في العقدين الأخيرين من هذا القرن شهدت المجتمعات الإنسانية تطوراً هائلاً على مستوى الإقبال على دراسة الإسلام ومفاهيمه، وفي الوقت الذي يقوم آلاف الاختصاصيين بعمل دؤوب لتطوير مناهج التعليم وأساليبه.
* ماذا فعلنا على مستوى المعارف الإسلامية؟
ربما يعتقد البعض أن المسألة ترتبط بالصراع ما بين القديم والجديد أو بين التراث والحداثة، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنص الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجانب التشريعي والفقهي للإسلام، حيث تمثل عملية المحافظة عليه وصيانته مدخلاً أساسياً لفهم الحكم والفتوى فهماً صحيحاً (وهذا مما لا شك فيه أمر ضروري ويعتبر العبث في جريمة فادحة). ولكن القضية تنطلق من الجانب الفني - إذا صح التعبير - في عملية عرض هذه المفاهيم، حتى ولو كانت مسائل شرعية بحتة. واليوم يطرح هذا السؤال نفسه بقوة:
هل المطلوب أن تقدم للناس النص إلى جانب الحكم، أم أن المهم هو تعريف الناس على مسائل الابتلاء بمعزل عن أية لغة حتى ولو كان الأمر هو الأساليب المرئية السمعية؟!
يعتبر عمل الشهيد الصدر قدس سره في "الفتاوى الواضحة" خطوة متميزة في هذا المضمار. ففي الوقت الذي يدرسُ العشراتْ المسائل الشرعية في الكتب والرسائل العملية ينفر الآلاف من دراستها والإقبال عليها آثارها العظيمة في المستقبل القريب لأسباب عديدة أهمها اللغة المعقدة جداً إن شاء الله.
وعدم وجود الوقت الكافي. وتشير دراسة إحصائية أجرتها مدرسة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف على مئات من المتدينين إلى أن العامل الأول الذي كان يمنعهم من دراسة الأحكام الشرعية أو تطبيقها كما ينبغي هو عدم القدرة على التعرف عليها (مما يدل على صعوبةٍ أو مشكلةٍ في تلقي مثل هذا النوع من المعارف).
الأرقام الإحصائية واستطلاعات الرأي المدروسة نقول أنه يوجد واحد مقابل كل 20 شخصاً يتمكن من دراسة الأحكام الشرعية بطريقة صحيحة.
ورغم أن المشكلة لا تنحصر بطريقة عرض المادة بل يوجد عشرات المشاكل الأخرى التي ينبغي أن تدرس بصورة منفصلة، وكل واحدة منها تمثل موضوعاً حيوياً للمهتمين بمجال التبليغ، ولكن لو استطعنا أن نحل مشكلة عرض الأفكار والمفاهيم الإسلامية برعاية الأساليب البيانية الحديثة التي اخترقت كل جدار حديدي وتسللت إلى كل أسرة ومنزل لحققنا نتائج طيبة سوف نلمس بقول أحد الآباء: إنني كلما أخذت ابني إلى مكتبة لبيع الكتب يسرع إلى شراء الكتب الجذابة والمصورة، وقد لاحظت أنه لا يبدي أي اهتمام بالكتب الإسلامية.
أجل، فهذا واضح للمراقب المتبصّر. إن عالم اليوم أصبح يدار بواسطة الإعلام ونفوذه، كما قال الإمام الخميني قدس سره. وإن إهمالنا المتزايد للجوانب الفنية الجمالية يقلل من تأثيرنا ويسمح للمزيد من نفوذ الأفكار المنحرفة البرَّاقة.
ولكن هل يوجد بصيص نور وفسحة أمل؟
مدير دار لنشر الكتب الإسلامية يقول: "إن المشكلة لا تتوقف عند حدود العرض والجمال فهناك المشاكل المعيشية الضاغطة التي تأخذ من مال ووقث الإنسان مما يجعل المطالعة آخر اهتماماتك، إضافة إلى أن المسائل الجمالية والفنية تتطلب ميزانيات أكبر مما يزيد من كلفة الكتب وأسعاره".
نحن الذين لم نعرف كيف نقدّم للناس الأفكار الأصيلة بصورة صحيحة هل يمكن أخذ هذا الكلام كواقع لا مهرب منه؟
مسؤول آخر عن دار نشر كبرى يقول: "إن المسائل الفنية والجمالية ليست مشكلة بحد ذاتها، ففي معظم الأحيان تتراوح الزيادة المحتملة على الكلفة الإجمالية لكتاب ما إذا راعينا الجانب الجمالي فيه من 2 إلى 5 بالمئة. وهي ليست نسبة كبيرة إذا التفتنا إلى حجم المبيعات المرتقب والمنافسة القوية التي تنشأ من جراء ذلك".
* ماذا يعني هذا؟
أكثر الذين يشترون الكتاب ينجذبون - بالدرجة الأولى - إلى جماليته. ويبدي الكثيرون نفوراً من الكتب التي لا تراعى فيها المسائل الفنية المطلوبة. وهناك نسبة قليلة لا يهمها شكل الكتاب أو جاذبيته.
مسؤول الدار المذكور يتحدث عن تجربته الأولى في إصدار كتاب متميز - ربما كان التجربة الأولى على صعيد دور النشر الإسلامية كافة - يقول: "في الفترة الأولى سمعنا انتقادات عديدة من زملائنا في عالم النشر، ورغم أن نسبة الربح كانت أقل بكثير مما يحققونه في الكتب الأخرى إلا أن الإقبال كان شديداً مما دفعنا إلى إعادة طبعه، ولم تمض فترة وجيزة حتى كانت الدور الأخرى تطلب مئات النسخ منه لبيعها في دورها".
"لقد تيقنا من أن الناس تريد أن تتعرف على الإسلام"، يقول باحث متخصص في التربية والتعليم، "ولكننا نحن الذين لم نعرف كيف نقدم لهم الأفكار الأصيلة بصورة صحيحة".
إن التحدي الذي يواجه الجميع في عصرنا الحالي هو الإقبال والنفور والجذب والطرد. وفي أغلب الأحيان لم نعد القوة العسكرية القوة المهيمنة الوحيدة. بل ازدادت نسبة قوة الرأي العام واتسع نفوذ الجماعات الفكرية، مما يعني أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من التجاذب الفكري وسوف يكون الإسلام هو الرقم الصعب في معادلة الصراع. فهل قدمنا شيئاً للفوز في هذا المعترك.
* الجمع بين القديم والجديد
إن المشكلة الأساسية لا ترتبط كثيراً بالمضمون، بل في طريقة عرضه. ويطرح أحد الباحثين حلاً مقبولاً لتجاوز عقدة النص والمحافظة على التراث، قائلاً:
"إن التعامل مع الناس على أساس القسمة العلمية والنفسية أمر ضروري. فهناك المتدين المتعلم، وهناك المتدين الذي لا يهتم بالعلم وبالمعرفة ويوجد أُناس لا يمتلكون الحد المطلوب من التدين. فإذا قدّمنا للفئة الأولى النص كما هو فإن المشاكل المتوقعة في الإقبال تكون محدودة جداً. أما الفئة الثانية فإن معاناتها تنبع من أسلوب العرض وليس من جانب أصل التوجه والإقبال. فينبغي أن نقدم لها النص بأسلوب فني مميز. والفئة الثالثة نخاطبها في المرحلة الأولى بالأمور المشتركة، أي أن ننطلق في مخاطبتها من النقاط المشتركة كالهموم المعيشية والمشاكل الاجتماعية ويكون الإسلام في النهاية حلاً لها".
وكمثال على ذلك، ندرّس الفئة الأولى الرسالة العملية التي يطرحها الفقيه الجامع للشرائط. فهي الأقرب إلى النص وتصبح الأقدر على المحافظة عليه وتكون الأمنع من تسرب الأفكار المنحرفة. أما الفئة الثانية فهي بأمس الحاجة إلى تغيير في طريقة عرض الفتاوى. ولذلك ينبغي أن نقدم لها الأحكام الشرعية بأساليب بيانية جذابة (كالرسوم والصور والجداول الإيضاحية وغيرها). ومع الفئة الثالثة نبدأ بالحديث عن المشاكل الاجتماعية والفردية كمشكلة الضياع والعبثية وفقدان الأمل والمشكلة المادية المتفاقمة وظلم الحكومات وو... ويكون الإسلام بتعاليمه وأحكامه حلاً نهائياً يعرض بأسلوب واضح ومبسط خال من التعقيدات الاصطلاحية.
* مشكلة أُخرى - التعليم المدرسي
هناك مشكلة كبيرة تكمن في التعليم المدرسي، وهي ما يمكن أن نطلق عليه "عملية الإخماد المنظم للطاقات الكامنة". فالطريقة السائدة في التعليم تقتل في الطالب وعبر المراحل الدراسية المختلفة روح الإبداع التي هي سر من أسرار إنسانيته كما يقول الشهيد العلامة مرتضى مطهري.
فالمناهج المدرسية والأساليب التعليمية تتضافر على إخماد روح البحث والسؤال والتفكر عند الطالب. وأدل دليل على هذا المدّعى أن نسبة 96 بالمئة من طلاب المدارس الثانوية لا يقرأون خارج المواد الدراسية، ولا يمكن إلقاء اللائمة على هؤلاء أبداً، فإن المنهج زائد المدرس لا يعطي ولا يشجع الطالب على المطالعة من خلال زرع أو تنمية حس البحث والتحقيق في نفسه.
إن هذه جريمة منظمة تجري يومياً تحت أعيننا لا نملك حيالها أية مقدرة على التغيير. ومع طول المدة لن يتخرج من مدارسنا إلا أشخاص هم بمنزلة صندوق كبير للمعلومات التي سيحصلون عليها في الجامعات. وفي الجامعات تكون نسبة الإبداع - حيث ينبغي الإبداع - ضئيلة جداً تكاد لا تذكر، هذا الوضع المأساوي يدعونا إلى التحرك بهمة عالية وبرامج منظمة لإحداث ثورة تعليمية كبرى.
فهل جاء الوقت الذي يمكن أن نحول عقدنا إلى عقد التعليم؟