ضحى حمادي*
إنّ خسارة السمعة والصورة اللتين عملت «إسرائيل» طويلاً على تكريسهما كـ«دولة ديمقراطيّة» في الشرق الأوسط، ليست بالأمر الذي يمكن لها أن تتخطّاه، خصوصاً مع ارتفاع الأصوات اليهوديّة في العالم، والتي ترفض استخدام «الهولوكست» لتبرير الإبادة في غزة، ناهيك عن الرفض العالميّ لما يجري هناك؛ فكلّها خسائر متحقّقة حتّى الآن.
* طوفان الأقصى يسحق "هيبة" الكيان
أثبتت الحرب أنّ "الكيان" بحاجة إلى جيش كبير، وأنّ حجم الخسائر والحاجة إلى بناء القوّة يتطلّبان زيادة عدد القوّات النظاميّة والاحتياط، الأمر الذي سيفجّر الداخل الإسرائيليّ، وهو ما بدأت إرهاصاته الآن في ظلّ رفض الحريديم عمليّات التجنيد.
كما أنّ الخسائر التي مُني بها الجيش الإسرائيليّ متعدّدة الطبقات والمستويات، سواء كانت تكتيكيّة أم استراتيجيّة، داخليّاً وخارجيّاً، فلم يعد قادراً على تغيير أيّ واقع في المنطقة، في ظلّ عجزه عن تحقيق انتصار في أيّ معركة. كما بات يفتقر إلى مقوّمات الصمود والتماسك الذاتيّين، اللذين يؤهّلانه للتعامل مع المعارك المستقبليّة، في مقابل الصمود الأسطوريّ للمقاومة الفلسطينيّة وعمليّاتها النوعيّة مع القدرة على الثبات لأشهر أخرى من الحرب، على الرغم من الحصار وضيق المساحة الجغرافيّة والظروف الصعبة.
ومع استمرار الحرب، يتعمّق الضرر بين المجتمع والحكومة، إذ إنّ علاقة الثقة التي كُسرت بين غالبيّة المجتمع الصهيونيّ والحكومة تتطلّب سنوات طويلة لاستعادتها. وأخطر ما في ذلك أنّ الإنجاز العسكريّ والسياسيّ، في حال تحقّق، لن يستمرّ إذا كُسرت الجبهة الداخليّة. في المقابل، يدرك المدنيّون، في غزّة والضفّة الغربيّة على السواء، حجم التضحيات التي تبذلها المقاومة، ويؤمنون بإخلاصها لقضيّة بلادهم، فيتحمّلون الأذى معها، ويعوّلون عليها في الثأر لهم.
إنّ تراجع القوّة والهيبة والردع والقدرة على المواجهة، أجبر الكيان على الاستعانة بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وبدول غربيّة من أجل تأمين الحماية له لأنّه أصبح عاجزاً عن حماية نفسه. وثبت أكثر عجز القوّة الدفاعيّة عن حماية الكيان والمستوطنين، حيث إنّ صواريخ المقاومة ومسيّراتها تصل إلى عكا والنقب وسيدروت في ظلّ التأهّب الأقصى للقبّة الحديديّة، ومقلع داوود، والأقمار الصنّاعيّة الأمريكيّة والإسرائيليّة والغربيّة.
* النازحون الصهاينة دون انتماء للأرض
وجد النازحون الصهاينة أنّ التضحيات التي قدّموها في حماية الحدود وتحمّل خسارة المنزل والبيئة والعمل، أصيبت مرّة أخرى بخيبة أشدّ قسوة مقارنة بالتوقّعات والوعود التي قُدّمت لهم. وقد بنى المستوطنون على أساسها خططهم وآمالهم وحدود تحمّلهم، وأوّلها حسم حلّ العودة الآمنة قريباً، تماماً في التوقيت الذي بدأ فيه المجتمع بفقدان المناعة لامتصاص الصدمات؛ فتراجعت قدرته على التعامل مع التحدّيات، وضعفت أرضيّة التّحمّل، وأصبح الميل إلى الاستسلام للواقع الجديد والجنوح نحو بناء مسار وخطط منفصلة عن الخطّة الحكوميّة المبهمة واضحاً جدّاً. لذلك، وجد النازحون أنّ الحلّ ببساطة يكمن في عدم العودة إلى المناطق الحدوديّة حيث يمكن استبدالها ببساطة بمناطق أخرى، فهي ليست أرضهم ليعودوا إليها.
* قابليّة الترميم على المدى الطويل
إذا استطاع الكيان تحقيق صورة نصر، سترتفع معنويّات الصهاينة (مستوطنون وقادة وجيش)، الأمر الذي سيمنحهم دافعاً أكبر على الترميم بشكل أسرع في مجالات عدّة، منها:
أوّلاً: اقتصاديّاً
1. محاولة الكيان تعبئة الموارد الماليّة وتحصيل الدعم الغربيّ، واستثماره في إعمار البنية التحتيّة المتضرّرة، وتعزيز القدرة على استئناف الإنتاج الصناعيّ والقطاعات الحيويّة، والتعافي الاجتماعيّ.
2. اتّخاذ مختلف الإجراءات التي من شأنها استعادة جذب الاستثمارات إلى داخل الكيان، واسترجاع مكانته في التصنيف الائتمانيّ.
3. فكّ الحصار اليمنيّ عن الكيان، وهو ما سيعيد سلاسل التوريد الدوليّة بشكلٍ أكبر، فتنشط حركة الموانئ.
ثانياً: دوليّاً
1. محاولة الكيان الحصول على دعم ماليّ وعسكريّ ودبلوماسيّ أكبر من حلفائه خلال مرحلة التعافي، والسعي إلى تحصيل مساعدات من الدول المطبّعة.
2. السعي إلى بلورة سرديّة جديدة تحاكي حجم "الظلم" والخسائر التي تكبّدها نتيجة هجمات حماس ومحور المقاومة لجذب الدعم الدوليّ.
ثالثاً: عسكريّاً
1. الاستفادة من التجربة العسكريّة خلال الحرب وترميمها بناءً على الدروس المستفادة، وخاصّة في ما يتعلّق بالاستخبارات، بعد فشل الوصول إلى الأسرى داخل غزّة.
2. ارتفاع معدّلات الثقة بالجيش وحاجة المستوطنين إليه خشية تكرار حادثة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، ما يحقّق للكيان مرونة أكبر في إمكانيّة تجنيد جنود جدد وتدريبهم وتجهيزهم، ومحاولة توفير الاحتياطات من حيث الأفراد والمعدّات التي ستعزّز قوّته على الحدود، ما يرفع الشعور بالأمن والأمان.
3. السعي إلى ترميم الجيش بعد إثبات فشل سياسة تقليص القوّات خلال آخر 20 عاماً وإهمال ذراع البرّ، بشكلٍ يسمح بالمبادرة إلى تنفيذ ضربات استباقيّة والدفاع عن الكيان مرّة أخرى.
* ترميم الحالة النفسيّة
بعد محاولات الترميم والمعالجة في المجالات أعلاه، سيسعى الكيان إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعيّ والنفسيّ من خلال تكريس صورة نصر وهميّ لاستدراج مساعدات ماليّة وتكنولوجيّة ولوجستيّة من الدول الحليفة والمطبّعة. وهو سيحتاج على الأقلّ من 5 إلى 7 سنوات ليتمكّن من ترميم خسائره على الصعيد الاقتصاديّ.
بحسب السيناريو السابق، ربّما سيتعافى مستوطنو الكيان الذين لم يتضرّروا بشكلٍ مباشر في الحرب بشكلٍ أسرع من الذين نزحوا من مستوطنات غلاف غزّة والمستوطنات الشماليّة (نحو 120 ألف)، وذلك بسبب ما تعرّضوا له خلال الحرب من نزوح وإهمال الحكومة لهم. وسيحتاج الكيان على الأقلّ إلى سنتين لترميم الوضع النفسيّ والاجتماعيّ لمستوطني الشمال والجنوب.
* الترميم السياسيّ
سيعاني الكيان من مشكلة ترميم وضعه السياسيّ سواء في حال الهزيمة في الحرب أو تحقيق صورة نصر وهميّ:
1. في حال الهزيمة: ستتفاقم الانقسامات السياسيّة الداخليّة وستتصاعد أصوات المعارضة المطالبة بإسقاط نتنياهو وتحميله مسؤوليّة الهزيمة، ما يزيد الشرخ بين مكوّنات المجتمع الصهيونيّ.
2. في حال تحقيق صورة النصر الوهميّ: سيتحقّق دافع أكبر لتثبيت نتنياهو كقائد حقّق النصر للكيان، فتتفاقم الخلافات الداخليّة السياسيّة السائدة ما قبل الحرب حول صعود اليمين المتطرّف.
* الهزيمة مؤشّر بداية الزوال
إذا انهزم الكيان الحرب، لن يكون من المبالغة القول إنّ كابوس الزوال سيبدأ بالتحقّق فعليّاً، وذلك من خلال:
1. تعمّق الخلافات السياسيّة الداخليّة بين المؤسّستين العسكريّة والسياسيّة من جهة، واليمين المتشدّد والمعارضة من جهة أخرى.
2. تراجع فرص الحصول على مساعدات ماليّة وتكنولوجيّة ولوجستيّة من الدول الحليفة والمطبّعة، وتراجع أكبر في الاقتصاد، والحاجة إلى وقت أكثر لإعادة الإعمار.
3. فقدان القدرة على تطوير القوّة العسكريّة، وفشل في محاولات التجنيد.
4. زيادة شعور المستوطنين في عدم الأمن والثقة بقيادة الاحتلال، وارتفاع الشعور بالتهديد، وانحدار تدريجيّ في تعافي حالة المستوطنين النفسيّة.
5. انخفاض المعنويّات العامّة، وعدم القدرة على التكيّف مع الواقع الجديد، وزيادة الشرخ بين مكوّنات المجتمع الصهيونيّ.
6. ارتفاع نسبة الهجرة العكسيّة.
إذاً، في حال مُنيَ العدوّ بالهزيمة أو حقّق صورة نصر وهميّ، كما هو حاله بعد أن أرغم على وقف إطلاق النار مع المقاومة في لبنان نتيجة صمود المقاومة وتكبّده خسائر فادحة فإنه سيواجه مزيداً من التصدّع داخل جبهته الداخليّة، بحيث ستتطوّر الانقسامات، وسيزداد حجم الشرخ بين جميع الأطراف على صعيد الرأي العامّ الدوليّ، أي أنّنا سنشهد بداية تفسّخ هذا الكيان، وهو قريب.
*باحثة في الشؤون الإعلاميّة.