آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
تحدثت التّعاليم الدينية عن الأشخاص الذين حُرموا من نور الهداية بسبب مخالفتهم الله، ووصفتهم بالعمى. فهُم يقبعون في ظلمات المعاصي والحجب النفسانية. يقول الله تعالى في وصفهم:
﴿وَمَن كَانَ في هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 72).
فمن الواضح أن المقصود من العمى في الآية الشريفة، ليس عمى العين الظاهرية، بل عمى القلب وارتفاع حجب الأهواء والمعاصي أمام القلب والحرمان من الهداية الإلهية وإدراك الحقائق المتعالية.
*قلوب مبصرة
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
لقد تحدثت الآية الشريفة على شكل المبالغة فجاء فيها أن التي تعمى ليست أعين الرأس، بل أعين القلب. والدليل على ذلك أن أعمى البصر قد يمسك بعصاه أو يجد من يأخذ بيده ليرشده إلى الطريق وبذلك يصل إلى المقصد. أما أعمى القلب والمحروم من نور الهداية، فلا يمكن أن يجد بديلاً عن عين القلب لترشده إلى المقصد، وبالتالي سيؤول أمره إلى الانحراف والضلال والهلاك.
هناك الكثير ممن فقدوا البصر، إلّا أن قلوبهم مبصرة يشاهدون بها الحقائق التي حُرم منها الآخرون.
نقلوا أن خادماً في مدرسة مرو في طهران، كان فاقداً للبصر، كان ينهض أواسط الليل ليأخذ القرآن بين يديه ويتلو آياته. في البداية لم يكن أي شخص على خبر بالقضية، إلا أن بعض الطلاب لاحظوا الأمر، عندما كانوا ينهضون في الليل للصلاة. كانوا يشاهدونه يتلو القرآن بالنور الذي كان يخرج من عينيه على صفحات كتاب الله.
إن المبصر في نظر القرآن الكريم هو الذي يعتبر من الأمور المحيطة به والآثار التي تركها المتقدمون سواء أكانوا صالحين أم عاصين. والسامع الحقيقي هو الذي يسمع الحكم والنصائح ويعمل بها. وفي المقابل، الأعمى الحقيقي هو الذي لا يشاهد الحقائق والمحروم من نور الهداية. والأصم الحقيقي هو الذي لا يسمع النصائح والحِكَم وبالتالي هو الذي لا يفكر ولا يعقل، يتحدث الله تعالى في القرآن عن المشركين والكافرين الذين سلّموا قلوبهم للباطل:
﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 171).
* اتباع هوى النفس من عمى القلب
بناءً على الرؤية القرآنيّة فإن اتباع هوى النفس، هو سبب العمى والصمم عن استماع النصائح والكلام الحق، وسبب عدم التعقل وعدم التفكير في الحقائق والأمور التي تحمل العبر، وهو أيضاً سبب نسيان الآخرة. لذلك فإن السبيل للحفاظ على القوى الإدراكيّة سالمة والنجاة من الظلمات والوصول إلى السعادة هو في الابتعاد عن اتباع هوى النفس. والمقصود من اتباع هوى النفس، هو كون الهوى ملاك ومحرّك الإنسان في سلوكياته:
﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص: 26).
هناك بعض التكاليف التي أوجبها الله على الإنسان توافق ميوله كالصيام، مثلاً، فالإنسان يتلذّذ عندما يجلس على مائدة الطعام عند الإفطار بعد أداء فريضة الصوم. وهكذا في العديد من التكاليف الأخرى حيث يكون المحرّك الأساس هو أمر الله تعالى ولا يكون ميل القلب إلى ذاك العمل مذموماً. ولكن، يصبح اتباع الميل مذموماً، إذا كان هو المحرّك الأساس فيمارس الإنسان ما يحلو له حتى لو نهى الله تعالى عنه. الإنسان هنا يسعى لتلبية ما يريده ميله، ولا يعتني بالحلال والحرام. وبما أنه يجعل ميله في عرض ما يريده الله، لا بل قد يجعله مقدماً على ما يريد الله، فهو مبتلى بنوع من الشرك بالله. يقول الله تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 23).
* دور التقوى والعقل في معرفة الحقائق والمصالح
عندما تتكرر حالة اتباع النفس عند الإنسان وعندما تصبح سلوكياته متناسبة مع ميله، يصبح اتباع النفس ملكة لديه ومحركاً أساسياً لكافة سلوكياته، عند ذلك يصبح عاجزاً عن إدراك الحقائق، وتسيطر أهواؤه على عقله وفكره، وبالتالي يتخلف عن الفهم الصحيح. وفي المقابل، لو سيطر الإنسان على أهوائه وسلك مع الأتقياء، لفُتحت له أبواب الفهم والإدراك:
﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ (الطلاق: 2).
ويكمن السرّ في ذلك أن التقوى تؤدي إلى إدراك الإنسان للحقائق والمنافع، وبالتالي إلى ابتعاده عن الخطأ في الاختيار، ذلك أن الشخص التقي يؤدي أعماله انطلاقاً من التفكير والتعقل، بعد أن يكون قد قارن بين المصلحة والمضرّة، المترتبتين عليه، من أي عمل يقوم به، بغض النظر عن اللذائذ الزائلة. وأما إذا لم يكن الشخص تقياً وكان تابعاً لهوى نفسه، فإنه يقوم بالعمل الذي يميل إليه قلبه والذي يجد فيه لذته، ولا ينتظر حكم العقل فيه.
وعندما يستفيد الإنسان من عقله بالشكل المطلوب، لا يقوم بأعماله انطلاقاً من أحكام مسبقة، عند ذلك يكون في أعماله غير تابع لأهواء نفسه. يضاف إلى ذلك أنّ هذا الشخص سيكون أسير الوساوس الشيطانية بسبب اتباعه هوى النفس، ويعظّم له الشيطان اللّذائذ الصغيرة أمام ناظريه ويشجعه على القيام بذاك العمل: ﴿وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 43).
*الشيطان يزيّن الأعمال
يؤدي تزيين الشيطان للأعمال إلى سلب الإنسان قدرة العقل على التشخيص وتعطيل الباصرة عن رؤية الحقائق. وتشير التجارب إلى أن الإنسان قد يظن وجود لذائذ عديدة في بعض الأعمال، لذلك يأتي بالعمل إلا أنه في النهاية يجد أن لذة ذاك العمل لم تكن كبيرة، لا بل فقد الكثير من المصالح والمنافع في مقابل لَذّات قليلة.
إن اتباع هوى النفس يؤدي إلى ضلال الإنسان وانحرافه عن المسير الحق. والذي يعجز عن التسلط على هوى نفسه، يقع تحت تأثير وساوس الشيطان حتى لو أراد الإتيان بعمل إلهي، ذلك لأن محركه الأساس هو هوى النفس والشيطان، وبالتالي فهو لا يرى العيب في عمله ويظن أنه أدى عملاً صالحاً وقد عبد الله به. وأما العبد التقي المحبوب من الله تعالى والبعيد عن مصائد الشهوات والشيطان، فلا يتحرك سوى لأجل كسب رضا الله، وهو يمارس التعقل والتفكير فيدرك المصالح والمفاسد لأي عمل، ثم يأتي بالعمل إذا وجد المصالح أكبر من المفاسد.
* هداية أحباب الله وعلامات تمييز السلوك الصحيح
إذا اشتبه الأمر على الإنسان وفقد القدرة على تحديد صحة العمل أو عدم صحته أو أنه لم يتمكن من معرفة ما إذا كانت المصلحة في ذاك العمل أكبر من ضرره أم لا، وهل أنه مورد رضى الله تعالى أم لا، هنا يمكن الحديث عن علامتين تخرجانه من الشك وتظهران له الحقائق:
الأولى: أن ينظر هل يمكن أن يقوم بهذا العمل إذا لم يكن يتضمن اللذة؟ فإذا كانت اللذة هي ملاك ومعيار العمل لديه، فإنه لن يقوم بالعمل، وأما إذا كان يقوم بالعمل انطلاقاً من الإحساس بأداء التكليف، فإنه بلا شك سيقوم بالعمل حتى ولو لم يتضمن أي لذة، ولكن إذا لم يرفع شكه يمكن الحديث عندها عن العلامة الثانية.
الثانية: هي أن ينظر مَنْ هم الأشخاص الذين يُسَرّون إذا قام بالعمل؟ هل يُسَرّ بذلك أصحاب الدنيا وأتباع الأهواء والذين لا يراعون أحكام الشرع، أو أن المؤمنين وعباد الله هم الذين يُسَرّون بذلك؟ "وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى"1.
الواضح أن المؤمن الذي أودع قلبه الله وكانت طاعة الله هي المحرك الأساس لعمله والذي شكّل رضى الله هدفه الأساس، هو الذي تمكّن من إخراج نفسه من قيود الشهوات والابتعاد عن أصحاب الدنيا وعبدة الأهواء، وهو الذي تمكن من إضاءة قلبه بنور الهداية الإلهية وتُفتح أمام عينيه أبواب فهم وإدراك أنوار الحق. هذا الشخص يكون مهتدياً يسير على دروب الهداية، وهو بالإضافة إلى ذلك يمكنه هداية الآخرين.
1. نهج البلاغة، الخطبة 87.