إعداد: فاطمة خشاب درويش
ما هو واقع دور النشر اليوم في ظلّ الفورة التكنولوجية التي نعيشها؟ هل ما زالت دور النشر حاضرة بقوة في مجال صناعة الكتاب أم أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ يفرض الحديث عن دور النشر سؤالاً عن موقعية الكتاب وعن نسبة القرّاء الّذين يتمسكون بالكتاب كخير جليس وصديق في زمن الإنترنت والمواقع الإلكترونية المتنوعة. للإجابة عن هذه التساؤلات اخترنا في هذا التحقيق أن نعرض نموذجين من دور النشر في لبنان: دار العلم للملايين(1)، ودار الولاء الإسلامية(2).
* واقع دور النشر
عند سؤاله عن واقع دور النشر، يتنهد المؤلف د. روحي بعلبكي مدير "دار العلم للملايين" معتبراً أنّ الحديث عن هذا الموضوع مرتبط بموقعية الكتاب بالدرجة الأولى، كما تدلّل عليه نسبة القراءة المتدنّية في العالم العربي، فالمواطن العربي يقرأ بمعدل ربع ساعة في السّنة. كما أن الأمية كاسحة في العالم العربي وتتراوح نسبتها بين الثلث في بعض الدول والثُّلثين في دول أخرى. ويتابع د. بعلبكي موضحاً بالأرقام حجم المأزق الذي تعيشه هذه الدّور التي تصدر في مجمل بلدان العالم العربي خمسة آلاف كتاب أي بمعدل نسخة واحدة لكل 250 ألف مواطن عربي بينما في أميركا يصدر مئة وخمسون ألف كتاب سنوياً. عضو المجلس التنفيذي في الاتحاد العالمي للناشرين المسلمين ومدير "دار الولاء" للطباعة والنشر الحاج حسين خليفة يرى أن قطاع النّشر يتعرض إلى هجمة غير بريئة تصبّ في إطار تشويه الواقع والتاريخ والعقيدة. وللأسف فإنّ مؤسسات ثقافية كبيرة في العالم العربي تحتضنها. ويشير خليفة إلى أن حجم الإنتاج المترجم إلى اللغة العربية أكبر بكثير من مجمل ما ينتج عن العالم العربي من منشورات، وبلغت نسبة الإنتاج العربي لعام 2010 ما يقارب 1.75 %، والنسبة الباقية مترجمة إلى العربية وتتركز حول مواضيع العولمة والغرب وغير ذلك من المواضيع التي تتماشى مع الهجمة الكبيرة على الإسلام والتي تهدف إلى تشويه سمعة المسلمين واتهامهم بالرّجعية من قبل أميركا والعدو الإسرائيلي والدول الغربية. ويؤكد الحاج حسين وجود حملة ضد دور النشر الإسلامية، ففي بعض الحالات تُمنع بعض الكتب من النشر وهذا الأمر يختلف بين بلد وآخر.
* تاريخ دور النشر في لبنان
- دار العلم للملايين
شهد لبنان عصراً مزدهراً في قطاع النشر في الستّينيات. وهذا لم يكن قائماً على مبيعات الكتب الصادرة في لبنان، بل كان يرتكز على الالتزامات الطباعيّة للدّول الخليجية والعربيّة التي كانت تفتقر آنذاك للمطابع ولمؤلّفي الكتب الدراسية. كان النّشر والطبع قبل العام 1945 عشوائياً وغير منظّم، فكانت هناك مبادرات فرديّة تؤمّن الطباعة لمن يرغب مثل "دار الكشاف" لـ لمصطفى فتح الله التي تأسست سنة 1930 ومن بعدها "دار المكشوف" للشيخ فؤاد حبيش سنة 1940 وكانتا عبارة عن مكتبة أدبية تنشر ظرفياً أو بصورة متقطعة. في عام 1945 اكتملت فكرة إنشاء مؤسسة ثقافية تعنى بنشر العلم تأليفاً وترجمةً وتوزيعاً وتسمى "دار نُشر في لبنان" على يد المرحومَيْن منير البعلبكي وبهيج عثمان. هذه الفكرة غير المسبوقة مهدت السّبيل لظهور المئات من دور النشر، فكانت "دار العلم للملايين" أول دار نشر تهتم بالإنتاج العلمي والفكري والثقافي بشكل مؤسساتي منظّم وهي لا تزال مزدهرة حتى اليوم. كما يشير د. بعلبكي إلى أن عدد دور النشر المرخصة والمسجلة في نقابة الناشرين يقارب سبعمائة دار نشر خمسون منها فقط فاعلة في مجال النشر والتوزيع والطباعة.
- دار الولاء الإسلامية
"دار الولاء" هو دار إسلامي متخصّص في الكتاب الإسلامي طباعةً وصناعةً ونشراً، إضافة إلى إصدار الكتب الولائية التي تلامس النهج المحمدي الأصيل الذي سنّهُ الإمام الخميني "قده". كانت بداية انطلاقة الدار في عام التحرير عام 2000. وإذ يؤكد الحاج حسين مدير الدار أنه ناشر بالدرجة الأولى وليس منافساً، من الناحية التجارية، في هذا المجال، بل يسعى إلى تحقيق أهدافه بعيداً عن الغايات التجارية.
