الشيخ موسى منصور
تكريماً له واعترافاً بإنجازاته الهندسيّة، أعلن المجلس الأعلى للثورة الثقافيّة في إيران يوم ميلاد الشيخ البهائيّ الذي يصادف في 23 نيسان من كلّ عام، يوماً للمهندس المعماريّ الوطنيّ.
إنّ هذا الإعلان يكشف عن أهميّة الدور الذي أدّاه الشيخ البهائيّ وعن إسهاماته العظيمة التي رفد بها العلوم المختلفة بما ينفع الناس. فهو لم يكن عالِماً عاديّاً، بل كان موسوعيّاً مبدعاً، شارك مشاركة عجيبة في جميع العلوم والفنون المعروفة في زمانه عقليّة ونقليّة، وفي جملتها الفقه والأصول والحديث والتفسير واللغة، وكان أيضاً من علماء الفلك في العالم الإسلاميّ، ورائداً في الهندسة المعماريّة والتخطيط المدنيّ.
* من هو الشيخ البهائيّ؟
الشيخ البهائيّ (953 - 1030هـ/ 1547 - 1621م) هو الشيخ بهاء الدين محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثيّ الهمدانيّ العامليّ الجبعيّ. لُقّب بـ(الجبعيّ) نسبة إلى قرية (جباع) في النبطيّة والتي هي موطن أسرته، وبـ(الحارثيّ) نسبةً إلى جدّه الأعلى الحارث الهمدانيّ صاحب أمير المؤمنين عليه السلام.
الأشهر أنّه ولد في مدينة بعلبك اللبنانيّة، وانتقل مع والده إلى إيران، ليعيش في عهد الدولة الصفويّة التي شهدت حركةً علميّة واسعة آنذاك.
حظي الشيخ البهائيّ باحترام الشاه عبّاس الصفويّ في أصفهان إلى درجة أنّ الأخير عيَّنه في منصب شيخ الإسلام في الدولة الصفويّة، وهو أعلى منصب رسميّ آنذاك، وقد انتفع من الإمكانات التي توفَّرت لتلك الدولة، فاستفاد منها في خدمة التشيّع.
وقد استطاع الشيخ البهائيّ من خلال إسهاماته الفنيّة والمعماريّة أن يجعل أصفهان إحدى أجمل مدن العالم، بحيث «بلغت من الازدهار، بأبعاده المختلفة، درجة كبيرة من العظمة والجمال، ووُصفت بأكبر مدن الشرق إذ فاقت بأهميّتها الحضاريّة آنذاك باريس ولندن... حتّى جاء مصداق المثل الإيرانيّ واضحاً: «أصفهان نصف جهان»، وتعني: «أصفهان نصف العالم»(1). قال عنه الشيخ الحرّ العامليّ: «حاله في الفقه والعلم والفضل والتحقيق والتدقيق وجلالة القدر وعظم الشأن وحُسن التصنيف ورشاقة العبارة وجمع المحاسن أظهر من أن يُذكر، وفضائله أكثر من أن تُحصر، وكان ماهراً متبحّراً جامعاً كاملاً»(2). وقال عنه تلميذه الشيخ محمّد تقي المجلسيّ، المعروف بالمجلسيّ الأوّل(3): «كان شيخ الطائفة في زمانه جليل القدر، عظيم الشأن، كثير الحفظ، ما رأيت بكثرة علومه ووفور فضله وعلوّ مرتبته أحداً»(4).
توفّي الشيخ في عام 1030هـ/ 1621م في أصفهان، ومنها نُقل إلى المشهد الرضويّ المقدّس تنفيذاً لوصيّته، حيث دُفن قرب الحضرة المقدّسة.
* فرادة الشيخ البهائيّ في الهندسة
يمكن تقدير هذه الفرادة من خلال جوانب مميّزة عدّة تعكس عبقريّته وابتكاره في هذا المجال:
1. الجمع بين العلم والفنّ: استطاع الشيخ البهائيّ ببراعة أن يجمع بين معارفه العلميّة في الرياضيّات، والفلك، والفيزياء مع حسّه الفنيّ الرفيع المستوى لخلق تصاميم معماريّة وهندسيّة مبتكرة. هذا التكامل بين العلم والفنّ جعل أعماله فريدة وقادرة على الصمود أمام الزمن.
2. الابتكارات الهندسيّة: أظهر الشيخ البهائيّ قدرة استثنائيّة على ابتكار حلول هندسيّة معقّدة للتحدّيات العمليّة، مثل تصميمه لنظام تدفئة في قصر «عالي قابو» الذي يحتوي ممرّاً سريّاً آمناً للنساء في حال حصول أيّ هجوم على القصر، وابتكاره غرفة كبيرة تردد الصدى لسبع مرات أيضاً، وتصميمه قنوات مائيّة في مدينة نجف آباد تعدّ من الأعاجيب الهندسيّة في عصره، حيث صمّم اتجاهات الشوارع بما يتلاءم مع حركة الريح وحركة شروق الشمس وغروبها للتحكّم بأمكنة الظلّ والتهوئة، وقام بتوزيع قنوات الريّ من 11 بركة على الأحياء والمنازل، معظمها لا يزال يستعمل حتى اليوم(5).
3. الاستفادة من العلوم الدقيقة: استخدم الشيخ البهائيّ معرفته العميقة بالرياضيّات والفلك في تصميم المباني والأماكن العامّة بطريقة تعكس الدقّة الهندسيّة والجماليّة. كانت تصاميمه تعبّر عن فهم عميق للأبعاد والنسب والتوازن، ممّا جعل أعماله تتميّز بالانسجام والتناسق.
4. التركيز على الوظيفيّة والاستدامة: على الرغم من الاهتمام الكبير بالجماليّات، كان الشيخ البهائيّ يولي أهميّة كبيرة للوظيفيّة والاستدامة في تصاميمه، مثل اهتمامه بتوفير المياه وتصميم نظم تدفئة فعّالة، وهي أمور تعكس نظرة متقدّمة لأهميّة الاستدامة في البناء.
5. التأثير والإرث: لم تقتصر فرادة الشيخ البهائيّ في الهندسة على زمانه فقط، بل تعدّته لتؤثّر في الأجيال اللاحقة، إذ لا تزال أعماله وابتكاراته الهندسيّة موضع دراسة وإعجاب، وتعدّ مصدر إلهام للمهندسين والمعماريّين حتّى اليوم.
6. التصميم المتكامل: ركّز الشيخ البهائيّ على أهميّة التصميم المتكامل الذي يجمع بين العمارة، والتخطيط العمرانيّ، والجوانب البيئيّة، إذ إنّ عمله في ميدان «نقش جهان» في أصفهان يعكس هذا النهج، بحيث ساهم في تصميم مساحة عامّة تعدّ نموذجاً للجمال العمرانيّ والتنظيم.
* آثاره العمرانيّة الفريدة
لقد كان للشيخ البهائيّ العديد من الآثار التي ما زالت حتّى يومنا هذا، وقد استفاد من علومه والإمكانات والموارد التي أتيحت له ليُخرجها إلى حيّز التنفيذ فجاءت كالمعجزات، منها:
1. ميدان صورة العالم: هو عبارة عن ساحة مستطيلة واسعة جدّاً في وسط أصفهان. طولها نحو 500 متر وعرضها 150 متراً. وقد أُنشئ هذا الميدان في القرن الحادي عشر الهجريّ ليكون مكان اجتماع للشعب أمام المقرّ الملكيّ. وهو يحتوي على آثار معماريّة راقية عدّة، منها: مسجد الشاه عبّاس الكبير، ومسجد شيخ لطف الله، وقصر عالي قابو.
2. مسجد الشاه عبّاس: هذا المسجد من أجمل الروائع الأثريّة، ومن أعظم المساجد في الدنيا وأكبرها، في سعته ورحابته وفنّ عمارته وهندسته. فهو يحوي ساحات تتوسّطها البحيرات الكبيرة، وفيه من القباب المزيّنة ما لا يحيط به النظر، ومن أعجب تلك القباب قبّة الصدى.
والمسجد لوحة من أروع اللوحات العالميّة، «على أنّ فيه شيئاً هو أعجب من هذه الأعاجيب، ذلك أنّ المسجد متّسع الجنبات لا يبلغ صوت الخطيب فيه إلى كلّ جانب، فاستطاع مهندسه البارع أن يبنيه على فنّ يتجاوب فيه الصوت تجاوباً متتابعاً يتيح انتقاله إلى كلّ أذن داخل المسجد، ويبلغ به مدى بعيداً في صحن المسجد. وهكذا، استطاع ذاك المهندس أن يوجد مكبِّراً للصوت، بلا مكبّر ولا كهرباء ولا أسلاك، من قبل أن يعرف العالم هذه المكبّرات بمئات السنين(6).
3. قبّة الصدى: هي عبارة عن قبّة كبيرة مكسوّة من الداخل بالقيشاني، وهي مصمّمة بشكلٍ هندسيّ معيّن، بحيث إذا وقف شخص تحتها في النقطة المقابلة لذروتها وتكلّم بكلمة، فإنّه يسمع رجيعها سبعة أصداء تردّد الكلمة التي قالها بشكل واضح قويّ.
4. الشمعة التي لا تنطفئ: من آثاره أيضاً بناء حمّام يوقَد بشمعة واحدة تشتعل على الدوام بدون وقود، وكانت تزوّد الحمام بالماء الساخن دائماً، دون أن تذوب، وظلّ الأمر كذلك حتّى جاءت بعثة من العلماء الإنجليز، فاستغربت مصدر المياه الساخنة التي لا تنتهي، وقد بقيت الشمعة مشتعلة قرابة القرون الثلاثة إلى أن أقدمت تلك البعثة على تفكيك أجزائها للاطلاع على سرّ صنعها، حيث حرم أهل أصفهان منها بسبب الفضول الإنكليزي.
5. المنارتان المهتزّتان: تقع المنارتان في ضاحية أصفهان، فإذا صعد شخص إلى إحداهما وجعل يهزّها، تحرّكت الأخرى وترنّحت من تحريكه.
6. تصميم مقام أمير المؤمنين عليه السلام: لقد صمّم البهائيّ الحُجر المحيطة بالصحن الشريف لمقام أمير المؤمنين عليه السلام بشكلٍ عجيب؛ فلكلّ حجرة إيوان(7)، وإذا حان وقت الظهر تكون الشمس قد وصلت إلى المنتصف من كلّ إيوان.
7. مسجد الشيخ لطف الله: يقع هذا المسجد في ميدان «نقش جهان» في مدينة أصفهان، ويعدّ مثالاً رائعاً على العمارة الإسلاميّة في العصر الصفويّ، حيث تتميّز واجهته بالزخرفة الفاخرة واستخدام البلاط الملوّن.
8. البيمارستان (المستشفى) البهائيّ: على الرغم من قلّة المعلومات حول هذا العمل، يُذكر أنّ الشيخ البهائيّ قد صمّم مستشفى في أصفهان يعكس مهارته في تصميم المرافق العامّة التي تخدم المجتمع.
9. الجسر ذو الثلاث والثلاثين قنطرة: «صمّم الشيخ البهائيّ جسراً لمنع فيضان نهر زاينده وذلك عبر احتساب كمّيّة المياه منذ أوائل كانون الأوّل من كلّ عام ولمدّة 197 يوماً إلى انتهاء ذوبان الثلوج في الجبال المحيطة، حتّى وصل إلى استنتاج أساسيّ لمنع الفيضان واستغلال المياه بأن يقسم مجرى النهر إلى ثلاثة وثلاثين سهماً بحيث تساوي قيمة السهم المائيّة خمسة أجزاء زمنيّة من اليوم، ممّا يضمن أن لا تغمر المياه الجسر»(8).
وله بعض الإنجازات الأخرى، منها: قصر الأربعين عموداً، والساعة الشمسيّة شرق مسجد الشاه، والصحن الحيدريّ.
هذا هو الشيخ البهائيّ، وهذه بعض إنجازاته التي ساهمت في صناعة الجمال المعماريّ، إذ «تتحدّث الأجيال التي تلت جيله حتّى الجيل الحاضر بأحاديث تشبه الأساطير عن مكانته وأعماله الإنشائيّة»(9). وكما كانت آثار الفراعنة أسراراً دُفنت معهم، فإنّ ابتكارات الشيخ البهائيّ وإبداعاته كذلك، فبقيت آثارها لتشهد على عبقريّته الفذّة.
(1) https://imamhussain.org/arabic/28816
(2) أمل الآمل، الحرّ العامليّ، ج 1، ص 155.
(3) هو والد العلّامة محمّد باقر المجلسيّ صاحب كتاب بحار الأنوار.
(4) تكملة أمل الآمل، السيّد حسن الصدر، ص 346.
(5) موقع تقريب، تقرير الأديان والمذاهب، مقال: الشيخ البهائي والهندسة الإسلاميّة.
(6) دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة، السيّد حسن الأمين، ج 2، ص 33.
(7) إيوان كلمة فارسية تعني رواق، أو قاعة مستطيلة محاطة بسور من ثلاث جهات، مع جهة مفتوحة بالكامل.
(8) الشيخ البهائيّ وإنجازاته الهندسيّة، نسيب حطيط، ص 180-181.
(9) أعيان الشيعة، مصدر سابق، ج 9، ص 240.