مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أمانات في طي النسيان

الشيخ محمد باقر كجك

لقد كان مشهداً مؤثِّراً جدّاً. كأنَّ تلك الفتاةَ ذات العينين الخضراوتين، والأعوام الخمسة، قرَّرتْ في لحظةٍ واحدةٍ أنْ تُحْدِثَ في روحي مزقاً أوْجَع أطرافي، ورسمَ ابتسامةً دامعةً في صفحة وجهي. إنَّها ابنة شهيد، قذفها اليُتمُ فجأةً تحت كفّي، فوجدتني أمسحُ رأسها دامعاً، وهي تبتسم! قالت لي أمُّها: "إنَّها أمانة في أعناقكم يا مولانا".

*مالِكُ كلّ شيء
لم أقم من مكاني لأسيرَ في شوارع الضّاحية، إلا وأنا أشعر أنّ أنفاسي تحاصرُني، والدُّروب تلتفُّ حول عنقي: "أمانة؟ وفي عنقي أنا؟ ودون سابق إنذار؟ وكم هي الأمانات التي لم أكن منتبهاً لها حتى يومي هذا؟".

فكّرتُ في نفسي: أن يكون الإنسان أميناً، يعني أن يكون مراعياً ومهتماً لشيءٍ ما، ليس له، ويعيدُه إلى أهله حينما يحين وقت إرجاعه.

بدا لي هذا المعنى مقبولاً، إلا أنه ضيّقٌ إذا كنا نبحث عن المعنى الذي اعتاده الناس في خصوص الأمانات المالية. ولكن لو عدنا لنبحث عن نظرة الإسلام للأمانة، لوجدنا أنَّ المعنى يتوسّع أكثر فأكثر ليشمل الكثيرَ من الأمور، المادية، والمعنويّة.

*وإليه يرجع كل شيء
في الحقيقة، لا يملك الإنسان في هذا الوجود شيئاً، إلا على نحو الملك الاعتباري، والله تعالى هو مالكُ كلِّ شيءٍ، ومن دون حدودٍ، وبالتَّالي فإنَّ كلَّ شيءٍ يقعُ عليه نظرك، أو لا يقع، هو ملكٌ لله تعالى، يقول تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا (النساء: 132).

فإذا كان كلُّ شيءٍ لله تعالى، فإنَّ كلّ شيءٍ لدينا إنَّما نتصرَّف به على نحو الأمانة والإعارة لا غير. ولو تأمّلنا قليلاً، لوجدنا:

1- دينُ الله أمانة
قلتُ لصاحبي: "الدِّيْنُ أمانة"، لأنَّ الله سبحانه وتعالى ما وجد في خَلقه من يَحملُ بين جنبيه القُدرة على معرفته، وطاعته، والتدرُّج في مراتب الكمال، غير الإنسان.

والإنسان، مخلوقٌ رائعٌ ليس له شبيه. وليس هناك مَن ائتمنه الله على معرفته، وأعطاهُ كلَّ الوسائل الشَّريفة للوصول إلى المعرفة كالإنسان (1). فهل من اللائق أن يعيشَ الإنسان في الجهل؟ أليست خيانةً أن لا نعرفَ الله معرفةً كافيةً؟ أليست خيانةً أن نعبدَ غيرَ الله؟

قال صاحبي: كلَّما تذكَّرت كلَّ المعاناة التي عاناها النَّبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واللحظة التي لاحت فيها ابتسامة خبيثة على وجه أبي جهل، وكلَّ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين وفاته، أشعر بالخجل حينما يبدو منِّي تقصيرٌ تجاه ديني.ابتسمت له، وعرفت أنّه فهمني جيداً، "رَأَسُ الإسلامِ الأَمـانَةُ"(2)، كما هو المروي عن الإمام علي عليه السلام.

