حذّر الإسلام من الشعور أو حتى استشعار الطمع لما له من آثار وخيمة على الروح، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:"إياك واستشعار الطمع فإنه يشوب القلب شدّة الحرص، ويختم على القلوب بطابع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل خطيئة، وسبب إحباط كل حسنة"(5).
ب - الشكوى: الشكوى دليل على عدم الرضا بقضاء الله تعالى وبعطائه، وبالتالي فالشاكي هو ساخط ومتذمر، ومَنْ هو كذلك فهو كافر لأنعمه تعالى وغير شاكر له، مع أنّ الله تعالى لا يقدّر للعبد إلّا ما هو خير له ولا يصرف عنه إلّا ما هو شرّ له. وقد تصل الشكوى بالإنسان إلى درجة يرفض أن تُنسب النعم التي بين يديه إلى الله تعالى،
بل ينسبها إلى نفسه، فقد ورد عن جابر عن الإمام أبي عبد الله جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي على الناس زمان يشكون فيه ربهم، قلت: وكيف يشكون فيه ربهم؟ قال: يقول الرجل: والله ما ربحت شيئاً منذ كذا وكذا ولا آكل ولا أشرب إلا من رأس مالي، ويْحك! وهل أصْلُ مالك وذُروته إلّا من ربك؟!"(6).
فالإنسان عندما يرى أنّ ما في يده ناقص بالنظر إلى ما في أيدي الناس ويحب أن يكون له مثله، ويعتبر ذلك بلاءً له لأن ماله ينقص عن الآخر، فلا يصبر ويتذمر يخرج بذلك عن الإيمان. أما لو اعتبره بلاءً من الله تعالى وصبر عليه واحتسب الأمر إليه تعالى ونظر إلى مقدّرات الأمور بعين الله والمصلحة الإلهية، لا بعين العبد الجاحد الذي يرى حدود النعمة ضمن مصالحه الخاصة فقط، احتاج لذلك إلى صبر، وبهذا يكون شاكراً له تعالى.
وقد عُدّ عدم الشكوى صبراً جميلاً، فقد ورد عن جابر أنه قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: "يرحمك الله ما الصبر الجميل؟ قال: صبرٌ ليس فيه شكوى إلى الناس"(7).
يفهم من الرواية أن الشكر الحقيقي هو المعرفة الباطنية بالنعمة والرضا بقدر الله له، وعدم إظهار ما يخالف ذلك على لسان الإنسان. فهو إذا ما شكى إلى الناس اعترض ورأى أن الله غير عادل فيكون بذلك كافراً بالنعم إضافة إلى كُفره بالتوحيد الأفعالي.
وإذا ما اعتاد على الشكوى والتذمّر واقتنع القلب بعدم الرضا فإنه سينجر إلى الوقوع في مصيدة إبليس ويبتلى بالمعصية تلو المعصية، من الحسد والكُره والغيبة وحبّ الدنيا وغيرها، وقد روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "علامة الصابر في ثلاث: أولها أن لا يكسل، ثانيها أن لا يضجر، ثالثها أن لا يشكو من ربّه عزَّ وجلّ، لأنه إذا كسل قد ضيع الحق، وإذا ضجر لم يؤدّ الشكر، وإذا شكا ربّه عزَّ وجلّ فقد عصاه"(8).
*الشكر وارتباطه بالصبر
كي يكون الشّكر حقيقياً ومبنياً على معرفة بالمنعم، لا بدّ وأن يتلازم مع الصبر. فالصبر أساس في ذلك لأنه عبارة عن ضبط النفس عن المغريات والبطر والطغيان والاقتناع بما في يديه والرضا بقضائه، وبهذا يعتبر من سمات عظمة النفس وكمال العقل.
لأن في الصبر على النعم، رعاية لحقوق النعم، إذ لكل نعمة حق من خلال استخدامها بما أمر الله تعالى، كطريقة إنفاق المال وأن يكون للفقراء سهم منه، أو لذي رحم، وكذا الابتعاد عن الإسراف والتبذير، وهذا ما يحتاج إلى صبر كي لا ينزلق في مزالق البطر والطغيان والطمع والحرص. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "يقول الله تعالى: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له فليرضَ بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، أكتبه يا محمد من الصدّيقين عندي"(9).
فالصبر على البلاء والمعصية هو شكر لله تعالى، باعتبار أن أداء الطاعة وترك المعصية شكر له، وكذا الصبر على المصائب والشدائد يستلزم الشكر، لأن في المصائب الدنيوية مصالح للعباد، وبذلك تكون نعماً تستدعي الشكر. ولهذا جاء في الدعاء: "يا من لا يحمد على مكروه سواه".
لا تكون النعم دائماً بناءً على رغبة وميل النفس وإنما حسب المصلحة التي يراها الله لعباده، ولذلك كلما صبر العبد وشكر الله تعالى كلما زاده الله نعماً: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾ (إبراهيم: 7)".
وأما عدم الصبر، والتذمّر، والشكوى وغيرها من السلوكيات المنافية للشكر، فهي تقع في سلسلة كفران النعم، وبالتالي تكون سبباً في العذاب الإلهي أو النقمة أو سلب للنعم التي يمتلكها.
إذاً، كل نعمة تستوجب شكراً من الله تعالى، وبذلك تكون سبباً للزيادة، وكفران النعم يكون سبباً للنقمة والعذاب والبلاء، تماماً كما ابتلى أقواماً كفروا بأنعم الله. وللكفران مظاهر عدة منها الشكوى، والطمع، والبخل، والاعتراض وعدم الرضا وغيرها، وبالأحرى كل سلوك يستبطن جهلاً بالله وبنعمه.
1.مفردات ألفاظ القرآن الكريم، الراغب الأصفاني، ص461.
2.جامع السعادات، النراقي، ج3، ص235.
3.أخلاق أهل البيت،السيد مهدي الصدر، ص165.
4.الكافي، الكليني، ج1، ص323.
5.بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص183.
6.ميزان الحكمة، الريشهري، ج5، ص170.
7.بحار الأنوار، م.س، ج71، ص83.
8.م.ن، ج71، ص86.
9.م.ن، ج72، ص33.