د. نبيه علي أحمد*
منذ بداية الصراع الفلسطينيّ-الصهيوني، تحوّلت القضيّة الفلسطينيّة إلى قضيّة حقّ، وانبرى أصحاب الأقلام النيّرة، إلى مهاجمة وعد بلفور لإقامته "وطناً قوميّاً" لليهود على أرض فلسطين. وانتفض مجموعة من المخرجين في الوطن العربيّ، ليعبّروا بكلّ صدق وجرأة عن تلك القضّية التي شغلت وما زالت تشغل كلّ حرّ يرفض قرار الدول الكبرى في حرمان مجتمع بأكمله من أرضه.
* المواطن الفلسطينيّ هو المحور
منذ بداية النكبة، حفلت السينما العربيّة بالعديد من الأفلام التي تحدّثت حول أدبيّاتها، فالنكبة هي مأساة شعب شُرّد وهُجّر من بيته وأرضه على يد مستوطن ظالم، جاء ليسلبه حياته وينسبها إليه. لذلك، تمحورت الأفلام في البداية حول المواطن الفلسطينيّ، وركّزت على حالته النفسيّة، وحياة عائلته، ونظرته إلى ذلك الوضع القائم. وكانت السينما المصريّة هي السبّاقة في إنتاج أفلام متنوّعة حول قضيّة النكبة من خلال جهود للمخرج الفلسطينيّ الراحل محمّد صالح الكيالي الذي ولد في مدينة حيفا عام 1918م، وقد عمل على إنتاج وتصوير العديد من الأفلام نذكر منها: يافا العربيّة، فلسطين أرض السلام، هذه هي فلسطين، طلائع الصورة إلى فلسطين، وكلّها أُنتجت من عام 1956م حتّى 1967م. بعد ذلك، بدأت منظّمة التحرير الفلسطينيّة بتمويل العديد من الأفلام التي تتحدّث عن المقاومة المسلّحة ضدّ الصهاينة وعصاباتها مثل: بالسلاح عائدون، طريقنا طريق السلاح، أقوى من الفناء. وأنتجت مصر أيضاً أفلاماً سينمائيّة تتناول جوانب من القضيّة الفلسطينيّة مثل: فتاة من إسرائيل للمخرج إيهاب راضي، وفتاة من فلسطين للمخرج محمود ذو الفقار.
* المقاومة والقضيّة الفلسطينيّة
بقيت أدبيّات النكبة هي المواضيع التي ركّزت عليها السينما، فقام مخرجون بتناول علاقة الفلسطينيّ بالمستوطن الإسرائيلي، والنزاع الدائر بينهما على أحقّيّة الأرض، أو القصص العاطفيّة التي كانت تنشأ بين رجل فلسطينيّ في غزة وفتاة من منطقة خارج غزة، يفصل بينهما حاجز للصهاينة، أو قصّة شجرة الزيتون التي كانت شاهداً على اغتصاب الأرض، وكان الصهاينة يقتلعونها من جذورها، وغيرها. وبين هذه الأفلام برزت أعمال لمخرجين فلسطينيّين وعرب وحتّى أجانب مناصرين لهذه القضيّة، واستطاع بعضها الوصول إلى المهرجانات العالميّة ونيل جوائز كثيرة بالرغم من محاربة اللوبي الصهيونيّ لها في تلك المحافل، وهو المسيطر وصاحب السلطة والنفوذ. ولا ننسى كيف خسر فيلم أفاتار (للمخرج جيمس كاميرون)(1) جائزة الأوسكار لأنّه يتناول قضيّة الصراع ضدّ الظلم، وقد شبّهه النقّاد بالقضيّة الفلسطينيّة، أمام فيلم the hurt locker للمخرجة كاثرين بيغلو، والذي يتحدّث عن غزو الأميركيّين للعراق. ويعود سرّ نجاح مثل هذه الأفلام مؤخّراً، إلى تبدّل ذهنيّة الكاتب والمخرج، من تناول القضيّة بشكل مباشر، فتحاربها الجهات الداعمة للصهيونيّة، إلى تناولها من جوانب أخرى بطريقة تقدّم للمشاهد الصورة الحقيقيّة للقضيّة الفلسطينيّة، كما فعل مؤخّراً الإعلاميّ باسم يوسف في مقابلة مع قناة أجنبيّة، حيث تحدّث عن فلسطين بطريقة جلبت تعاطف المشاهدين الغرب معه بشكل رائع. ولعلّ المخرجين لأعمال كهذه كثر لا يتّسع المجال لذكرهم جميعاً. وسنذكر بعض هذه الأفلام بشكل سريع: إن شئت كما في السماء، ويد إلهيّة، للمخرج إيليا سليمان، وغزة مونامور للمخرج عرب وطرزان ناصر، وقد فاز بالعديد من الجوائز، فضلاً عن مسلسلات أخرى مثل عائد إلى حيفا أو كتائب القسام وغيرهما.
* السينما الغربيّة وتشويه الصورة
عندما ننظر إلى صورة المقاوم الفلسطينيّ في السينما الغربيّة، سنجده ذلك المقاتل الذي يضع الكوفيّة الفلسطينيّة، يدخّن السجائر طوال الوقت، يتلهّى أثناء حراسته بالاستماع إلى الأغاني أو لعب الورق. وهذه هي الصورة التي رُسمت حوله إبّان الحرب الأهليّة في لبنان، وبقيت قائمة في الأفلام كافّة، في مقابل الجنديّ الصهيونيّ أو الأميركيّ، المدرَّب تدريباً جيّداً، ويتقن التصويب بالسلاح. وسنتناول على سبيل المثال بعض الأعمال التي جسّدت ذلك، منها:
* فيلم ميونيخ
هو من إخراج الأميركيّ ستيفن سبيلبرغ الشهير بالعديد من أفلامه الأيقونيّة في السّينما العالميّة والأميركيّة، ومن بطولة إريك بانا، إنتاج عام (2005م). ويتتبّع الفيلم مطاردة الموساد الإسرائيليّ لأعضاء منظّمة أيلول الأسود المسؤولة عن تنفيذ عمليّة ميونيخ خلال دورة الألعاب الأوليمبيّة عام 1972م في مدينة ميونيخ الألمانيّة. يتخلّل الفيلم الكثير من الحوارات حول أخلاقيّة المهمّة الموكلة لفريق "القَتَلة" من الموساد (وهو الفريق الموكل بعمليات التصفيّة الجسديّة لمن يحدده الموساد هدفاً)، إضافة إلى أنّ الفيلم يُظهر مدى تعقيد شبكة العلاقات الخاصّة بمنظّمة أيلول الأسود وأعضائها في المدن الأوروبيّة، ومدى تشابكها.
ينفّذ "القَتَلة" عمليّات اغتيال بحقّ العديد من قادة منظّمة التحرير ومسؤوليها في أوروبا، كوائل زعيتر في مدينة روما الإيطاليّة، وتفجير منزل محمود الهمشري وغرفة حسين البشير في قبرص، إضافة إلى اشتراكهم في عمليّة اغتيال كلّ من كمال عدوان ويوسف النّجّار وكمال ناصر في بيروت إلى جانب القوّات الخاصّة في جيش العدو الإسرائيليّ. ويتتبّع الفيلم الفشل الذي مُنيَ به العديد من محاولات الموساد لاغتيال علي حسن سلامة الذي عُرِف بلقب "الأمير الأحمر" في أوروبا. ترشّح الفيلم لخمس جوائز أوسكار: كأفضل فيلم، وأفضل إخراج، وأفضل تحرير، وأفضل نصّ مقتبس، وأفضل موسيقى.
* فيلم 7 أيّام في عينتيبي
هو من إخراج البرازيليّ جوزيه باديا وبطولة دانيال برول وروزاموند بايك، ومن إنتاج أميركيّ بريطانيّ مشترك عام (2018م). تدور أحداث الفيلم حول عمليّة عينتيبي التي نفّذتها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بتخطيط من وديع حدّاد ومشاركة ثوريّين ألمان من "الجيش الأحمر"، أو مجموعة "بادر ماينهوف الثوريّة اليسارية"، وهما بريجيت كولمان (روزاموند بايك)، وويلفريد بوس (دانيال برول). تختطف المجموعة المؤلّفة من فدائيّي الجبهة الشعبيّة والألمان طائرة فرنسيّة تقلع من مطار أثينا، وتهبط بها في مطار عينتيبي في أوغندا، وتُطالب بفدية مقدارها 5 ملايين دولار أميركيّ وإطلاق سراح 53 أسيراً فلسطينيّاً. تقرّر "إسرائيل" التفاوض مع الخاطفين علناً، ولكنّها كانت تعدّ في السرّ خطّة عسكريّة تقضي بإنقاذ الرّهائن عن طريق إرسال قوّة عسكريّة كبيرة عبر البحر الأحمر إلى المطار.
أثار الفيلم جدلاً بين النقّاد حول اختيار ممثّلين وسيمين لأداء أدوار "الإرهابيّين" في نظر الصحافة الإسرائيليّة، كما أثار الفيلم غضب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي ادّعى أنّ هذا العمل لم يُنصِف شقيقه الأكبر يوناتان نتنياهو، الذي كان مسؤولاً عن المهمّة العسكريّة لإنقاذ الرّهائن، وقد قُتل في اشتباكات مع الخاطفين وعُدّ "بطلاً قوميّاً" في الكيان الصهيونيّ.
هكذا يحاول القائمون على الصناعات السينمائيّة تشويه الصورة التي تفضح وحشيّتهم وفشلهم كما فعلت أميركا في حروبها الكثيرة في العديد من الدول. ولا ننسى دور الممثّلين المشهورين في هوليوود في إعطاء هذه المصداقيّة للأفلام الإسرائيليّة مثل ناتالي بورتمان في فيلم "قصّة عن الحبّ والظلام" من إخراجها، حيث ظهرت كبطلة الفيلم الرئيسة، وهو مبنيّ على رواية الروائيّ الإسرائيليّ عاموس عوز، أو كالممثّلين الجدد الذين دخلوا إلى سلسلة مارفل كـ"كول غادوت".
* الصورة الحقيقيّة
رغم كلّ محاولات التشويه تلك، فقد أثبتت المقاومة في مختلف المعارك والحروب التي خاضتها ضدّ العدوّ الصهيوني صورتها الحقيقيّة وأثبتت قضيّتها الحقّة، وازدادت هذه الصورة نصاعةً مع اندلاع معركة طوفان الأقصى، وما تخللّها من جهود قام بها محور المقاومة بأكمله، فأظهر للعالم هشاشة ذلك الجنديّ الصهيونيّ الذي "لا يُهزم"، وقد شاهدنا على الشاشات كيف تحوّل إلى تمثال من ورق تتقاذفه المقاومة كيفما تشاء. ولكن، هل ستنصف السينما هذه البطولات الخالدة؟
* باحث في مجال السينما الدينيّة.
(1) أُنتج عام 2009م حيث بلغت تكلفته 230 مليون دولار، وأُنتج فيما بعد جزء ثان له عام 2022م.