عزّة فرحات (*)
الأمانة هي أداء الحقوق والمحافظة عليها. ومن الحقوق حق الله وحق الناس وحق النفس. وليست الأمانة قيمة اجتماعيّة أو فضيلة أخلاقيّة فحسب، بل هي فريضة عظيمة حملها الإنسان حين عجزت عنها باقي المخلوقات. عُدّت الأمانة صفة مميزة للأنبياء وأصحاب الرسالات، واعتُبر أداء الأمانة علامة إيمان، وخيانة الأمانة علامة نفاق. فالأمين وفيٌّ فلا يخلف وعده، ونزيهٌ فلا يقترب من الشبهات، ومخلصٌ فلا يؤذي، ومستقيمٌ فلا يتزلزل أو يتبدّل أو يتلوّن، وكتومٌ فلا يكشف السرّ، وصادقٌ فلا يخالف فعلُه قولَه، وشجاعٌ فلا يحيد عن الحق مهما صعبت الظروف، وازدادت الإغراءات أو التهديدات. وباختصار، الأمين هو شخص يمكنك أن تصدّقه، وتثق به وتعتمد عليه.
*خلاصة القيم والفضائل
لا تنحصر الأمانة في مجال محدّد في حياة الإنسان. وهي إنما تكون في العبادة وفي المعاملة، في الجوارح وفي الودائع، مع الله ومع الناس ومع النفس. وعليه يمكن اعتبار الأمانة خلاصة مجموعة من القيم والفضائل كالصدق والوفاء والنزاهة وكتمان السر... فإذا تخلّق بهذه القيم إنسانٌ وحققها، فقد أدّى الأمانة ورعاها.
كيف يمكن في ظلّ هذا التشعّب لمظاهر هذه القيمة أن نُربّي أبناءنا على أداء الأمانة، وعلى ترسيخها في نفوسهم؟
من الواضح أنّ اكتساب هذه القيمة يحتاج إلى الوقت، ويستدعي الصّبر والإصرار والمثابرة. كذلك ينبغي مراعاة المراحل العمرية للأولاد، فالأطفال ما دون السابعة لا قُدرة لديهم على اكتساب القيم. ولهذا ورد في الأحاديث: "دع ابنك يلعب سبع سنين"(1)، فيقتصر التعليم في هذه السنوات على التعويد والترغيب بالعاطفة والمرح. ومع دخول الطفل السبعة الثانية "يُؤدَّب سبع سنين"(2)، وعندها يمكن اعتماد التفهيم، وشيئاً فشيئاً المحاسبة والمجازاة في أواخر سنيّ هذه المرحلة. وفيما لو تمّ التعليم والتأديب الحسن، يتخلّق الولد بهذه القيمة. وفي دخوله ساحة التكليف الشرعي وتحمّله المسؤولية أمام الله دليل على قدرته التامة على ذلك.
أما بعد سن الرابعة عشرة، فيختلف دور الأهل ولا يبقى للتربية نفس المفهوم والأثر؛ لأن انفتاح الأبناء على البيئة والمحيط، وتعدّد قنوات الاستفادة ممن ومما حولهم يكون قد بلغ تمامه، فإذا لم يكن الأهل قد أَعمَلوا دورهم في السنوات السابقة، يقلّ تأثيرهم كثيراً في السنوات اللاحقة.
ووفق هذا المنظار، فإنّ مفاتيح سبعة تعدّ شروطاً لازمة لكل مربٍّ وراع- سواء كان أباً أو أماً- للتربية على الأمانة وهي:
1- ابدأ منذ الصغر
تعدّ السنوات الأولى من حياة الطفل مصيرية في بناء مستقبله. قال أمير المؤمنين عليه السلام محدِّثاً ولده الحسن عليه السلام: "إنما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبُّك"(3). وتزداد أهمية هذه السنوات عندما ندرك أنها تؤسس للثقة التي يحتاجها الأطفال لتظهر فيهم الأمانة. فحينما يستجيب الأهل بشكل صحيح لبكاء الطفل أو ابتسامته، ويتفاعلون إيجاباً مع انفعالاته واحتياجاته، فإنهم يزرعون الثقة بهم في نفسه. وعندما يعلّمونه لاحقاً أن "لا تلمس هذا لأنه حار" و"لا تقترب من هناك لأنك قد تقع" تزداد ثقته بهم وإحساسه بالأمان معهم. ومعلوم أن الطفل الذي يثق بالآخرين ويأمن إليهم يصبح يسيراً عليه أن يكون أهلاً للثقة وللأمانة.
2- أنشئ علاقة وطيدة بولدك
يتأثر الطفل كثيراً بمن يحب ويحترم. لذا، عامل طفلك باحترام ومحبة فيكون لك تبعاً.
