الشيخ حسن أحمد الهادي (*)
اشتهر على الألسن وفي كتب الأخلاق أنّ الشكر عبارة عن تقدير نعمة المنعم. وتظهر آثار هذا التقدير في القلب في صورة، وعلى اللسان في صورة أخرى، وفي الأفعال والأعمال بصورة ثالثة. أما آثاره القلبية فهي من قبيل الخضوع والخشوع والمحبة والخشية وأمثالها. وأمّا آثاره على اللسان، فالثناء والمدح والحمد، وأمّا آثاره في الأعضاء فالطاعة واستعمال الجوارح في رضا المنعم وأمثاله.
*معنى الشكر
وللوقوف على المعنى الدقيق للشكر من المناسب الوقوف على ما طرحه اللغويون وعلماء التفسير والأخلاق والعرفان من معنى للشكر بما يناسب حدود هذا المقال.
يرى اللغويون أنّ الشكر عبارة عن تصوّر النعمة وإظهارها. ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها. والشكر ثلاثة أضرب:
شكر بالقلب وهو تصور النعمة, وشكر باللسان وهو الثناء على المنعم, وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها(1).
ويذهب علماء التفسير إلى أنّ حقيقة الشكر إظهار النعمة، وهو استعمالها في محلّها الذي أراده منعمها، وذكر المنعم بها لساناً وهو الثناء، وقلباً من غير نسيان. فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يُذكر عند استعمالها ويوضع النعمة في الموضع الذي أرادها الله له من النعمة، ... فيكون شكره على نعمته أن يُطاع فيها ويذكر مقام ربوبيّته عندها(2).
بينما يعتبر الإمام الخميني قدس سره أنّ ما ذكره المحقّقون في الشكر مبني على المجاز والمسامحة، لأنّ الشكر لا يكون نفس المعرفة بالقلب، والإظهار باللسان، والعمل بالأعضاء والجوارح، بل هو حالة نفسيّة ناجمة عن معرفة المنعم والنعمة، وأنّ هذه النعمة من المنعم، وتُنتج من هذه الحال الأعمال القلبية - القالبية العمل بالجوارح(3).
*أشرف الأعمال
فإنّ تصوّر النعمة من المنعم، ومعرفة أنّ هذه النعمة منه، هو الشكر بعينه, كما عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: "أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حقّ شكري، فقال: يا رب كيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ فقال: يا موسى شكرتني حقّ شكري حين علمت أنّ ذلك مني"(4).
وهو ما أشار إليه المحقّق الطوسيُّ بقوله: الشكر أشرف الأعمال وأفضلها، واعلم أنَّ الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنيّة وله أركان ثلاثة منها: معرفة المنعم وصفاته اللائقة به، ومعرفة النعمة من حيث إنّها نعمة، ولا تتمُّ تلك المعرفة إلّا بأن يعرف أنَّ النعم كلّها جليّها وخفيّها من الله سبحانه وتعالى وأنّه المنعم الحقيقيُّ وأنَّ الخلق كلّهم منقادون لحكمه مسخّرون لأمره...(5).
*التربية على الشكر
للحديث عن الشكر مستند قوي في الدين الإسلامي، إذ ورد ما يقرب من سبعين آية كريمة ذكرت كلمة الشكر، وهو ما يصلح لإجراء دراسة تربويّة وأخلاقيّة كاملة في الموضوع. والأهم هنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام - التزاماً بما جاء في القرآن الكريم - قد عمدوا إلى تربية المجتمع على الشكر وفق منهج قوامه أركان ثلاثة:
أوّلاً: إنّ شكر الله واجب على العبد كأنّه أمانة أو دين يجب حفظه وأداؤه للمنعم على قاعدة وجوب شكر المنعم، فإنّ كل إنسان يعرف بالفطرة لزوم شكر المنعم مع الغض عن معلوميّة ذاته بسبب الأديان والشرايع السماوية. وقد ورد في الصحيفة السجادية هذا المعنى نفسه بقوله عليه السلام: "وألهمنا من شكره"(6)، أي أنّ الله قد ألقى في قلوبنا وجوب شكره.