* تأثير الطفرة التكنولوجية
ويرى مدير "دار الولاء" الحاج حسين خليفة أنّ تأثير الطّفرة التّكنولوجية على واقع القراءة بشكل عام وعلى موقعية الكتاب بشكل خاص نسبيٌّ ومحدود، فالكتب الإلكترونية لا يمكن أن تأخذ مكانة الكتاب الذي يمتلك مميّزات مفقودة في الوسائل والتقنيات الحديثة، وليس من السهل إلغاؤها مهما تطوّرت الأساليب والأدوات المعرفية. بدوره يؤكد د. بعلبكي وجود حرب بين الشّاشة والحبر أي بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي ومن البديهي أنّ الشاشة المتحركة تنتصر. لا بدّ أن الجيل القديم يفضّل الكتاب حتى لو اعتبرنا أن المعرفة ممكن أن تصل إلى الذهن بغيره من الوسائل. أما بلغة الأرقام، فإنّ الكتاب المقبول لا يبيع أكثر من 500 نسخة بالسنة، ونتيجةً لهذا الواقع ترك عدد كبير من الكتّاب الورقة والقلم نظراً لقلّة العائدات المالية مقابل جهدهم الفكري الطويل. فالكاتب لا يحظى غالباً بالتقدير المعنوي والمادي المطلوب. والتحدي الكبير الذي نواجهه هو في الابتكار وإصدار عناوين جديدة للكتب وإعادة إنعاش قطاع الترجمة في العالم العربي... فمعلوماتنا وكتبنا وحتى إعلامنا مستورد، لذا نحن نخشى على الهوية العربية وأن نبقى تابعين للغرب.
* خيارات الصمود
الاستمرار لا يعني أرباحاً، بهذه الكلمات يوضح د. بعلبكي سبب استمرارية دار العلم للملايين وسط هذه الضغوط مشيراً إلى أن الدار، نظراً لشموليتها ورواجها، استطاعت أن تفرض احترامها، من قِبَل الكتّاب الذين يلجؤون إليها، لأنها تصون الحقوق وتحفظها، والقرّاء الذين يثقون بما تنشره. وهي تسعى إلى التجدد وطرح العناوين والمواضيع الجذابة للحفاظ على موقعها على عكس دور نشر اضطرت لأن تغلق أبوابها بسبب قلّة القرّاء وعجزها عن إيجاد أسواق جديدة أو موضوعات جديدة للكتابة عنها. وفيما يتعلق بالضغوطات التي تتعرض لها دور النشر للحفاظ على وجودها يقول د. بعلبكي: لا نبيع أنفسنا. تأتينا عروض بعض المنشورات من مختلف البلدان، غربية وشرقية، ولكننا نرفضها لأننا لا نقبل أن نكون واجهة لأحد وثوابتنا راسخة وواضحة: الثابت الإيماني الإسلامي، الثابت العروبي القومي، الثابت العلمي والفكري والثقافي الراقي وهذه ثوابتنا ولا نساوم عليها. من جهته يؤكد الحاج حسين خليفة على أهمية عامل الثقة الذي تعمل "دار الولاء" على زرعه في نفوس الكتّاب والقرّاء، فهي تشكّل ضمانة للكتاب من جهة ومقصداً لمحبي الثقافة والفكر الأصيل من جهة أخرى. ويلفت خليفة إلى محدودية انتشار الكتاب الإسلامي وما يزيد على ذلك قوانين المنع من النّشر التي يتعرض لها الكتاب، ويؤكد على ضرورة قيام الناشر بعملية مسح مستمرة ورصد للظواهر والمواضيع الملحة لمعرفة القضايا التي لها أولوية الطرح والمعالجة، فلا يجوز الاكتفاء بالكتب التقليدية التراثيّة لأنّ ذلك يقلل من مبيعات الدار فالتجديد أساس للاستمرار في مجال النشر.
* الشمولية للاستمرار
"دار العلم للملايين" حملت أهم أسماء المؤلفين والمترجمين العرب والأجانب وهي أصدرت أهم المعاجم والموسوعات والتراجم والدراسات الإسلامية واللغوية والقومية فضلاً عن التّاريخ والأدب والنّقد والرّوايات إضافة إلى الشّعر والسّياسة والقانون والأعمال والإدارة والفلسفة والتربية وعلم الصّحة والرّشاقة والغذاء وسائر العلوم. وهناك مجموعة كبيرة من الكتب المترجمة لا سيما في الفترة الأخيرة تعنى بالصحة والعلاجات للأسرة. ويختم د. روحي بعلبكي حديثه معنا بالتوجه للشباب العربي مشدّداً على ضرورة إتقان اللغة العربية واستخدام حروفها، والقدرة على مواجهة الغزو الثقافي الفكري الأجنبي من خلال الاعتماد على المعرفة والعلم وعلى قدراته لبناء الثقافة الإنسانية. فالمستقبل لن يكون للنفط بل للإنسان العربي الواعي لقضاياه. "دار العلم للملايين" و"دار الولاء" نموذجان يعبران عن حال معظم دور النشر في لبنان وحتى في العالم العربي، هذه الدور التي تخوض معركة الوجود في زمن التقنيات الرقمية والحديثة وهي تستنفر كل قواها لتبقى حاضرة وبقوة في ميادين المعرفة والعلم. فهل تنجح وتبقى في موقع صنع الكتاب، أم أنّها سترفع رايتها البيضاء لصالح الأقراص المدمجة والشاشات؟ سؤال ربما لن ننتظر كثيراً لنعرف جوابه...