الأطفال ملوك التقليد! فإذا كانت المحبة متينة صار الطفل يدك المطيعة وأُذُنَك الواعية. وعندما يشعر أنه محبوب من قبل أهله لن يكذب للتملص من أخطائه، ولن يطمع فيما ليس له ليشعر بالثقة، ولن يخون فلاناً لكسب رضا آخر. الطفل المطمئن عاطفياً يعرف كيف يكون أميناً.
3- أمّن له بيئة ملائمة
تحدّث أمام طفلك عن قيمة الأمانة وكم يحبها الله، اسرد قصصاً وأمثلة عنها. عندما تمجّد الأسرة الأمانة وتؤديها، وتذكّر بها وتعين عليها، فمن المرجح أن ينشأ الأبناء عليها. شجّع السلوك الأمين وحذّر مما يخالفه. حدّد عواقب واضحة لعدم الالتزام بالمسؤوليات أو عدم أداء الحقوق. اشرح لماذا هذا مسموح وذلك ممنوع ليتمكن الطفل من الالتزام وأن يعرف لماذا ينبغي له أن يفعل ما يجب فعله. واحرص على أن يختار ولدك الأصدقاء، الذين يحملون نفس القيم المرغوبة.
4- تجنّب تهيئة أرضية الخيانة
لا تلاحق ولدك بأسئلة تضطرّه للكذب خوفاً أو تهرباً. لا تستجوبه أو تُرق ماء وجهه فيضطر إلى الإنكار أو الخيانة. ذكّر الطفل بما عليه وتجاوز عن هفواته. صحِّح كلامه ولا تُعِنه على المراوغة. لا تلجأ أنت إلى الكذب لتبرّر إهمالَ أو خطأ ولدك أمام الآخرين. علّم ولدك أن الصدق مهما كان هو المقبول؛ وأن استحقاق درجة جيد في مسابقة أفضل بكثير من درجة ممتاز ينالها بالغش ليكسب رضاك.
5- كُنِ القدوة
كن داعياً بغير لسانك. التزم أنت بالقوانين، وبما تريد لأبنائك أن يتحلّوا به من الآداب والأخلاق والدّين: صلِّ في أول الوقت، تأكد من حلّية ما تأكل أسرتك، لا تتجاوز حدّ السرعة، لا ترمِ النفايات من نافذة السيارة، لا تتلفظ بكلمات نابية، اعتذر عند الخطأ، فِ بوعدك، بل لا تعد إلا بما يمكنك أن تفيه، احذر المزاح غير الصادق؛ احترم خصوصيّة ولدك ولا تجعل أغراضه مستباحة لك. إنها تفاصيل يوميّة صغيرة ولكن ينتبه لها الأولاد. وكن على بيّنة من أن ما يلحظه أولادك منك هو ما تريدهم أن يتعلموه. كُنْ أميناً بالفعل ثم بالقول؛ هذا خير تعليم تقدّمه لأولادك.
6- أعطِ الطفل الفرصة للتطبيق
يحتاج الطفل إلى فرص يثبتُ من خلالها أمانته. لذا، كلّف أولادك ببعض الوظائف والمسؤوليات. وابدأ من الأعمال الصغيرة والمهام البسيطة، ثم تدرّج بالمهام نحو الأصعب ككتمان سرّ أو الاحتفاظ بوديعة، مع ملاحظة عمر الولد. وتذكّر؛ ينبغي أن تكون هذه المهام بمثابة الفرص لا العقوبات، وفرصة لترسيخ المبادئ لا لإصدار الأحكام. إذا أخطأ الطفل مرة، صحّح له. وإن أعاد الكرة لا تعتبر أنها صارت عادة. ذكِّر، فالأطفال ينسون.
أشرك طفلك في اختيار الأعمال ووضع قوانين إنجازها وتحديد عواقب إهمالها. فهذا يرفع من مستوى تحمّله للمسؤولية.
اختبر ابنك بنحو غير مباشر. لا ينبغي للطفل أن يأخذ ما ليس له مهما كان، حتى ولو كان قطعة نقود بقيمة مئتين وخمسين ليرة.
اترك نقوداً في أماكن مختلفة من المنزل كل مرة. وإذا لاحظت أن ولدك يأخذ النقود، اشرح له بحرص ومحبة معنى الخيانة. إذا لم يمد يده إليها، اثنِ على فعله، وليس على ولدك نفسه. يحتاج الطفل إلى هكذا دعم لكي تترسخ سلوكيّاته الحسنة.
ختاماً، وبالرغم من أننا لا نملك نتيجة التربية، يؤكد الخبراء أن الأهل الذين ربّوا أولاداً ووثقوا بهم كبروا على الأمانة. ثق بأولادك، على أملَ أن تثمر ثقتك القيم المطلوبة.
(*) باحثة وكاتبة في شؤون الأسرة والمرأة والطفل.
1- الوافي، الفيض الكاشاني، ج23، ص1379.
2- م.ن.
3- نهج البلاغة، من وصيّة الإمام لولده الحسن عليه السلام، خطبة 31.