تحقيق: بتول زين الدين
أمسكَتْ بعلبة العصير، أخذتها، وهرْوَلَت. الأم مشغولة بمحادثة الرفيقات، نظرت إلى ابنتها التي لم يتجاوز عمرها عامين فوجدتها تحمل العلبة، سألت الحاضرين عن مصدرها فأشاروا إلى حقيبة مشرّعة، أعادت الأم العلبة إلى مكانها قائلة لابنتها: هذه ليست لنا.
*حق الأمانة كيف يُهدر؟
لم تجد لينا (45 عاماً، ربّة منزل) صعوبة في إفهام طفلتها ما يحق لها التصرف به، وما لا يحق لها. فيما تجد سناء (32 عاماً، ربّة منزل) صعوبة بالغة في إقناع طفلها (7 سنوات) بمعنى حق الأمانة، وتروي أنها كانت في زيارة مع ولدها عندما أعاره صديقه لعبة وحين انتهاء الزيارة لم يرضَ بإرجاعها له، بل اختبأ في زاوية وكسرها.
إذا كانت هذه قصص الأطفال مع مراعاة الأمانة، فما حال الكبار؟!
تقول روى (35 عاماً، مدرّسة) إنها استأمنت ذات يوم زميلتها على منزلها عندما اضطرت أن تتركه بعهدتها لبعض الوقت، فما كان منها إلّا أن قامت بسرقة حليّ بناتها الذهبية، وتقول متأسفة: "إنّ ظني بالناس حسنٌ كظني بنفسي".
أما سامي (33 عاماً، موظف)، فيروي ما حصل معه قائلاً: "كان صديقي بحاجة للمال لتيسير أموره، وكان لديّ مبلغ ادّخرته لشراء شقّة، وعندما احتاج صديقي للمال قلت لنفسي إنه ليس من المناسب أن أقوم بادّخار المال فيما صديقي محتاج، فأودعته المبلغ، إلا أنني اكتشفت لاحقاً أنه يقترض أموالاً مني ومن غيري وهذا ما كان سبباً في إفلاسه وتواريه عن الأنظار".
*خيانة الأمانة مؤذية.. ومؤلمة
ليست الحاجة دائماً الدافع لخيانة الأمانة، فأحياناً لا يكون الشخص محتاجاً، ولا تكون الأمانة ذات قيمة، ولكن الآخر يحب أن يمتلك أموراً لمجرّد أنها لدى الآخر، ولا يميّز بين حقّه وحقوق الناس. تقول رباب (55 عاماً، ربة منزل): "عرّفتني صديقتي إلى زميلتها، التي طلبت مني، يوماً، مبلغاً من المال، رغم كونها ميسورة الحال، ووعدتني أن تعيده خلال شهر، ولم تفِ بوعدها، مع أن زوجها يُعدّ من الأثرياء!".
وإذا كانت الخيانة المادّية مؤذية ومؤلمة، فكيف حال خيانة الأمانة المعنوية التي تفضي إلى نتائج لا تقل خطورة كخيانة العهد أو عدم كتمان السر؟!
إسراء (28 عاماً، خريجة جامعة) تقول: استأمنت صديقتي على أسراري منذ عشر سنوات، ورغم مرور الزمن ورغم كل ما يحدث بيننا أحياناً من مشاكل أو تباعد، لم تؤذِني بإشاعة أي سرّ أو قول، علماً أنها لو أرادت لفعلت ولتسبّب ذلك بقطع علاقة أسرتي بأسرتها.
بالمقابل، تعرّض حبيب (65 عاماً، متقاعد) لخذلان صديقه الذي وعده بالحفاظ على ورقة استأمنه عليها لم يكن يمتلك نسخة عنها، تثبت حقّه في وراثة قطعة أرض، فقام الصديق بتقديمها لخصمه وبالتالي خسر حقّه. يقول حبيب بحسرة مستحضراً قولاً للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: "لم يخنك الأمين، ولكن ائتَمنتَ الخائن"(1).
فكيف إذاً نميّز الأمين من الخائن؟ وما هي الأسباب التي تدفع بشخص إلى خيانة الأمانة؟ وماذا عن النتائج التي تترتب على هذا السلوك؟ وكيف يمكن علاج هذه الآفة؟هذه التساؤلات وغيرها طرحناها على المعالجة النفسية علا بيطار.
*الأمانة دليلٌ قويٌّ على الاستقامة
الصادق الأمين، لقبٌ من ألقاب رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة النبوية. وورد عن الإمام الصادق عليه السلام في حقّ الوصيّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام قوله: "إن علياً عليه السلام إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه وآله بصدق الحديث وأداء الأمانة"(2). في هذا السياق تؤكد المعالجة بيطار أنه رغم "كل الصفات الإيجابية التي كان يتمتع بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلّا أنّ أشهر ألقابه الصادق والأمين، لأن هاتين الصفتين هما مفتاح العديد من القيم. فالأمين هو إنسان "صادق مع نفسه، يتحمّل مسؤوليّة، ويشعر بالرضا والقناعة (satisfaction)" وتضيف: "ممكن أن يكون محتاجاً ولكن لا تحدّثه نفسه أبداً بالإخلال بما يؤتمن عليه، لأنه يفصل بين ما هو من حقه وما ليس له".
ورد عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون فيه ثلاث خصال: سُنّة من ربه، وسُنّة من نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وسُنّة من وليّه عليه السلام: فأما السُنّة من ربه فكتمان السر"(3). ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحج، والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"(4) لأنها النتيجة الطبيعية المنتظرة من هذه العبادات.
وتوضح المعالجة بيطار أن "تحت صفة الأمانة يندرج العديد من سلوكيات الإنسان الإيجابية: فلا يمكن أن يكون أميناً ويغش بعمله، وعندما ينصح فإنه ينصح بصدق وأمانة، وهو مسموع الكلمة في مجتمعه لأن تلك الصفة تعطيه مصداقيّة".
*منذ نعومة أظافره
عندما نبحث عن الأسباب التي تدفع شخصاً واعياً ومدركاً إلى خيانة ما اؤتمن عليه، تأتي التربية في مقدمة الأسباب، تقول بيطار: "شخصيّة الأطفال أرضيّة خصبة لتلقي غرس البذور، والتربية أسلوب حياة، فيجب أن نلفت انتباه الطفل إلى بعض السلوكيات، فإذا فتح ورقة ليست له نُنَبّهه إلى عدم القيام بهذا العمل، وإذا كنا في زيارة لدى الأقارب ورن الهاتف أو طُرق الباب لا يحق له الرد دون استئذان، إلخ...، عندها تصبح صفة الأمانة ملَكة ثابتة في شخصيته. لكن إذا تعرّضت في فترة إلى تشوّه أو ضعف في الإرادة، عندها يكون هناك دخيل على منظومته المعرفيّة وتركيبته النفسيّة" تتابع بيطار: "فحين يقوم الطفل بسلوك غير أمين، قد يعود ذلك إلى استخفاف الأهل ببعض السلوكيات التي يقوم بها مثل: غيرة، أنانيّة، عدوانيّة، الشعور بالدونية أو الشعور بالنقص".
أما فيما يخصّ المؤشرات الناجحة في التربية، تتابع بيطار: "لا بد أن يكون لدى الطفل رادع ذاتي، أو محكمة داخلية تبيّن له الصواب من الخطأ، فيصبح واعياً وقادراً على محاسبة نفسه. أضف إلى أن احترامه لذاته يصبح رادعاً له عن وضع نفسه في المكان الخط". تتابع المعالجة النفسية "ولا ننسى، أن الطفل يراقب أهله ويقلّدهم، فإذا كان من صفات الأهل الحديث عن أسرار الناس كالأهل والجيران، فلن يَعتبر أنّ في تصرفاته أي خط".
*مجتمع يُعلم الأمانة
إلى جانب التربية، للبيئة دور هام في اكتساب صفة المحافظة على الأمانة "من يعش في بيئة يتم التركيز فيها بشكل كبير على الأمانة، والعمل بموجب هذه المعرفة، فإنّ هذه الصفة تصبح جزءاً من شخصيّة أبنائها ويتصرفون حينها تلقائياً بأمانة. مثلاً؛ أحياناً بعض المغتربين يحترمون في بلاد الاغتراب إشارات السير، ولكنهم حين يأتون إلى وطنهم يخالفون ذلك لغياب العقاب وعدم احترام النظام" لافتة "إلى أن العقاب يؤدّب الآخرين: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: 179). رغم أن بعضهم الآخر لا يتمكّن من المخالفة لترسُّخ صفة النظام لديه".
أما الخيانة المعنوية فمردّها إلى "أنّ الشخص لا يعرف حدوده، ويتسلى بأمور ليس من حقّه قوله"، مردفة: "هنا تعود أهميّة تعويد النفس على الضبط الذاتي"، خصوصاً خيانة الأسرار الزوجية، التي تعزوها بيطار إلى "الشخصية التي غالباً ما تكون غير متعاطفة أو متفهمة ولا تقبل الاختلاف".
*تداخل الفضيلة والرذيلة
وإذ تشدد بيطار على أنه "يجب أن تتمّ التربية نفسيّاً ثم دينيّاً ثم اجتماعيّاً، فالقيم الاجتماعية تشكّل خطوط دفاع". لا تنفي أن الطفل يتأثر بأصدقائه، وتعزو بعض أسباب استفحال صفة خيانة الأمانة إلى الوسائل الإعلامية التي تساهم في ذلك "من خلال اعتماد أسلوب التدرج في الخطأ، ووضع الصفة السلبية ضمن قالب مؤثّر ومبرّر له الخطأ لتحصيل محبة الجمهور، ومن ثم طغيان السلبية على تصرفات الفرد، فتصبح الشخصية خائنة أو عميلة، ولا يعود بمقدور الجمهور نقدها لأنه أحبها، فيبدأ بالتبرير لها والدفاع عنه".
وإذا كانت أسباب الظاهرة متنوعة إلى حدّ كبير، فإن نتائجها يمكن أن تُصنّف إلى شقين:
الأول: عدم الثقة بالشخص الخائن وعدم تصديق المحيطين به.
الثاني: عدم احترام الشخص وتقديره. وهو ما حاولت رِوى الحفاظ عليه عندما طلبت من صديقتها التي أخذت حلي بناتها، أن تبحث معها: "لأحافظ على كرامتها لأن حاجز احترام الذات حين يكسر عند الشخص يصبح تكرار الخطأ سهل"، فتظاهرت الصديقة بالعثور على الحلي، التي استبدلتها بأخرى مختلفة خوفاً من اكتشاف فعلها.
*علامات الخائن
وإذا كانت نتائج الخيانة مؤلمة لهذا الحدّ، فثمة إشارات يمكن الركون إليها لتفادي ذلك، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أما علامة الخائن فأربعة: عصيان الرحمان، وأذى الجيران، وبغض الأقران، والقرب إلى الطغيان"(5). وتعطي المعالجة بيطار بعض المؤشرات على تلك الشخصية: "شراسة، عدوانيّة، شخصيّة هجوميّة، تضع نفسها في موقع المُتَّهم، تشعر حين يتكلم الآخرون أن الكلام موجه إليه". وعن إمكانية الخيانة عند بعض الأشخاص، تبيّن المعالجة علا بيطار بعض المواصفات التي ترجح قابلية شخص لخيانة الأمانة منه" أنه يمتدح موقفاً غير سليم، يبرّر للآخرين أخطاءهم، وخيانته لما يؤتمن عليه، ويصف قلّة الأمانة بالشطارة".
وتلفت المعالجة النفسية إلى أنه حين يلجأ الخائن لعمل فيه خيانة يبدأ بالبحث عن مبررات لتحصيل التوازن الداخلي في نفسه، حتى لا يشعر بعذاب الضمير، كالقول إن الشخص الآخر مغفّل، أو قد سبق ونصب عليه، لذا فهو يرد له الأذية، فيبدأ من مسلمات خاطئة ويبني عليها.
*خيانة الوطن
صحيح أن المسلسلات روجت لظاهرة التعاطف مع الخيانة، إلا أن الاختلافات السياسية منحت الضوء الأخضر للنوع الأخطر منها: خيانة الوطن!
توضح المعالجة النفسيّة أنّ العميل "ليس لديه إحساس بالانتماء، يفكر بأنانية من دون النظر إلى أبعاد الأمور" مؤكدة أنه "إنسان سوي ومدرك وقد اختار تصرّفه عن سابق تصميم لمنفعة ذاتية محضة، مستخدماً ذكاءه في المكان الخط".
1- الوافي، الفيض الكاشاني، ج18، ص955.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص104.
3- ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج١، ص209.
4- م.ن، ص214.
5- م.ن، ص٨٣٦.