2- جوارحي أمانة
كان من المتوقع أن لا يقوم شابٌّ مهذَّب، كما كان يبدو عليه ابن جارنا، بأخذ تلك الجرعة الهائلة من المخدّرات. لقد دفع أمّه عن الكرسي فآذت وجهها، وكادَ أن يقتل أخته وهي تغسل الصحون في المطبخ. كأنه لم يكن هو الذي يتحرَّك. وكأنّ لسانه لم يكن لسانَه، وقدمَه التي تخبِط خبْطَ عشواء لم تكن قدمَه.

يبدأ الخلل، عادةً، من قرارٍ خاطئٍ يأخذهُ الفردُ، وتطيعهُ الجوارحُ، إطاعةً عمياءَ، فهي لا تملكُ قرارَها.

ومن قال إنّ وظيفة اللّسان أنْ يكون "كاذب"، والعين أنْ تكون "زانية"، والسَّمع أنْ لا يتقبّل "الحقّ"؟

ومن أعطاني تصريحاً بأن أسلّم جوارحي كلّها للشيطان؟

لو أنني أمسك بحبل الله بكلتا يديّ، وأنظر إلى عرش الله طولَ الوقت، ولا أسمع إلا نبض القرآن، لحلّقت روحي إلى ساحة العرش كلَّ لحظة.

لقد قلع علي بن أبي طالب عليه السلام باب خيبر بيديه، وأطعم الأيتام والأرامل بيديه، ووضع يده على جرح رأسه ليلة الشهادة. وأنا ماذا فعلت بيديّ؟

3- زوجتي أمانة
بابُ منزلي، بابٌ من أبواب الجنَّة، والدُّخول إلى المنزل يحملني إلى أجمل بُقعةٍ في الكون، فيها أُنسي وراحتي وسروري وقرَّة عيني!

قال لي صاحبي: أنت بعكس كلِّ الناس! النَّاسُ تفرُّ من بيوتها أحياناً كثيرةً.. النَّاسُ تريد أنْ ترتاح.

قلت له: لا راحةَ لي إلا في المنزل. المنزلُ جنَّتي، وزوجتي أميرة، وأطفالي ملوكٌ. وكلُّنا عباد الرَّحمن.

ليس الأمر غريباً، فقد وجدتُ أنَّ كلَّ حركةٍ أقوم بها في منزلي، من الممكن أن تكون لله تعالى. إذا رأَتْ زوجتي أني أبتسم لها، في أيام تعبها وأيام راحتها، فهي ستبتسم رغماً عن كل ما يقلقها وتدعو لي. وإذا وجدتها جائعة بادرت إلى صنع الطعام لها، فلعلها تفرح وتبادلني الفرح. وإذا رأيتها تحتاج للضوء، فتحت لها كل نوافذ المعرفة.

لقد وهبني الله تعالى هذه النعم، أفلا أحيطها بكل عنايتي؟! ألا أكون أميناً عليها، وأعيدها إلى الله تعالى محفوظة مصونة، قد زدتها ألقاً واتصالاً بذات الله؟

منزلي جنتي، وزوجتي بابٌ للجنة.

4- أولادي أمانة
لم يكن مشهد أولئك الصبية مفرحاً لي أبداً. لقد بدا لي واضحاً أنهم يسيرون في دربٍ خطرٍ جداً. ومن المفاجئ أن يكون أبوهم إنساناً متديناً، ومؤمناً، وزوجته سيدة مؤمنة ملتزمة. إلّا أنّ أولئك الصبية لا يمتّون إلى الالتزام بشيء ممّا نعرفه من مسلك المتديّنين. منظر هؤلاء الصبية يفطر قلب الصخر!

ليست صحتهم الجسدية، ولا بنيتهم البدنية هي المشكلة! المشكلة في قلوبهم: إنها لا ترى الله.

حب الله نورٌ، ينتقل في الأصلاب والأرحام، وينتقل من فمِ أبٍ يعرف كيفَ يقرأ عقول أطفاله فيعطيهم المعرفة، ومن قلب أمٍّ تعرف كيف ترضعهم التقوى.

من يضيّع الأطفال أكثر من آبائهم وأمهاتهم؟!

