مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أن تكون تعبويّاً...


د. بلال اللقيس


أن تكون وطنيّاً لا كمن يكون مرتبطاً بأجندات خارجيّة، وأن تكون متطوّعاً لا كمن يكون الكسب الماديّ هو هدفه الأوّل والأخير، وأن تقدّم روحك ودمك فداءً لبلدك ودون أيّ مقابل، لا كمن يوضّب أغراضه الشخصيّة ويترك عمله وواجبه عند أوّل أزمة يتعرّض لها، أو يهاجر من بلده. ببساطة، أن تكون تعبويّاً لا كمن يقضي فراغه كمتطوعٍ فقط، وإذا ما وجد هذا العمل عبئاً عليه تركه مباشرةً.

* التعبويّ في لبنان
في لبنان، برز مضمون خطاب التعبئة العامّة مع كبار علمائنا. ومع نداء الإمام الخمينيّ قدس سره وانطلاقة المقاومة الإسلاميّة وتجربتها تعمّقَ المضمون وتجذَّرَ أكثر فأكثر، وأخذت عناصره تكتمل تباعاً ممّا أثار الوعي لدى جيل الشباب وحفّزه؛ فكانت بدايات ولادة التعبئة على يد تلك الفئة، منطلقةً من ثقافة المجتمع الدينيّة وقيمه الأصيلة ومثله العليا، ومن عفويّته وصفائه وروحه وإبداعه وحبّ التحدّي، ولم تكن يوماً ما بحثاً عن موقع وانبهاراً بآخر، كما هو الحال عند جماعات المجتمع المدنيّ اليوم. ولم يحمل خطاب التعبئة في لبنان في أي يوم مضى خطاباً ملتبساً أو ليّاً بالقول، إنّما كان خطابها دائماً شفّافاً واضحاً، مستلّاً من بين طيات كلام قائدها الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، التعبئة تنظر إليه وتفهم مراده.

التعبويّ في لبنان هو ذاك الفردُ الذي أدرك أهميّة بلده، والتحدّي الحضاريّ الكامن في استمراره فضلاً عن ترقّيه، وهو ذائدٌ عن مجتمعه ووطنه وأهله بشجاعة، مع معرفته بعدوّه الإسرائيليّ والأمريكيّ جيّداً. يمدّ يد التكافل والتضامن، ويتحلّى بالشعور الإنسانيّ والعيش المشترك. وهو يمثّل في حركته طاقةً للنهوض بوطنه وصناعة الأمل حتّى في أقسى الظروف، وأشدّها حلكة. لا يستغرق التعبويّ في إعلام ما بعد الحقيقة(1) واختزالاته، بل يأخذ بالعلم والتقوى وسيلةً وغاية. وهو يعتبر لبنان فرصةً تاريخيّة لتعارف الشعوب والمِلل بهدف إدراك الحقائق الإنسانيّة والتاريخيّة، المعنويّة منها والاجتماعيّة.

التعبويّ هو ذاك الفرد الذي رأيناه في المسجد والجبهة والجامعة والمهنيّة والحوزة، كما رأيناه في الحقل والورشة والسوق والنادي الرياضيّ ومنتدى الفكر. وإلى جانب كلّ ذلك نراه يلبّي نداء الواجب في جبهة الدفاع عن كلّ قيمة إنسانيّة ومقدّس.

* بين المدرستين: فروقات شاسعة
قد لا يدرك بعض من في لبنان والعالم ميزة وفرادة هذه التجربة، وقد لا يفهمون أبعادها ولماذا يصرّ خطاب المقاومة على تجذيرها في الفضاء العام ووصل المجتمع بمائها المتّصل بدوره. ربّما لأنّهم لم يعايشوا إلّا تجارب وتنظيرات الإيديولوجيات الغربية – الشرقية، فوقعوا في فخّ الملازمة بين النموذجين لضعف تمحيص أو لنقص علم ومعرفة.

انطلاقاً من هنا، وفي ظلّ التدخّل الذي تمارسه جمعيّات المجتمع المدنيّ في شؤون لبنان، أو ما بات يُعرف بالجمعيّات غير الحكوميّة NGOs فضلاً عن أدوارها وأجنداتها الواضحة والمعلنة، التي تديرها الولايات المتّحدة الأميركيّة وتموّلها، وفي أجواء إحياء يوم التعبئة في لبنان، من المفيد أن نعقد مقارنةً موجزةً بين هاتين المدرستين، وليس الهدف من وراء ذلك التصويب على العاملين في تلك الهيئات أو الجمعيّات، وإنّما تبيان الفروقات الجوهريّة بينهما: في المبنى والأصل وفي الدوافع والماهيّة وفي المنهج والعقليّة، وفي الغاية والهدف، لمعرفة حقيقة الدور الذي تمارسه كلّ واحدة منهما. فالتعبئة هي:

1. فكرةٌ أصيلة: إنّ التعبئة ليست فكرة مستوردةً، إنّما هي مستولدة من رحم هويّتنا الدينيّة -الأخلاقيّة وخصائصها ومُثُلها. هي ليست فعلاً مرحليّاً أو مقطعيّاً أو وظائفيّاً أو أداتيّاً، ينتهي بغرض وينقضي، بل هي فلسفة عيش وثقافة اتّصال بالحقّ والعدل وصناعة الأمل، وفكرة جهاد تبدأ بالجهاد الأكبر وهو تهذيب النفس، وصولاً إلى جهاد التبيين والقتال في سبيل الله والدفاع عن الأرض والعرض. هي دعوة مشاركة مفتوحة للجميع، والذوبان في نهر العطاء في سبيل الله تعالى.

2. ثقافة بناء الإنسان وتربيته: تعتبر التعبئة بحقيقتها نقيضاً للفردانيّة والأنانيّة والتمحور حول الذات، لأجل ذلك نراها في حركتها عنواناً للتفاني والجود والإيثار بلا حدود لصالح تحقيق الأهداف، وليس "أنا أحقّقه". ليست دعوة للانخراط ورفض الحياد فحسب، بل هي دعوة إدانة من هو "إمّعة".

التعبئة ليست دعوة اختزال باسم الحريّة والتمدّن بهدف الجرّ إلى الفوضى واللامسؤوليّة، ولا ديماغوجية وبروباغندا وبرمجة عصبية. هي تربيةٌ لبناء إنسان بالنموذج والإرشاد والسؤال والعلم، وهي ليست عمليّة تعليب تنتجه المهارات والتقانة وبرامج ريادة الأعمال، وليست وسيلة تمكين من وظيفة أو تدريب للمنافسة في السوق وكسب خبرة جني الأرباح وكيفيّة التمّيز.

3. عبادةٌ لله: التعبئة هي تجلٍّ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (فاطر: 32)، فهم أهل السبق إلى الخيرات والعمل بها. هي حركة تفيض بالإيمان بالله تعالى والثقة بنصره المستضعفين.

4. ثقافةُ حياة كريمة: هي ثقافة حياة عزيزة كريمة شامخة، وليست ثقافة تذلّل وخضوع للآخرين. هي جذب الناس بدعوتهم إلى أنفسهم والتعرّف إليها، وليس عن طريق إغرائهم بالكسب الماديّ.

5. عطاء قربةً إلى الله: لا تقوم الأطروحة التعبوية على نظرية الجدوى المتبناة في اقتصاد آدم سميث(2)، ولا تقرن النتائج بالمقدمات وفق "العقلانية" الغربية. التعبئة ليست حسابات مردود عاجل أو حتّى آجل، إنّما هي أنظومة وبرادايم ﴿ولا تمنن تستكثر﴾ و﴿ربّك فكبر﴾، هي حسابات تقوم على مبدأ ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ (المؤمنون: 96).

6. ثقافة الأنبياء عليهم السلام: التعبئة تقتدي بأنبيائنا عليهم السلام الذين صبروا ولم يسألوا أجراً من أحد ولم يرضوا أن يوفّيهم أجرهم إلّا الله؛ مثل النبيّ موسى عليه السلام الذي رأى جداراً كان سينقضّ فأقامه دون مقابل، وذي القرنين الذي قال: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ (الكهف: 95) بعد أن بنى السّدّ، وكذلك نبيّ الله الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي صبر ولم يطلب أجراً لنفسه، بل جلّ ما طلبه كان الدعوة للارتباط بأهل بيته من بعده ومودتهم ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى:23).

7. إحسانٌ بعشق: هي حديث الإحسان ومنطق الجود والإيثار والعشق، وعطاء من التعبويّ وانتظار مثوبة من جانب الحقّ أي الله تعالى وليس السلطة أو الناس.

8. ردٌّ على المستكبرين: هي تيّار الرّدّ على الهيمنة والتسلّط العالميّين بقوّة الشهادة والروح والعلم، والبحث عن مكامن القوّة فينا ونقاط الضعف عند عدوّنا. فأولو العزم من الرسل عليهم السلام لم يمتلكوا مقدّرات أعدائهم الماديّة والسلطويّة والدبلوماسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، لكنّهم تمكّنوا من اكتشاف نقاط ضعفهم، فأسقطوا شرعيّتهم المتوهّمة عند الناس، هكذا يفهم التعبويّ الصراع ويتحيّنه.

9. نقيض عزلة المدنيّة: التعبئة العامّة في لبنان والمنطقة هي نقيض دعوة "المدنيّة" التي تستبطن إفراغ الأخيرة من روح المقاومة وثقافتها؛ فهذا احتيال وتزوير وانفصام عن الواقع. هي نقيض "المدنيّة" إذا كانت الأخيرة تستبطن رفض الأطروحة الدينيّة وتحييدها، فهذا خلاف الطبيعة البشريّة وحاجاتها وميل عن جوهرها. هي نقيض "المدنيّة" التي تسعى إلى إبعاد الناس عن السياسة والمجال العام لاستهداف قيام الدولة ولتجزئتها، بل هي دعوة صريحة لرفض التفكيك والتجزئة.

10. ذات أيديولوجيا خاصة: للتعبئة أيديولوجيا خاصّة نقيض أيديولوجيّات الفاشيّة والاختزاليّة والعنصريّة الصهيونيّة والأوروبيّة الشوفينيّة(3) والإرهاب التكفيريّ والهيمنة الأمريكيّة.

11. بسيطة الإدارة: يقوم نموذجها الإداري على المباشرة والقرب كأصل، وليس على البروباغندا ونظريات التسويق والعلاقات العامة التي يتفنّن بها الغرب وجماعاته غير الحكومية. إنّ الإدارة فيها تقوم بالتولّي، وليس بالبيروقراطية ولا بتحويل المجتمع إلى آلة. أمّا مشهد تواصل التعبويّين فهو أقرب إلى نظام عمل الجهاز العصبي، الذي يوصل رسالة الإيمان والصحوة بالاتجاهين إلى كل دار وأسرة ومحلّة.

* التعبئة تجربة رائدة
تغدو التعبئة أبرز شبكة مناعة وإنذار مبكر للدفاع عن المسيرة وتحسّس المخاطر المحدقة. ونتيجة كلّ هذه الأسس التي تقوم عليها التعبئة والصفات التي تتحلّى بها، كانت حالة رافعة للوطن والسلم الأهليّ وحصانة للمجتمع اللبنانيّ، وقد حقّقت انتصارات أثبتت للعالم العربيّ والإسلاميّ أننّا قادرون، وأنّ المستحيل يقبع في عقل العاجز. إنّها تجربة استنقاذ إنسانيّة الشعوب ومقدّساتهم، انفتحت بهم على مختلف القضايا بدل أن تُغرقهم في اللذّة.

1- (ما بعد الحقيقة) مصطلح ظهر في التسعينيّات من القرن الماضي، ولكنّه عاد للظهور بشدّة في عالم السياسة والإعلام منذ بضع سنوات، تحديداً بعد انتخاب الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، وإجراء الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبيّ، للدلالة على أنّ الحقائق الموضوعيّة في الخطاب السياسيّ أقلّ تأثيراً في تشكيل الرأي العام من الشحن العاطفيّ، والغرض منه هو التعبير عن المشاعر والانفعالات على حساب الوقائع والمعطيات.
2- يُعد آدم سميث (1723م- 1790م) أب الاقتصاد اليوم، وهو من روّاد الاقتصاد السياسيّ، الذي دعا إلى المنافسة وحرية التجارة وسبل تحقيق اقتصاد الأمم، بوصفها الوسيلة الفضلى لتحقيق الثروة، وبالتالي السعادة.
3- اعتقادٌ مغالٍ يحمل سمات التعصّب للوطن أو القوميّة والعنجهيّة في التعامل مع المختلف والحطّ منه، ويتّسم سلوك الناتج منه بغياب رزانة العقل والاستحكام في التحزّب والتحيّز.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع