اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

درجات لا تُنال إلّا بالشهــادة

الشيخ باقر حسين


سار الإمام الحسين عليه السلام بركبه نحو كربلاء؛ طلباً للإصلاح في أمّة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يعلم بأن مسيره هذا يقع ضمن المخطّط الإلهي، لبقاء الدين وحفظه، وهو ما يتطلب تضحية بمستوى تقديم النفس والأهل. ولم يكن يرى عليه السلام في كلّ هذه التضحية إلّا جميلاً، وكان يسير نحو الشهادة التي بُشّر بها، ويُبشّر بها الذين التحقوا به أيضاً.

وقد جسّدت كربلاء مدرسة الشهادة في سبيل الله؛ إذ إنّها النموذج الأكمل، الذي يمكن أن يكون ميزاناً لصدق العبوديّة والطاعة والتضحية لأجل الله سبحانه وتعالى.

* مظاهر الجمال في كربلاء
انتهت معركة كربلاء باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وسبي نسائه وأطفاله، وحرق خيامه. وهنا كانت كربلاء، خلال مسيرة أبطالها من المدينة إلى المدينة، ختام دورة جهاديّة كاملة بكلّ أشكال الجهاد وأنواعه، ما رأى أبطالها إلّا جميلاً. وسنعرض بعض المشاهد في كلام سيّد الشهداء عليه السلام، ضمن مواقف ومشاهد يصح أن نصفها بالمظهر الجماليّ.

1- مشهد الرضى: في اللّيلة التي قرّر فيها الإمام الحسين عليه السلام التحرك إلى مكّة، زار قبر جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهناك ناجى ربّه قائلاً: "اللّهم إنّ هذا قبر نبيّك محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللّهم إنّي أحبّ المعروف، وأنكر المنكر، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام، بحقّ هذا القبر ومن فيه، إلاّ اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى"(1).

2- كربلاء تحمل بُشرى خاصّة: لقد بشّر الإمام الحسين عليه السلام من يريد أعلى درجات القرب من الله بشرى خاصّة لمن عرف معناها ووعاها، وهي الشهادة في سبيل الله، والبُشرى بالفتح. كتب إلى بني هاشم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ، ومن قبله من بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ من لحق بي استُشهد، ومن تخلّف لم يُدرك الفتح، والسلام"(2).

3- الشوق إلى لقاء الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والكرام: من مظاهر جمال عشق الشهادة وطلب اللقاء ما بيّنه الإمام عليه السلام ببيان بديع في خطبته عليه السلام في مكّة قبل خروجه منها تُجاه العراق، وقبل إتمام الحجّ، واقتصاره على العمرة، وكان ذلك في الثامن من ذي الحجّة في يوم الثلاثاء، فخطب في أهل بيته من الهاشميّين وشيعته، الذين التقوا معه قائلاً: "الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلا بالله، وصلّى الله على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف،... لا محيص عن يومٍ خطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده، ألا فمن كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّني راحلٌ مصبحاً إن شاء الله"(3).

وفي الخطاب، بيانٌ لحقيقة الموت، والشهادة على أنّها سرّ سعادة الإنسان، وفيها لقاء الله سبحانه.

4- جمال الإرادة والتسليم لأمر الله: كان الإمام الحسين عليه السلام يرى المسير صوب الآخرة في كلّ مراحل سفره، ولم تكن هذه إلّا بشرى له ولأهل بيته وأصحابه. وكان لا يرى في الشهادة إلّا كلّ خير وجميل، فأثناء سفره من مكّة إلى كربلاء، وفي منطقة تسمى "عذيب الهجانات" التقى بالطرماح بن عدي وأصحابه، وكان فيما أجابهم بعدما أخبروه بما رأوا: "أما والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا قتلنا أم ظفرنا، ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 23). اللّهم اجعل لنا ولهم الجنّة، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك"(4).

5- نبذ الظالمين سعادة: استقرّ الإمام عليه السلام في كربلاء في اليوم الثاني من المحرّم عام 61 هـ، إذ جمع أهل بيته وأصحابه، فألقى عليهم نظرة عطف وحنان، ورفع يديه بالدعاء يناجي ربّه، ويشكو ما ألمّ به من المحن والخطوب، ثمّ قال لأصحابه: "أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون، وأنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، ولم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً"(5). فالحياة لا معنى لها إذا لم تكن في طاعة الله، والميزان في سعادة المرء أن يكون مع الله سبحانه؛ ولذلك فإذا كان لا يُعمل بالحقّ، ولا يُتناهى عن الباطل، فالموت هو السعادة لأولياء الله.

6- الموت قنطرة إلى الجنان الواسعة: في يوم عاشوراء وبعد أن صلّى الإمام الحسين عليه السلام صلاة الفجر بأصحابه، خطب فيهم قائلاً: "إنّ الله تعالى أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال"(6). وقد بيّن الإمام عليه السلام بعد ذلك نتائج الصبر، فقال عليه السلام كما يروي الشيخ الصدوق عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، نظر إليه من كان معه، فإذا هو بخلافهم؛ لأنّهم كلمّا اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم، وارتعدت فرائصهم، ووجلت قلوبهم، وكان الحسين عليه السلام وبعض من معه من خواصّه، تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت، فقال لهم الحسين عليه السلام: صبراً بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة، يعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر"(7). وهل في هذا البيان الجامع، إلاّ كلّ البشرى والسرور والفرحة بلقاء المعشوق الأبديّ؟!

7- الشهادة صلة الجنّة: كان الإمام الحسين عليه السلام في كل مقصد من مقاصد سفره، يبشّر أصحابه ويهيّؤهم للانتقال إلى العالم الآخر، حتّى وصل الأمر في نهاية المطاف إلى المواجهة التي لا مفرّ منها، وفيها أظهر الإمام عليه السلام المشهد الحقيقيّ لنهاية المعركة الخالدة، فخطب بهم عليه السلام، بعد أداء صلاة الظهر، وبشرهم بجميل الشهادة، قائلاً: "يا كرام، هذه الجنّة قد فُتحت أبوابُها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذُبّوا عن حرم الرسول"(8).

* الشهادة جمال وكمال
من اللافت في حركة الإمام الحسين عليه السلام علاقته بأصحابه ومن تبعه، ورغم أنّه عليه السلام أذن لهم بتركه، وأبرأ ذممهم حال تركوا الجهاد في سبيل الله معه، إلّا أنّه بعد ذلك، وفي كل موطن ومنزل، كانت بشراه لهم هي الشهادة ولقاء الآخرة، وقرّة العين في جنان الخلد، وفي هذا تأكيد على أنّ الشهادة ليست إلّا سروراً وفرحاً لأولياء الله، ولمن كان من أهل كرامة الله، ونذكر هنا بعض النماذج مما قاله الإمام الحسين عليه السلام عن حقيقة الشهادة لأصحابه:

1- قرّة عين: ينقل الطبريّ في تاريخه: "إنّ السيف بن الحارث بن الربيع، ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لأمّ، التحقا بالإمام عليه السلام في كربلاء، وحضرا يوم عاشوراء، فلما نظرا إلى كثرة من قُتل من أصحاب الإمام (... ) خرج الجابريان وهما يبكيان، قال الحسين عليه السلام: "أي ابني أخوي ما يبكيكما؟ فوالله لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين، قالا: جعلنا الله فداك ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك، ولا نقدر أن نمنعك بأكثر من أنفسنا، يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال الحسين عليه السلام: جزاكما الله يا ابني أخوي، عن وجدكما من ذلك، ومواساتكما إيّاي أحسن جزاء المحسنين"(9).

2- حشرٌ مع الأبرار: ومما بشّر به جون أن قال له عليه السلام: "يا جون أنت في إذن مني فإنما تبعتنا للعافية فلا تبتلِ بطريقتنا.. اللهم بيّض وجهه.. واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد"(10).

3- عزٌّ لا هوان بعده: بعد حملات عدّة لآل أبي طالب، وبعدما قُتل عدد منهم قال عليه السلام: "صبراً على الموت صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، فوالله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً"(11).

* شهادة الحسين عليه السلام مظهر التوحيد
لقد جسّد الإمام الحسين عليه السلام المظهر التّام لحقيقة التوحيد، وبين البداية والنهاية، كان الفناء في الله والذوبان في حبّه هو الساري في الحقيقة الحسينيّة. فمنذ البداية كانت التكبيرات السبع لخرق الحُجب، وفي يوم عرفة، كان دعاؤه الذي يمثّل مدرسةً في التوحيد. وفي ختام المشهد، تجلّت ساحة العبودية الكاملة، بعدما خضّب لحيته الشريفة ووجهه النورانيّ بدمائه الطاهرة، إذ قال عليه السلام في آخر لحظات حياته، مجسّداً حقيقة التوحيد الكامل: اللَّهُمَّ! مُتَعالِيَ الْمَكانِ، عَظيمَ الْجَبَرُوتِ، شَدِيدَ الْمحالِ، غَنيّاً عَنِ الْخَلائِقِ، عَرِيضَ الْكِبْرِيَاءِ، قَادِراً عَلَى مَا تَشَاءُ، قَرِيبَ الرَّحْمَةِ، صَادِقَ الْوَعْدِ، سابِغَ النِّعْمَةِ، حَسَنَ الْبَلاَءِ، قَرِيباً إِذا دُعِيتَ، مُحِيطاً بِما خَلَقْتَ. صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي ربّ سواك، ولا معبودٌ غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاد له، يا مُحيي الموتى، يا قائماً على كل نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم، وأنت خير الحاكمين"(12).

* مشغولاً بالمناجاة
في اللّحظات الأخيرة للإمام الحسين عليه السلام، ولسانه قد جفّ، وشفتاه قد يبستا من العطش، وهو يلهج بالذكر والدعاء ومناجاة الله، حين لم يبقَ إلّا لحظات قليلة من حياته الشريفة، عزم جمع من الأعداء على قتله، أخذوا يتسابقون على قطع رأس أبي عبد الله عليه السلام طمعاً بأخذ الجائزة من أسيادهم(13). وهؤلاء سمعوا الإمام الحسين عليه السلام في اللّحظات الأخيرة كيف كان مشغولاً بالمناجاة مع الله؛ أيّ لحظات معنويّة هذه؟! وأيّ لحظة عزيزة وعظيمة تلك اللّحظة التي يتحدّث فيها إنسان على هذا النحو إلى الله تعالى؟! "صبراً على قضائك، يا ربّ لا إله سواك"(14). هذا هو نداء قلب الإمام الحسين عليه السلام الذي جرى على لسانه. لقد أعطى الإمام الحسين عليه السلام بمسيره هذا نحو الشهادة، المعنى الحقيقيّ لها، فصارت وساماً ربّانيّاً لأولئك الذين رفضوا الباطل، ورغبوا في الحقّ، ولو تطّلب الأمر منهم، أن يقدّموا كلّ شيء في سبيل محبة الله ورضاه. وعلى نهجه سارت الأجيال، فكانت مدرسة كربلاء عنواناً لكلّ متحرّرٍ من قيود النفس والدنيا، ولكلّ عارِف بالحقّ، وأهله، فأثمرت الشهداء والأحرار على مدى الزمان، وإلى قيام الساعة.

1- مقتل الحسين عليه السلام، الخوارزميّ، ج 1، ص 186.
2- كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 76.
3- اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص 53.
4- تاريخ الطبري، ج6، ص 230.
5- تحف العقول، الحرّاني، ص 174.
6- اللهوف في قتلى الطفوف، (م. س.)، ص 73.
7- معاني الأخبار، الصدوق، ص 289.
8- مقتل الحسين عليه السلام، (م. س.)، ص 297.
9- تاريخ الطبري، (م. س.)، ج 6، ص 353.
10- اللهوف في قتلى الطفوف، (م. س.)، ص 95.
11- (م. ن.)، ص 101.
12- (م. ن.)، ص 110.
13- تذكرة الخواص، ابن الجوزي، ص 228.
14- مقتل الحسين عليه السلام، المقرّم، 297.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع