فاطمة شعيتو
في دراسة قام بها أحد علماء النفس، توصّل إلى أنّ 7% فقط من الاتّصال يكون بالكلمات، و38% بنبرة الصوت، و55% بلغة الجسد، ولو اختلفت الكلمات ولغة الجسد، فإنَّ الفرد يميل إلى تصديق لغة الجسد(1).
من هنا، توصف لغة الجسد بأنّها لغة عالميّة، يمكن قراءة مؤشّراتها وفهمها مهما اختلفت الألسن وتعدّدّت الألوان.
وقد تضمّنت الروايات الشريفة مواقف كثيرة تبرز لنا أهميّة لغة الجسد ومهارات التواصل الفعّال مع الآخرين في الحياة الاجتماعيّة والدعوة إلى الله. وفي ما يأتي، سوف نسلط الضوء على أهمّ المؤشّرات ودلالاتها المستقاة من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونفسّرها انطلاقاً من علم النفس الحديث.
•لغة الهيئة وأوضاع الجسم
قال الإمام الرضا عليه السلام في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا زَالَ زَالَ تَقَلُّعاً(2) يَخْطُو تَكَفِّياً(3)، يَمْشِي هَوْناً(4) ذَرِيعَ الْمِشْيَةِ(5) إِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ(6)، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعاً من شدّة استرساله"(7)؛ أي أنّ مشيه صلى الله عليه وآله وسلم كان برفع رجله بسرعة وبمدّ خطوِه خلاف مشية المختال، وكلّ ذلك برفق وتثبّت دون عجلة(8). والمشي برفق ولين وهدوء مؤشّرٌ على التواضع، والمشي بسرعة معتدلة، وبخطوات مشدودة يدلّ على الثقة بالنفس(9).
"فإذا التفت التفت جميعاً"؛ أي أنّه لا يسارق النظر، أو لا يلوي عنقه يمنة ويسرة إذا نظر. وفي قوله عليه السلام: "من شدّة استرساله"(10) أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لشدّة استئناسه ورفقه ومداراته النّاس كان لا يلتفت التفات المتكبّرين بالعين والحاجب، بل إذا أراد النظر إلى جليسه والتكلّم معه أقبل إليه والتفت بكامل بدنه(11).
والالتفات الكامل بالبدن دلالة على الانفتاح، والرزانة، والتواضع. وقد ذكر علماء النفس أنّ للإنسان جانباً ليّناً منفتحاً يشتمل على: الوجه، والعنق، والصدر، وراحة اليدين... وجانب صلب منغلق، وهو ما يسمّى "بالكتف الباردة"، يشتمل على: قفا الرأس، وقفا العنق، والكتفين، والكوع... والإنسان المنفتح يبدي الجانب الليّن للآخر المقابل له، أمّا المنغلق فيعرض عن الناس بكتف باردة(12).
•لغة الوجه
"وَإِذَا غَضِبَ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ وَأَشَاحَ"(13). أشاح بوجهه؛ أي أعرض تكرهّاً، وعابساً. والمشيح الجاد في الأمر(14). وعقد الحاجبين، والإعراض بالوجه هما من المؤشّرات الواضحة الدالّة على الغضب.
•لغة العيون
"خَافِضَ الطَّرْفِ(15)، نَظَرُهُ إِلَى الْأَرْضِ أَطْوَلُ مِنْ نَظَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ"(16). النظر إلى الأسفل في لغة الجسد يدلّ على التواضع، أو التأمّل والتفكّر، أو الخجل(17).
•لغة اليد
"إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ قَارَبَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنَ الْيُسْرَى فَضَرَبَ بِإِبْهَامِهِ الْيُمْنَى رَاحَةَ الْيُسْرَى"(18). يشير هذا الحديث الشريف إلى الانسجام الكبير بين لغة جسد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكلامه، فتقليب الكفّ دلالة على التعجّب، ومقاربة باطن اليد بكفّ اليد الأخرى، مؤشّرٌ على أنّ المتكلّم يصل إلى مشاعر الشخص الآخر بإيجابيّة ولطف، والضرب بالإبهام على راحة اليد اليسرى دلالة على التوكيد على القول(19).
•شبك الأصابع
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شِيعَتُنَا هَكَذَا بِنَا مُخْتَلِطِينَ" -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ- ثُمَّ قَالَ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِين"(20). يُفهم من تشبيك الأصابع أنّ اختلاط الشيعة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآله يوم القيامة كتشبيك الأصابع ببعضها بعضاً، ففي حركة تشبيك الأصابع دلالة على التعاضد، والتداخل والاختلاط، وقد استخدمها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتوكيد المعنى.
•الجمع بين السبابة والوسطى
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ" -وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ صلى الله عليه وآله وسلم السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى- ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ السَّاعَةَ بَيْنَ كَتِفَيَّ"(21). اكتفى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإشارة بإصبعيه السبابة والوسطى، وهذا يدلّ على أثر الإشارة وقوّتها في توضيح المعنى ممّا يغني عن الكلام.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:"أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتّقى الله -عزَّ وجلَّ-، وأشار بالسبابة والوسطى"(22). وفي هذه الحركة دلالة على التلازم والصحبة.
•رفع يد الآخر إلى الأعلى
في يوم غدير خم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّها الناس، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ثلاث مرّات، قالوا: بلى، قال: ادنُ يا عليّ، فرفع يده ورفع رسول الله يده... فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه"(23).
إنّ إمساك اليد ورفعها إلى الأعلى من أقوى الإشارات العالميّة التي تعبّر عن القوّة والمساندة والتعاضد(24)، ولعلّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد بهذه الإشارة أيضاً توجيه الجمهور وجذب أنظاره إلى الإمام عليّ عليه السلام ليؤكّد على ولايته ومبايعتهم له من بعده.
وفي الختام، هذه لمحات سريعة عن لغة الإشارة في سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ويبقى أنّ شخصيّته العظيمة لا يمكن أن تحيط بها مقالة موجزة كهذه المقالة المتواضعة؛ فالمؤشّرات كثيرة وكذا دلالاتها، وكلّ لبيب من الإشارة يفهم.
1.Understanding Body Language and Facial Expressions, 2019.
2.التقلّع: رفع الرجل بقوة.
3.التكفؤ: التمايل إلى الأمام، وهو أعدل المشيات.
4.الهون: الرفق والوقار.
5.الذريع: الواسع الخطوة.
6.صبب: منحدر،كناية عن سرعة مشيه، فكانت مشيته معتدلة ليس فيها جري ولا تباطؤ.
7.عيون أخبار الرضا عليه السلام، ابن بابويه، ج 1، ص 317.
8.مرآة العقول، العلّامة المجلسي، ج 5، ص 211.
9.لغة الجسد، غدويس وغروست، ترجمة: هيلانة صالح شقير، 2005م، ص114.
10.الاسترسال: الاستئناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدّثه.
11.مرآة العقول، مصدر سابق، ج 5، ص 209.
12.الفراسة أو لغة الجسد مرشد لقراءة الأفكار، نادين كمث، تعريب: كامل إسماعيل، ص 148.
13.عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص317.
14.بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 16، ص169.
15.خافض الطرف أي غاض البصر.
16.عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص317.
17.فنّ لغة الجسد: كيف تفهم الآخرين من نظرة عين؟، حماية ياسر، 2012م، ص 12.
18.عيون أخبار الرضا عليه السلام، مصدر سابق، ج1، ص 317.
19.فنّ لغة الجسد ، مصدر سابق، ص 15-16.
20.تفسير فرات الكوفي، الكوفي، ص 227.
21.بحار الأنوار، مصدر سابق ج 6، ص 315.
22.الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 406.
23.الأميني، الغدير، العلامة ج 1، ص 41.
24.علم الفراسة لغة الجسد، ناصر أبو زر، 2011م، ص 118.