ندى بنجك
ليلة طعمها عسكر، رائحتها رَوح وريحان، حديثها مقمرٌ، دربها مرمر.
هنا الضاحية. منذ وقت بعيد لم يعد الليل فيها مركوناً للنوم أو الاستكانة فقط. ثمّة من له فيها مواعيد راحة مؤجّلة، الليل والنهار سيّان، طالما أنّ الوقت بأكمله باب مفتوح على الجهاد فهو لا يُغلق. وهذه ليلة من عمر طويل، عاشه هذا العابر الجميل، السيّد محسن، كلّ ما فيها يفيض منه وإليه.
هو شريط من مشاهد وحكايات، بدأ يفرض نفسه على الخاطر والوجدان، فلا يمكن أن يكون الذهاب إلى حارة حريك في توقيت كهذا، حيث موسم الحكايات العاصفة في عزّ الصيف، ولحن الحبّ والحرب، اعتياديّاً، خصوصاً بعد أن قام العدوّ بحربه الكونيّة في عام 2006م، وكانت الضاحية، وحارة حريك تحديداً، خلاصة الكبرياء، وأجمل قارورة عطر امتلأت بمسك قمصان مجاهدي حزب الله.
* مهابة اللقاء
ذاهبون إلى بيته في أوّل المساء. ثمّة مهابة تملأ الشعور، فقبل ساعات معدودة كانت فكرة الاستدلال على منزله، مسألة أكثر من مستحيلة. بكلّ ثقة، نمرّ على الدرب الذي لطالما سلكه دون أن يدري به أحد. تُرفع البوّابة الحديديّة فندخل إلى الحيّ. هنا كان يركن سيّارته. وفي المصعد الكهربائيّ نفسه، كان يصعد وينزل. ها نحن عند عتبة الدار. الغريب، أنّه هو من يفتح الباب بنفسه. أليس هو مَن أشار إلى لصق هذه الجملة عند المدخل: «أهل هذا البيت ينتظرون صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف»؟!
* جمال الروح
كلّ شيء في المكان يسحبك من نفسك. يُجلسك في سرداب، وتغور روحك وسط التفاصيل الكثيرة. هذا المكان فيه عمره. أنفاسه تطوف في كلّ غرفة، تزهر في الزوايا، ليس من العاديّ أن تركن قبالة الكنبة التي كان يجلس عليها، فهو لم يكن يجلس وحده، كانت أمّة الجهاد التي على كتفيه وبين عينيه تجلس معه.
السيّد محسن، لا يمكن أن يشبه إلّا نفسه، في كلّ ذرّة وعنوان وتفصيل. هذا هو المكان الذي يأوي إليه بعض وقت خارج المركز، تواضع كبير تلفّه أناقة الرسّامين، ومَن أكثر منه احترف اللوحات والألوان؟ التاريخ إن حكى، سيحكي من عمق الأرض إلى عنان السماء، عن صنع يديه.
* غرفة بطعم الجهاد
مَن يخطر في باله أنّ أرض الغرفة جبهة؟ مكتظّة هي بالخرائط والمعدّات العسكريّة والأسلحة، وإن أحنيت رأسك تنظر فيها، ستدخل في زمان الشرارة الأولى لمسيرة المقاومة، وستنادي عليك أمكنة الجهاد من كلّ البلاد، وستسمع أصوات المجاهدين في كلّ المعسكرات وهم في حالة تدريب واستعداد، وستمرّ إليك كلّ حكايات المراحل الجهاديّة والمنعطفات، العمليّات النوعية على وسعها، وصيحة الميادين تردّد كلّ موقف ووقفة. كان السيّد محسن على مرّ العمر الجهاديّ الذي عاشه، يفترش الأرض بالخرائط والأوراق، على مدّ عينيه والنظر، حيث تبدأ عمليّة التخطيط أو الشرح، مغلقاً الباب على هذه الجداريّة والمشهديّة المتكرّرة، والتي تنقطع بشكلٍ دائم بسبب نداء العمل. كان كلّ شيء يبقى على حاله، فتقوم عائلته بتغطيتها بقماش لتحافظ على ما وضعه إلى أن يعود.
* «ولتُصنع على عيني»
هل تريدون أن تعرفوا حال مكتبته؟ إنّها ليست كأيّ مكتبة. اللافت بدايةً أنّ التواضع ينسحب على هيئتها وشكلها. أمر يكاد لا يصدّق، مثير للدهشة. صفوف الكتب ورفوف خشبيّة مرّ عليها الزمن. تماماً مثل نظرة عينيه التي تُغني عن أيّ كلام، مثل القبّعة التي على رأسه تشرح كلّ مواجهة.
هذا القائد الجهاديّ الكبير، لم يقم فيه ذكر الله جلّ وعلا إقامة مؤقّتة أو عابرة. بل أقام في قلبه إقامة جعلت منه قائداً للنور قبل قيادته لميادين النار، وشمساً ترافق الأجيال المجاهدة على طول الدّرب. «ولتُصنع على عيني»، قال الله عزّ وجلّ كلامه، وباقي الشّرح توضّحه أصابع السيّد محسن بين طيّات الملفّات والكتب، التي طبّق فيها كلام الإمام الخمينيّ قدس سره حبيبه ودليله: «عليك برفع الحُجُب لا بجمع الكتب». هو جمع الكتب وعرف من أين وكيف يفكّ الحرف فيرتقي إلى رتبة الكشف والوضوح.
* «خذ حتّى ترضى»
فكرٌ نوّار وعقل هدّار، اهتمّ بالقرآن وعشقه. واظب على صلاة الليل طيلة عمره ولم يفارقها. قرأ كتب الفكر والفلسفة وتناغم معها. وضع عشرات الإشارات تحت جملٍ موغلة في العرفان في كتاب الآداب المعنويّة للصلاة، وطبع مئات الأوراق والمجلّدات التي ضمّنها برامج في السلوك والأخلاق، وكان يبسطها بيده، أسبوعيّاً، وفي مختلف الأماكن، داعياً المجموعات المجاهدة والتعبويّة والجامعيّة إلى معرفة الجهاد من خلال الجذر الأوّل والأخير، وهو الله جلّ جلاله.
آخر لقاءاته كانت قبل ثلاثة أيّام، وقد تضمّنت شرح: «أرضيت يا ربّ؟ خذ حتّى ترضى»، وتوصياته التي لا تنقطع في كلّ مكان وزمان: «الصلاة على محمّد وآل محمّد».
* حان وقتها
ما زلنا في بيت السيّد فؤاد شكر، إنّها الساعة الثانية فجراً، حان وقت الدّمعة فوق الضريح. روضة الحوراء زينب عليها السلام كأنّها أوّل الصبح. الشبّان يحوّطون المكان ويتهافتون إليه.
مجاهدون، وزهور، وشموع، وصور فيها كلّ تراويحه الفريدة والجميلة. جلسنا ترافقنا بناته العزيزات، مثل طيور عطشى حول النهر، وتمتمة السلام كما لو أنّها صلاة. هنا تصحّ صلاة الليل بأبهى تجلّياتها، وقد حان وقتها.
1- نهج البلاغة، ج 1، ص 44.