مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

العدل أساس الدولة المهدويّة

الشيخ د. الأسعد بن علي قيدارة*


يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105). هذا الوعد الإلهيّ العظيم المتواتر على لسان الأنبياء عليهم السلام، كان بلسماً لآلام المعذّبين والمظلومين طوال التاريخ، وكان لحناً سرمديّاً تناغمت معه الفطرة البشريّة المجبولة على الخير والحقّ والعدل والجمال.

* النبوّات منبع الفكرة
إنّ منبع الإيمان العميق بضرورة خلاص المجتمع الإنسانيّ من تاريخ الجور وعصور البغي والحيف، وقيام المجتمع العادل، هو الأنبياء عليهم السلام، أصحاب الرسالات السماويّة الذين جاؤوا بالقسط ونادوا بثلاثيّة الكتاب والميزان والحديد، كناية عن الدين والعدل والقوّة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحديد: 25)، وقد بشّروا الناس بحتميّة الخلاص، وأنّ إرادة الخير ستنتصر، وسيسود المتّقون والصالحون في نهاية المطاف، في حين أنّ الفراعنة والجبابرة والطغاة إلى تباب، وإن عظم ملكهم وطال سلطانهم.

فالسرّ الأعمق لالتقاء الفلسفات والأديان السماويّة والوضعيّة والمدارس الفكريّة حول حتميّة الخلاص وقيام دولة العدل في مكان ما، أو زمان ما، هو الوحي الإلهيّ الذي جاء ملبّياً نزوع الناس ونداء فطرتهم، ومبشّراً بحتميّة تاريخيّة ووعد إلهيّ لن يتخلّف.

والرؤية الإسلاميّة فصّلت هذه البشارة أكثر من أيّ دين آخر، وأعطت لهذه الحقيقة المستقبليّة الآتية كلّ دلائلها وأبعادها، وجعلتها من المحتومات التي لا بداء فيها، فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : "لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج رجلٌ من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً"(1).

* دولة العدل العالميّة على أنقاض نظام الجور
هذه الرؤية تبشّر العالم بظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي سيؤسّس دولة العدل العالميّة على أنقاض نظام الجور العالميّ السائد والمهيمن، الذي بلغ من الظلم والبغي ما لم يبلغه علوّ واستعلاء في التاريخ. إنّ المنظومة الحضاريّة الغربيّة التي تسود العالم اليوم، وتسوّده وتسيطر على مقدّراته وسياساته، تعود جذورها الفلسفيّة إلى أربعة قرون (وهي قرون الإصلاح الدينيّ والنهضة والأنوار والحداثة في أوروبا)، وهي تستبدّ بالعالم أجمع منذ قرنين على الأقلّ، وتفتك بشعوبه، وتنهب ثرواته، وتحاصر كلّ فكر أصيل حرّ، أو مجتمع مقاوم، أو دولة ناهضة ترفض قيمه وثقافته.

ولا حاجة لنا لسرد الإحصائيّات والأرقام التي تعجّ بها مراكز البحوث والدراسات وتمتلئ بها الكتابات الجدّيّة(2) عن اختلال التوازن في هذا العالم، ومظاهر الحيف والفساد والظلم (نسب البطالة والجوع، وإنفاقات التسليح، و...)، وعن جشع الغرب وجرائمه في حقّ الشعوب، فما نشاهده هذه الأيّام من مأساة إنسانيّة فريدة في التاريخ في غزة الصامدة لم ترق لها كلّ الحروب البربريّة والهمجيّة في ماضي البشريّة، كشفت بجلاء عن توحّش الحداثة الغربيّة ونفاقها وزيفها وسقوط شعاراتها الكاذبة عن حقوق الإنسان والطفل والمرأة وحقوق الشعوب في الحريّة وتقرير المصير. لقد أسقطت غزّة ومن ورائها حركات المقاومة في أمّتنا فلسفة نظام الجور العالميّ السائد (الحداثة الغربيّة) وأقنعتها الزائفة، وكشفت عن شذوذها الأخلاقيّ والنفسيّ والفكريّ والثقافيّ في مقاييس الفطرة الإنسانيّة ومنظومة القيم الإلهيّة، وتحدّت عتوّها واستعلاءها.

* العدل: العنوان الأبرز في الدولة المهدويّة
إنّ منظومة القيم التي جاءت بها الأديان من الكثرة والتنوّع ما يدعو المرء إلى أن يتساءل عن السرّ الكامن وراء التأكيد على قيمة العدل والعدالة كعنوان لهذه الدولة دون ما سواها من القيم، كالحريّة: "ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً"(3)، والمساواة: "الناس سواء كأسنان المشط"(4)، والأخوّة: "أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله"(5).

فلماذا العدل هو العنوان الأبرز في الدولة المهدويّة؟

الجواب عن ذلك أنّ العدل يمثّل في منظومة العقل العمليّ القيمة الحاكمة على القيم الأخرى، فكما أنّ استحالة اجتماع النقيضَين هي المفتاح الأساسيّ لمدركات العقل النظريّ ودونها يتهاوى أساس أيّ معرفة وإدراك، كذلك إنّ حُسن العدل وقُبح الظلم هما مفتاح العقل العمليّ ودونهما ينهار أساس كلّ القيم والأخلاق. ودولة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بتأكيدها على عنوان العدالة تنتصر لكلّ القيم الإنسانيّة والأخلاق الدينيّة.

* بشائر الدولة المهدويّة العادلة
حرصت منظومة النصوص الدينيّة أن تمنحنا تفاصيل كثيرة عن نموذج العدل العالميّ الذي تبشّر به الدولة المهدويّة، لتؤكّد أنّ هذا المشروع ليس من نسج الخيال، وإنّما واقع يوشك أن يتحقّق. وفي هذا السياق، تكشف لنا النصوص صوراً رائعة تثلج قلوب المؤمنين، نكتفي ببعضها:

1. ردّ المظالم وإقامة ميزان العدالة: "يبلغ من ردّ المهديّ المظالم، حتّى لو كان تحت ضرس إنسان شيء انتزعه حتّى يردّه"(6). وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "فإذا خرج (يعني المهديّ) أشرقت الأرض بنوره ووضع ميزان العدل بين الناس فلا يظلم أحدٌ أحداً"(7).

2. الرخاء الاقتصاديّ: تصوّر لنا الروايات مبلغ الرفاه وكثرة الثروات في الدولة المهدويّة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يأتيه الرجل والمال كدس فيقول يا مهديّ أعطني فيقول خذ"(8)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "لا تقوم الساعة حتّى يكثر المال و(يفيض)، حتّى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه، وحتّى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً"(9).

3. الأمن الاجتماعيّ: عن أمير المؤمنين عليه السلام : "لو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم حتّى تمشي المرأة من العراق إلى الشام، لا تضع قدميها إلّا على النبات، وعلى رأسها زبيلها(10) لا يهيجها سبع ولا تخافه"(11).

وهذا في الواقع مصداق من مجتمع الأمن الذي وعد الله به المؤمنين: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

4. كمال العقول: تحدّثت الروايات عن كمال عقول ذلك الجيل المهدويّ واكتمال أحلامهم وعن العلوم التي يبثّها الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في النّاس، فعن أبي عبد الله عليه السلام : "العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثّها في النّاس وضمّ إليها الحرفين حتّى بثّها سبعة وعشرين حرفاً"(12). وبهذا المعنى يأتي الكلام في الروايات عن "الكتاب الجديد" و"المستأنف"، وكيف يؤتى الناس الحكمة، فعن الإمام الباقر عليه السلام : "وتؤتون الحكمة في زمانه، حتّى أنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "(13).

إنّ هذه العطاءات والبركات في ذلك المجتمع العالميّ هي ثمرات القسط والعدل.

* خصوصيّات العدالة المهدويّة وآفاقها
لهذه العدالة المهدويّة خصوصيّاتها التي ينبغي الوقوف عندها، فهي:

1. فريدة في عمقها وشمولها: "يملأ الأرض قسطاً وعدلاً".

2. قد تمتدّ قروناً طويلة(14)، فمنطق العدل الإلهيّ يقتضي أن يمتدّ عصر المجتمع العادل لأطول فترة ممكنة، حتّى تبلسم جراحات الإنسان والأرض والتاريخ عن كلّ عصور الظلم والجور والاضطهاد التي تجرّعت مراراتها، وهذه الفترة ستطول إلى يوم القيامة حتّى تستوفي البشريّة كلّ إمكانات التكامل المتاحة لها على الصعيد الذاتيّ والمجتمعيّ والكونيّ، حين ذلك يقتضي منطق العدل الإلهيّ أن تقوم الساعة بإذن ربّها.

3. عدالة فريدة في درجتها، لأنّها تمحق كلّ وجوه الجور والظلم.

4. تراعي الفرد وحقوقه كما تراعي المجتمع، فلا نرى أولويّةً للفرد على المجتمع أو العكس كما يحصل في التيّارات الوضعيّة الحاليّة في الحكم.

5. تبني مجتمع "خير الناس" النهائيّ، فتقوم القيامة على خير الخلق وأكمل الناس لا كما ظنّ بعض الباحثين من أنّها تقوم على شرار الخلق اعتماداً على روايات ضعيفة.

* إرهاصات العدالة العالميّة
إنّ احتدام الصراع مع الغرب المستكبر في العقود الأخيرة وفي أيّامنا هذه بالخصوص، وتفاقم هذه المواجهة الحضاريّة بين منظومة الغرب المستعلية البائدة والنموذج الإسلاميّ المشرق، هي إرهاصات مبشّرة بطلائع النصر المبين والظهور المبارك للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف رغم كلّ الجراحات والآلام والشجون والمآسي التي يتكبّدها المؤمنون على هذا الطريق. فهذه الحرب التي تدور رحاها اليوم في المنطقة فرصة جديّة لجحافل المنتظرين أن يراجعوا أنفسهم ويستيقظوا من غفلتهم، خصوصاً وأنّ جزءاً من دول أمّتنا قد انخرط في منظومة الغرب الكافر، وتماهى مع مفاهيمه وقيمه واستسهل مهادنته والاستكانة إليه، على أمل أن يعود إلى رشده وأصالته بعد الانتصار في هذه المعركة إن شاء الله.


* أستاذ في جامعة المصطفى العالميّة – بيروت.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 51، ص 74.
(2) انظر كتابات الفيلسوف الفرنسيّ روجي غارودي مثلاً في نقده للحضارة والتردّي والانحطاط الذي بلغته: الولايات المتحدة طليعة الانحطاط، نحو حرب دينيّة، الإرهاب الغربيّ،...
(3) نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 401.
(4) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 368.
(5) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 126.
(6) معجم أحاديث الإمام المهديّ، الشيخ الكوراني، ج 1، ص 221.
(7) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص 372.
(8) الغيبة، النعماني، ص 94.
(9) معجم أحاديث الإمام المهديّ، مصدر سابق، ج 1، ص 275.
(10) الزبيل سلّة من ورق النخيل.
(11) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 52، ص 316.
(12) المصدر نفسه، ج 52، ص 336.
(13) الغيبة، مصدر سابق، ص 245.
(14) من العلماء الذين نظّروا لطول عصر العدالة المهدويّة السيّد محمّد صادق الصدر، انظر: تاريخ ما بعد الظهور.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع