الشهيد السيّد عبد الحسين دستغيب قدس سره
عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: «إنّ لقمان قال لابنه: يا بنيّ، صاحب العلماء وجالسهم، وزرهم في بيوتهم، لعلّك إن تشبههم فتكون منهم»(1).
لماذا هذا التشديد على صحبة العلماء والصادقين والأخيار؟ الإجابة في هذا المقال استكمالاً لما عرضناه في العدد السابق.
* علامات أهل اليقين
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تجلسوا عند كلّ عالم إلّا عالم يدعوكم من الخمس إلى خمس:
1. من الشكّ إلى اليقين.
2. ومن الكِبر إلى التواضع.
3. ومن الرياء إلى الإخلاص.
4. ومن العداوة إلى النصيحة.
5. ومن الرغبة إلى الزهد"(2).
إنّ المراد من الدعوة إلى اليقين والتواضع والإخلاص والزهد والنصيحة ليس مجرّد الدعوة باللسان، إذ لا فائدة منها، بل هي تعطي نتيجة معكوسة، لأنّ الشخص الذي يدعو غيره باللسان إلى اليقين والتواضع والإخلاص، ولكنّه يكون من أهل الشكّ والرياء والكِبر والعداوة وحبّ الدنيا. سيؤثر سلباً على غيره؛ فإنّ هذه المفاسد ستزيد في ذلك الشخص الآخر بنسبة أكبر، وسيقول: لو كان هذا صحيحاً لالتزم هو بها!
وإذا لم يعرف بأنّ من وعظه لا يلتزم بمواعظه، فإنّ ظلمة شكّ الواعظ وريائه وتكبّره ستترك أثرها في وعظه. فالمراد بالدعوة، إذاً، الدعوة إلى المحاسن المذكورة بواسطة القول والعمل وببركة نورانيّة باطنه أي قلبه، ليتأثّر جليسه ومحدّثه بتلك الآثار المذكورة.
قال الحواريّون لعيسى ابن مريم L: يا روح الله، من نجالس؟ قال عليه السلام: "من (تذكّركم بالله) رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله"(3).
يقول الإمام الباقر عليه السلام: "لمجلس أجلسه إلى من أثق به، أوثق في نفسي من عمل سنة"(4).
* صورة الأصدقاء عند الموت
يقول أمير المؤمنين عليه السلام إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "انظروا من تحادثون، فإنّه ليس من أحد ينزل به الموت إلّا مثل له أصحابه إلى الله، إن كانوا خياراً فخياراً، وإن كانوا شراراً فشراراً، وليس أحد يموت إلّا تمثّلت له عند موته"(5).
وتؤيّد هذا الحديث رواية عن أنس بن مالك، قال:جاء رجل من أهل البادية -وكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية-، يسأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، متى قيام الساعة؟ فحضرت الصلاة، فلمّا قضى صلاته قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: فما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها من كثير عمل، صلاة ولا صوم، إلّا أنّي أحبّ الله ورسوله، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: المرء مع من أحبّ"(6).
حقّاً، إنّ أهل اليقين الذين تتوفّر فيهم الأوصاف المذكورة، يندر وجودهم، خصوصاً في زماننا.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمنة أعزّ من المؤمن، والمؤمن أعزّ من الكبريت الأحمر، فمن منكم رأى الكبريت الأحمر؟"(7).
عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: يا أبا محمّد، الإسلام درجة؟ قلت: نعم، قال: والإيمان على الإسلام درجة؟ قلت: نعم، قال: والتقوى على الإيمان درجة؟ قلت: نعم، قال: واليقين على التقوى درجة؟ قلت: نعم، قال: فما أوتي الناس أقلّ من اليقين، وإنّما تمسّكتم بأدنى الإسلام فإيّاكم أن ينفلت من أيديكم"(8).
إذاً، كم ينبغي أن نخاف ونحذر ونتضرّع إلى الله باستمرار ليثبّتنا ويكون ورد لساننا دائماً دعاء الغريق: "يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك"(9).
يقول عليّ بن جعفر: "سمعت أبا الحسن (الإمام الرضا) عليه السلام يقول: ليس كلّ من قال بولايتنا مؤمناً، ولكن جعلوا أنساً للمؤمنين"(10).
* الصحابة القلّة
عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر (الباقر) عليه السلام: جُعلت فداك، ما أقلنا (أي الشيعة) لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا أحدّثك بأعجب من ذلك، المهاجرون والأنصار ذهبوا إلّا -وأشار بيده– ثلاثة، قال حمران: جُعلت فداك، ما حال عمّار؟ قال: رحم الله عمّاراً أبا اليقظان بايع وقُتل شهيداً، فقلت في نفسي: ما شيء أفضل من الشهادة؟ فنظر إليّ فقال: لعلّك ترى أنّه مثل الثلاثة؟ أيهات(11) أيهات"(12).
وفي رواية أخرى: قال: قال أبو جعفر (الباقر) عليه السلام: "ارتدّ الناس إلّا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذرّ والمقداد. قال: قلت: فعمّار؟ قال: قد كان جاض جيضة، ثمّ رجع، ثمّ قال: إن أردت الذي لم يشكّ ولم يدخله شيء فالمقداد، فأمّا سلمان فإنّه عرض في قلبه أن عند أمير المؤمنين عليه السلام اسم الله الأعظم لو تكلّم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا! فلبب ووجئت عنقه حتّى تركت كالسلقة، فمرّ به أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أبا عبد الله، هذا من ذاك بايع، فبايع. وأما أبو ذرّ فأمره أمير المؤمنين عليه السلام بالسكوت، ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم، فأبى إلّا أن يتكلّم، فمرّ به عثمان فأمر به، ثمّ أناب الناس بعد، فكان أوّل من أناب أبو سنان الأنصاريّ وأبو عمرة وشتيرة وكانوا سبعة، فلم يكن يعرف حقّ أمير المؤمنين عليه السلام إلّا هؤلاء السبعة"(13).
* أهل اليقين وإطاعة الإمام عليه السلام
عن مأمون الرقي قال: كنت عند سيّدي الصادق عليه السلام إذ دخل سهل بن الحسن الخراسانيّ فسلّم عليه ثمّ جلس، فقال له: يا بن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مئة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له عليه السلام: اجلس يا خراسانيّ رعى الله حقّك، ثمّ قال: يا حنيفة اسجري التنّور، فسجرته حتّى صار كالجمرة وابيضّ علوّه، ثمّ قال: يا خراسانيّ، قم فاجلس في التنّور، فقال الخراسانيّ: يا سيّدي، يا بن رسول الله، لا تعذّبني بالنار، أقلني أقالك الله، قال: قد أقلتك. فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكّيّ ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله، فقال له الصادق عليه السلام: ألقِ النعل من يدك واجلس في التنّور، قال: فألقى النعل من سبابته ثمّ جلس في التنّور، وأقبل الإمام عليه السلام يحدّث الخراسانيّ حديث خراسان حتّى كأنّه شاهد لها، ثمّ قال: قم يا خراسانيّ وانظر ما في التنّور، قال: فقمت إليه فرأيته متربّعاً فخرج إلينا وسلّم علينا، فقال له الإمام عليه السلام: كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقال: لا والله، ولا واحداً. فقال عليه السلام: لا والله، ولا واحداً، فقال: أمّا إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت"(14).
*مقتبس من كتاب: القلب السليم، ج 1، ص 249- 253.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 1، ص 205.
(2) المصدر نفسه.
(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 39.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه، ج 2، ص 638.
(6) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 17، ص 13.
(7) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 242.
(8) المصدر نفسه، ج 2، ص 52.
(9) من أدعية عصر الغيبة: كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص 352.
(10) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 244.
(11) أي بعد عن الحقّ رأيك.
(12) المصدر نفسه، ج 2، ص 244.
(13) اختبار معرفة الرجال (رجال الكشي)، الشيخ الطوسي، ج 1، ص 52. ومعنى لبب: أخذ بتلابيبه أي بخناقه، ووجئت عنقه: ضربت حتّى صارت كالسلقة، وفي رواية كالسلعة وهي كالدملة، وجاض جيضة الواردة في عمّار: المشهور أنّها حاص حيصة بالحاء المهملة. (المترجم)
(14) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 47، ص 123.