ثانياً: إنّ الشكر حالة مستمرّة؛ بمعنى وجوب المداومة عليه في آناء الليل والنهار، وهو ما حرص أئمة أهل البيت عليهم السلام على تأكيده في مجموعة من الأدعية. فقد ورد في الصحيفة السجادية: "وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هذا ولَيْلَتِنَا هذِهِ وَفِي جَمِيعِ أيّامِنَا لاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ وَهِجْـرَانِ الشَرِّ وَشُكْـرِ النِّعَمِ"(7)، وفي مورد آخر يقول عليه السلام: "وَامْلأ لَنَا مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ حَمْداً وَشُكْراً". والمراد بطرفيه: أوّله وآخره وهو كناية عن جميعه، والغرض طلب الكثرة من الشكر بحيث لا يخلو آن من آناء اليوم منه، فالشكر بهذا المعنى فعل ينبىء عن استمرار تعظيم المنعم على النعمة، فيصرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من السمع والبصر وغيرهما إلى ما خلقه الله لأجله.
ولهذا يتحول الشكر إلى فوز كما ورد عن الإمام السجاد عليه السلام في دعائه بقوله: "يا مَنْ ذِكْرُهُ شَرَفٌ لِلذَّاكِرِينَ وَيَا مَنْ شُكْرُهُ فَوْزٌ لِلشَّاكِرِينَ"(8).
ثالثاً: الشكر باب دائم للحصول على النعم الإلهية: إنّ الإنسان المنعم يتوقّع الشكر من الطرف الآخر، أو ربّما يحتاجه في بعض الأحيان، سواء كان احتياجاً مادياً أو معنوياً. ولكن الباري تعالى، هو الغني عن العالمين، حتى ولو كفر الناس جميعاً، فهو لا يحتاج لشكرهم، ومع ذلك فقد أكّد سبحانه على الشكر، فمثله كمثل باقي العبادات،
ونتيجته تعود على الإنسان نفسه، وإذا ما دقّقنا النظر قليلاً فسندرك أنّ الإنسان إذا قدّر النّعم الإلهية سواء كان ذلك بالقلب أم باللسان أم بالعمل، فهو يستحق تلك النعمة، والله تعالى هو الحكيم لا يسلب النعمة من مستحقّها، فعندما يشكر الإنسان النّعم فلسان حاله يقول إنّني مستحق للنّعم، وحكمة الباري لا توجب له النعمة فقط، بل تزيده أيضاً.
*بالشكر تدوم النّعم
وهذا ما نفهمه من الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "بالشكر تدوم النعم، وبالكفر زوالها، وخير القول أصدقه"(9).
وعنه عليه السلام: "ثَمَرَةُ الشُّكرِ زِيادَةُ النِّعَمِ"(10).
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَكْتُوبٌ فِي التُوراةِ الشُّكرُ مِنَ النِّعَمِ عَلَيكَ، وَأَنعِم عَلى مَنْ شَكَرَكَ فَإنَّهُ لا زَوالَ لِلنَّعمـاءِ إِذا شُكِرَتْ وَلا بَقـاءَ لَهـا إِذا كُفِرَتْ"(11).
وعلاوةً على ذلك عندما يتم غرس روح الشكر عند الإنسان، فتصل إلى شكر المخلوق مقابل ما يؤدّيه من أعمال حسنة وجيّدة، يكون سبباً مؤثّراً في حركة المجتمع بكل ما يملك من موارد وطاقات تجاه بعضه بعضاً، وهو ما ينمي النعم في أيدي الناس ويساهم في ديمومتها وبقائها.
وإنّ الشكر قيد للنعم، يبقيها ويحفظها من الزوال، وهذا من أعظم آثار الشكر وثماره، فإنّ الإنسان يحب بقاء النعم التي هو فيها ويكره زوالها. وقد دلّت النصوص على أن الشكر سبب لبقاء النعم، وكفرها سبب في زواله، فقال تعالى:﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ (إبراهيم: 7).
*من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة
ومن آثار الشكر الجزاء الذي قال الله تعالى عنه: ﴿وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين﴾ (آل عمران: 144)، و﴿وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِين﴾ (آل عمران: 145).
أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم، فالمولى أطلق جزاء الشاكرين فلم يقيّده بشيء.
وعليه يمكن القول: إنّ أهل البيت عليهم السلام قد رسموا لنا في منهجهم التربوي معادلة واضحة مفادها أنّ دوام النعم وبقاءها مسبّب عن دوام الشكر للمنعم واستمراره في آناء الليل والنهار. أي أنّ دوام الشكر مستلزم لدوام النِّعم وكثرتها،
روي عن الإمام أبي عبدالله عليه السلام قوله: "من أعطي الشكر أعطي الزيادة يقول اللَّه عزَّ وجلّ:﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾". و"ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهراً بلسانه فتم كلامه حتى يؤمر له بالمزيد"(12).
ومن أجمل ما ورد في التعبير عن هذه المعادلة أنّ الشكر شجرة برّ، والتوفيق من أنوارها، والزيادة في النعمة من ثمارها تسقيها سماء الهداية بسحابها، وتغذوها أرض الرعاية بسائل شعابها، وتجنيها يد البركة ببنانها، ويحرزها حرز السعادة في مكانها(13).
وعندما ننظر بعمق إلى هذه المعادلة نعي أنّه من القضاء المحتوم والسنة الإلهية الجارية التلازم بين الإحسان والتقوى والشكر في كل قوم وبين توارد النعم والبركات الظاهرية والباطنية ونزولها من عند الله إليهم وبقائها ومكثها بينهم ما لم يغيّروا كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾(الأعراف: 96). هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم ودوام النعمة عليهم.
*آثار الشكر في الدراسات البشرية
أثبت العديد من الدراسات أنّ للشكر تأثيراً مذهلاً في حياة معظم الناس، وأنّ الشكر طريقة قوية ومؤثّرة حتى عندما يقدم لك أحد معروفاً صغيراً فإنّك عندما تشكره تشعر بقوة في داخلك تحفّزك للقيام بالمزيد من الأعمال الخيرة. وفي دراسة حديثة تبيّن أنّ الامتنان والشكر يؤديان إلى السعادة وتقليل الاكتئاب وزيادة المناعة ضد الأمراض!
ولقد قام العلماء بتجارب كثيرة لدراسة تأثير الشكر على الدماغ ونظام المناعة والعمليات الدقيقة في العقل الباطن، ووجدوا أنّ للشكر تأثيراً محفّزاً لطاقة الدماغ الإيجابية، ما يساعد الإنسان على مزيد من الإبداع وإنجاز الأعمال الجديدة. كما يؤكّد بعض الدراسات أنّ الامتنان للآخرين وممارسة الشكر والإحساس الدائم بفضل الله تعالى يزيد من قدرة النظام المناعي للجسم!
*الشّاكر أكثر تفاؤلاً
كما يؤكّد الباحثون في علم النفس أنّ الشكر له قوة كبيرة في علاج المشاكل، لأنّ قدرتك على مواجهة الصعاب وحل المشاكل المستعصية تتعلّق بمدى امتنانك وشكرك للآخرين على ما يقدّمونه لك. ولذلك فإنّ المشاعر السلبية تقف حاجزاً بينك وبين النجاح، لأنّها مثل الجدار الذي يحجب عنك الرؤية الصادقة،
ويجعلك تتقاعس على أداء أي عمل ناجح. فعندما تمارس عادة "الشكر" لمن يؤدّي إليك معروفاً فإنّك تعطي دفعةً قويةً من الطاقة لدماغك ليقوم بتقديم المزيد من الأعمال النافعة، لأن الدماغ مصمّم ليقارن ويقلّد ويقتدي بالآخرين وبمن تثق بهم. ولذلك تحفّز لديك القدرة على جذب الشكر لك من قبل الآخرين، وأسهل طريقة لتحقيق ذلك أن تقدّم عملاً نافعاً لهم.
وقام فريق البحث في جامعة كاليفورنيا بدراسة الفوائد الصحية للشكر، وقد وجد بنتيجة تجاربه على الطلاب أنّ الشكر يؤدّي إلى السعادة وإلى استقرار الحالة العاطفية وإلى صحة نفسيّة وجسديّة أفضل. فالطلاب الذين يمارسون الشكر كانوا أكثر تفاؤلاً وأكثر تمتّعاً بالحياة ومناعتهم أفضل ضد الأمراض. وحتى إن مستوى النوم لديهم كان أفضل(14).
(*) مدير التحرير المسؤول في مجلة الحياة الطيبة التخصّصية.
1.مفردات ألفاظ القرآن الكريم، الرّاغب الأصفهاني، ص461.
2.الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، ج4، ص38. ويراجع مجمع البيان، ج1، ص110.
3.الأربعون حديثاً، الإمام الخميني{، حديث (الشكر)، ص381.
4.بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج13، ص351.
5.شرح أصول الكافي، المازندراني، ج8، ص291.
6.الصحيفة السجادية، الدعاء الأول، ص13.
7.الصحيفة السجادية، من دعائِهِ عليه السلام عند الصباح والمساء، ص20.
8.الصحيفة السجادية، من دعائه عليه السلام بخواتيم الخير، ص24.
9.جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه السلام، الشافعي، ج2، ص150.
10.عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص207.
11.أصول الكافي، الكليني، ج2، ص94.
12.الوافي، الفيض الكاشاني، ج4، ص346.
13.رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين، السيد علي الشيرازي، ج2، هامش ص449.