أولادي، أمانةُ الله في عنقي.. هل سأنقل إليهم النورَ السائر إليّ منذ آلاف السنين، ذلك النور الذي أنزله آدم عليه السلام معه إلى الأرض؟

5- عملي أمانة
"تلك الساعات التي أمضيها في عملي وأنا أنشغل بهمومي الخاصة جداً، من يدفع ثمنها؟

لقد مرّ وقتٌ طويل والهاتف في العمل مسخّر لاتصالاتي الشّخصية، لقد كان وجوده مهمّاً جداً إلى جانبي.

وكذلك استفدتُ من الكهرباء والماء والوقت، والأثاث، داخل العمل، لكي أنام هناك وأرتاح. وربما جلست أحياناً أقرأ كتاباً، أو أدردش أنا وزملائي.

كل عذري في ذلك، كان أنّي أريد أنْ أرتاح، فالكلّ يعلم كم هي متعبةٌ الحياة في هذه البلاد.

ولم أكن أؤذي أحداً في كل ذلك: صفر أذية".

هذا هو لسان حال الكثيرين من الشبّان والشابات. وأما لسان حال المؤسسات التي هم يعملون لديها، فليس من الصعب أن نقيسه: عندما تجد أنّ قدرةَ الإبداع تقلّ في المؤسسة، وأنّ الأعمال لا تُنجز، وأنّ الميزانيّات التشغيليّة تذهب هدراً، وأنّ أحلامَ وأهدافَ المؤسِّسين وأصحاب الطّموحات يمزّقها هدوءٌ مريبٌ يمارسه عاملٌ لا يأبه لكلِّ شيء (3)، فلا يمكن أن نسمّي ذلك إلا: سوء أمانة (4). إنها سوء أمانة متبادلة، وتضييع متكافئ! فكما العامل كذلك المدير!

كلُّ عمل، وكلُّ فعل، إنّما هو ظلُّ فعل الله.. فكيف نتعامل معه؟

وما أكثر الفشل هنا وهناك، بسبب تآمر الجميع على تضييع الفُرص.

لقد ألقيت نظرةً على مساحة هذه البلاد، فرأيتُ أنَّ سوءَ الأمانةِ وخيانةَ الذَّاتِ والأهدافِ النَّبيلة، هي التي تعدم الحياة وتُثقلُ الهواء.

* كيف نبدأ؟!
سألني صاحبي هذا السُّؤال، فسكتُّ مندهشاً. فعلاً، ماذا يمكننا أن نفعل؟

ربما يكون الحلّ بديهياً: أن نضعَ قاعدةً واضحةً وبسيطةً جداً: أن نكون أمناء بكلّ ما للكلمة من معنى.

ما هي الأمانات التي نتحمّل مسؤولياتها يوميّاً؟

ما هي الخسائر المترتّبة على كلّ واحدة؟

كيف نخطّط لتحمّل كلّ مسؤولية؟ وكيف نلتذُّ بتحمُّلها أيضاً؟

والسّؤال الأهم: هل سنكون مرتاحي البال، عندما نقف أمام تلك الطفلة ذات العينين الخضراوتين، وهي تنظر إلينا وتسألنا عن الأمانة؟ هل سنحقّق أحلامها وأحلام أبيها ببلدٍ مستقل ينعَمُ بكلِّ شيء جميل؟

هذه هي الأمانة.


1- يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: 72).
2- عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص263.
3- عن الإمام الصادق عليه السلام: "كُلُّ ذِي صناعَة مُضطَرٌّ إِلى ثَلاثِ خِلال يَجتَلِبُ بِهـا المَكسَبَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حـاذِقاً بِعَمَلِهِ مُؤَدِّياً لِلأَمـانَةِ فَيهِ، مُستَمِيلاً لَمَنْ استَعمَلَهُ". البحار، المجلسي، ج78، ص236.
4- عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في حديث له أنَّه قال لأبي عبد الله عليه السلام: "من ائتمن غير مؤتمن فلا حجة له على الله". الكافي، الكليني، ج5، ص299.

أضيف في: | عدد المشاهدات: