حوار مع أحد مجاهدي المقاومة الإسلامية
سؤال كبير يُطرح في كلّ مرّة تخوض فيها المقاومة الإسلاميّة حرباً ضدّ جيش العدوّ الإسرائيليّ، أقوى جيوش المنطقة عدّة وعتاداً: كيف سننتصر؟
إذا قاربنا موضوع النصر والانتصار ببُعده الماديّ، لما وجدنا له جواباً؛ لأنّ ثمّة في العلم العسكريّ ما يسمّى بـ»جدول ميزان القدرة القتاليّة» للجيوش، الذي يستعرض كلّ إمكاناتها وترساناتها العسكريّة، وهو ما لا يمكن مقارنته بما لدى المقاومة الإسلاميّة من قدرات. فكيف كانت المقاومة تنتصر إذاً؟ الجواب في هذه المقاربة التي يستعرضها أحد المجاهدين.
* القلّة في مواجهة القوّة
فلنعد بالذاكرة إلى عام 1982م، حينما وجدت المقاومة نفسها في مواجهة جيش يعيش نشوة الانتصار على المقاومة الفلسطينيّة وبعض الجيوش العربيّة. في ذاك الوقت، انطلقت المقاومة من مبادرات فرديّة وبوسائل قتاليّة بدائيّة للغاية، وإذ بها تجد نفسها في مواجهة جيش يمتلك من الطائرات والدبّابات والصواريخ والقذائف ما لا يمكن تخيّله أو إحصاؤه!
في ظلّ كلّ هذه الظروف الصعبة، استطاعت المقاومة أن تتصدّى للاجتياح الإسرائيليّ للبنان، وتدحر بعد 18 سنة، أي في عام 2000م، هذا العدوّ عن أراضينا، فألحقت الهزيمة بالجيش "الذي لا يُقهر"!
هل حصلت المقاومة على مدى 18 سنة على طائرات، أو توازن سلاح، أو قدرات نوعيّة؟ الجواب هو كلا، وإنّما ما طرأ هو تكريس معادلة انتصار جديدة طرأت على طبيعة الصراع حتّى أدّت إلى هذا الانتصار غير المتوقع والمسبوق. في الحقيقة، كان ثمّة سرّ على مدى كلّ تلك السنوات بما تخلّلته من تضحيات وشهداء وجرحى وشقاء، حتّى بات هاجس العدوّ هو حلّ لغز هذا السرّ أو ما أسماه بـ "فكّ شيفرة حزب الله"؛ إذ كيف لهذه الثلّة القليلة المجاهدة بما تمتلكه من قدرات متواضعة أن تنتصر على هذا الجيش المدجّج بأكثر أنواع الأسلحة تطوّراً؟
* ذروة الإجراءات... واندحار
شهد عام 2000م ذروة إجراءات العدوّ الدفاعيّة؛ إذ إنّه كان يزداد قوّة وصلابة يوماً بعد يوم، وعمليّة بعد عمليّة، وصراعاً بعد صراع، حتّى بات لا يوجد بقعة في العالم يحتشد فيها هذا الحجم من الإجراءات والمواقع والأسلحة والتقنيّات كما هو الحال في هذه البقعة. والسؤال المهمّ الذي يُطرح هنا: كيف يمكن لدولة وصلت إلى ما وصلت إليه من ذورة الإجراءات عام 2000م، أن تندحر عن الأراضي التي احتلّتها في ذاك العام نفسه؟! بكلّ بساطة، ثمّة معادلة مختلفة عن المعادلات التي تعلّمناها في الكتب، وهذا هو إرثنا وسرّنا الأعظم، أو بالأحرى هذه هي الشيفرة التي حار العدوّ في أمرها ولا يعرف كيفيّة فكّها. ما هذا السرّ؟ هو ما سنكتشفه تباعاً.
* صورة الردع في الواجهة
لم تكن فكرة الانسحاب الإسرائيليّ مطروحةً في ذلك الوقت، إلى أن قال لنا سماحة السيّد حسن نصر الله عام 1998م في لقاء معه، أنّ ثمّة كلاماً عن الانسحاب الإسرائيليّ، وتلك كانت المرّة الأولى التي نسمع فيها هذا الكلام منه. فقلنا حينها: "تخيّلوا يا إخوان أن ينسحب العدوّ الصهيونيّ في يوم من الأيّام، وتتحوّل هذه المنطقة إلى مكان سياحيّ، ويأتي الناس من أقطار العالم لزيارتها!". كانت هذه الفكرة ضرباً من الخيال، لذلك أنهينا الحديث بالضحك. وبالفعل، بقي النقاش لنحو عامين عن شكل الانسحاب بما يحافظ على الردع، هذا كان هاجس العدوّ حينها؛ لأنّ "إسرائيل" قائمة على ركيزة اسمها "الردع"؛ أي أنّها تنظر إلى نفسها على أنّها دولة قويّة لا يمكن هزيمتها، فإمّا أن يضع الطرف الآخر يده في يدها ويصالحها، وإلّا فستدّمره وتقتله. ولذلك، فالمحافظة على الردع هي من الثوابت التي ترتبط بوجود هذا الكيان. ولكنّ الرياح جرت بما لا تشتهيه سفنه، إذ مُني بهزيمة أفقدته ما تبقّى من تلك الصورة.
حرب 2006م كانت محطّةً جديدةً من الاختبار في تاريخ الصراع. هي لم تكن صدفة، بل كان يتحضّر لها العدوّ منذ زمن عدّةً وتخطيطاً وتدرّباً، وكلّ ذلك ليحقّق الحسم القاطع، ويعيد "لدولة إسرائيل" ما فقدته عام 2000م، لأنّ عقدة ذلك العام ظلّت راسخة في ذهن الإسرائيليّ، فاندلعت حرب تمّوز عام 2006م تحت عنوان استعادة الردع.
* الصراع غير المباشر
أدركت "إسرائيل" أنّها لا يمكنها هزيمة هذه الفئة بالقتال، فاستبدلت الصراع المباشر بالصراع غير المباشر، فدخلنا في جيل جديد من الحروب يسمّى "الجيل الرابع" من الحروب، والتي ترتكز على إيجاد البديل، ومن أبرز ركائزها، التماثل من حيث الشكل والهويّة والدين، فبرز العدوّ الداعشيّ في حرب سوريا عام 2011م.
حصل هذا العدوّ على كافّة أشكال الدعم العالميّ، من إمكانات وأسلحة واستخبارات، لدرجة أنّ حزب الله واجه حينها حرباً كونيّة في وجه أعتى عدوّ يمتلك من ثقافة التوحّش ما ليس له مثيل في تاريخ البشر؛ فعناصره يقاتلون ليقتلوا فقط، فينغمسون بين الناس ويفجّرون أنفسهم، هذه هي عقيدة هؤلاء.
استمرّ الصراع 8 سنوات مع تلك الجماعات في جغرافيا مترامية الأطراف لا حدود لها، وقد خاض فيها مجاهدونا كلّ أنواع القتال والحروب الجديدة والصعبة: حروب الجبال، والصحاري، والمدن، والفلوات، والأنفاق. فتحوّلت المقاومة إلى قوّة هجوميّة بعدما كانت دفاعيّة، وهذا تبدّل كبير جدّاً وغير معهود.
* نوع جديد من الحروب
نلاحظ أنّه بعد كلّ تلك الاختبارات الصعبة، حصلت 6 حروب في غزّة في أعوام: 2008م، 2009م، 2012م، 2014م، 2021م، 2022م، وقد أراد الله لنا من خلالها استقاء الدروس والعِبر. والدليل على ذلك أنّ الإسرائيليّ في الوقت الذي كان يخوض فيه حروبه ضدّ الفلسطينيّين، فإنّه كان يتحدّث مراراً وتكراراً عن الحرب الثالثة مع لبنان، وكان يراكم التجارب والخبرات ويزداد قوّةً وتسلّحاً، إلى أن وصل إلى استنتاج جديد، وهو أنّ لا إمكانيّة لدى الجنديّ الإسرائيلي لأن يحسم الحروب، فكان الحلّ بإيجاد قوّة تكنولوجيّة خارقة للطبيعة لسدّ الفجوة بين ضعف الجنديّ وتحقيق الانتصار. وهنا، وضعنا الله مجدّداً أمام اختبار جديد من نوعه في تاريخ حروبنا، ألا وهو الحرب الذكيّة التي تستند على الذكاء الصناعيّ. نتيجةً لذلك، أوجد العدوّ جيشاً فيه من القدرات الذكيّة ما يشبه الخيال العلميّ، هو حصيلة ما لدى الغرب من تطويرات سُخّرت خدمةً لهذا الجيش على صعيد القدرات التكنولوجيّة والذكائيّة والتحكّم عن بُعد والأقمار الصناعيّة والحرب الإلكترونيّة.
* طوفان الأقصى والحرب الذكيّة
اندلعت معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 2023م، وقد ارتكزت على طفرة تكنولوجيّة ذكيّة غيّرت ماهيّة الحرب؛ فنظام الدرع الصاروخيّ، مثلاً، بعدما كان يعدّ خيالاً علميّاً، صار واقعاً وله منظومات قبّة حديديّة، فضلاً عن أنّنا بتنا نواجه دبّابات وآليّات تعمل من خلال التحكّم عن بُعد، والأمثلة عن ذلك تطول.
رغم ذلك كلّه، سطّر المجاهدون، كالعادة، بطولات وملاحم تفوّقت على كلّ ما أظهره العدوّ الصهيونيّ من تفوّق. وكانت النتيجة بعد شهرين ونيف من المعارك الطاحنة نصراً جديداً يضاف إلى سجلّ الانتصارات التي حقّقتها المقاومة في صراعها ضدّ هذا العدوّ على مدى عقود.
* التعلّم بالقهر... فرصة
ماذا كانت نتيجة كلّ تلك المحطّات؟ التعلّم بالقهر وليس بالاختيار، أي أنّ الله يأتي إليك فجأةً بحدث من خارج الصندوق ويدفعك للتصدّي، وهذا ما حصل في كلّ المحطّات التي خضناها؛ فاستطعنا تحت النار أن نطوّر عقيدة القتال الهجوميّة.
إذا أردنا أن نحتسب على الورقة والقلم كلّ ما مرّت به المقاومة من 1982م حتّى 2018م، وكلّ ما تعرّضت له من ضغوط وحصار وحرب على السمعة والبيئة، من المنطقيّ أن لا يبقى لها وجود. ولكنّ النتيجة كانت عسكيّة، إذ إنّها ثبتت وصمدت وصبرت وانتصرت.
فما هو القانون الذي خضعنا له حتّى ثبتنا وانتصرنا؟
* هذا هو السرّ
ثمّة أمر اسمه امتحان العبوديّة، وقد لمسناه حقيقةً في الميدان. ففي معارك سوريا، مثلاً، كانت تصل نتائج المعركة إلى درجة امتحان العبوديّة، بمعنى أنّ قلوب الجميع بلغت الحناجر، وكانوا يصلون إلى مرحلة يقولون فيها: "متى نصر الله؟". لقد أوصلنا الله سبحانه وتعالى تلقائيّاً إلى مستوى العبوديّة الذي هو غاية الوجود والهدف من خلق الجنّ والإنس، فكان الجواب الإلهيّ: ﴿ألا إنّ نصر الله قريب﴾.
لكلّ جيش نظريّته في النصر. أمّا نظريّة الله، فيستعرضها لنا القرآن الكريم من خلال آيات كثيرة، منها: ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾، ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾، ﴿إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون﴾، ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾. وهذا ما يوصلنا إلى نتيجتين:
1. لا يوجد عند الله سبحانه وتعالى نقاش في مسألة نصرة المؤمن، فهذا أمر محتوم، والمؤمن منتصر.
2. الله سبحانه وتعالى يهب النصر لمن يليق بهم؛ فإن كنت لائقاً بالانتصار، فالنصر سيكون محسوماً لا لبس فيه ولا شبهة.
إنّ كلّ الشدائد والمحن هي عين اللطف الإلهيّ،ومدرسة كربلاء خير دليل على ذلك؛ فبعدما كانت الأمّة في مكان آخر، لم يكن أمام خطّة الله سبحانه وتعالى إلّا تقديم دم أقدس الأقداس حتّى تستيقظ البشريّة من سباتها. وحتّى لا تُسبى زينب عليها السلام مرّتين في آخر الزمان، علينا أن نبقى في حالة استعداد دائم لنصرة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
نستنتج من هذا المسار أنّ من سينفّذ المشروع الإلهيّ على الأرض في هذا الكون هي هذه الثلّة المؤمنة. لقد حضّرنا الله لكلّ أنواع القتال من خلال الألطاف الإلهيّة الخفيّة التي بدأت تتكشّف من عام 1982م حتّى هذه اللحظة؛ فالله تعالى كان، ولا يزال، ينبّهنا ويدعونا للتهيّؤ والاستعداد لمقارعة الباطل، بالتالي، إقامة دولة الحقّ.