السيّد الشهيد عبد الحسين دستغيب قدس سره
لماذا لا يعمل الإنسان على معرفة الله، ولا يتحمّل صعوبات هذا الطريق؟ السبب الوحيد هو الهمّة الوضيعة والاقتناع باللذائذ الماديّة، أي أنّه يبذل الجهد للوصول إلى المنافع الماديّة وما يتعلّق بها من ثروة وجاه وعلوم ماديّة؛ لأنّه لا يرى في معرفة الله والعبوديّة له أيّ نفع ماديّ.
في الواقع، إنّ معرفة الله تمنع من التحلّل والعُجب وحبّ الذات، وتُطوّق الإنسان بطوق العبوديّة لله، ليصبح مطيعاً لأمره تماماً. وهذا المقام لا يرغب فيه إلّا أصحاب الهمم العالية والمميَّزون من بني البشر والنخبة منهم.
* نموذج تاريخيّ للهمم العالية
وقع اثنا عشر شخصاً من جنود الإسلام أسرى بيد الروم، وحملوهم إلى الإمبراطور في العاصمة، فراح الأخير يفكّر كيف استطاع المسلمون رغم قلّة عددهم إحراز هذه الانتصارات، فقال لهؤلاء الأسرى المسلمين: "درّبوا جنودي ليصبحوا مثلكم، ولكم مقابل ذلك مبالغ طائلة". فقالوا له: "ديننا لا يجيز لنا أن نساعدكم"، ثمّ قرأوا هذه الآية: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص: 17). فأمر الإمبراطور بأن يأخذوهم إلى الكنيسة ويعرضوا عليهم الفتيات الجميلات ويعدوهم بهنّ إذا أعجبنهم. فلمّا دخلوا الكنيسة ووقعت أنظارهم على الفتيات، غضّوا أبصارهم وقالوا: "ليس هذا معبد، إنّما هو مرقص"، فأُخبر الإمبراطور بذلك، فقال: "قولوا لهم إن لم تقبلوا عرض الملك، فليس أمامكم إلّا القتل"، وعندما قالوا لهم ذلك استبشر الجميع وفرحوا، وقالوا: "إنّ نبيّنا أخبرنا أنّ من يموت على فراشه قد يدخل الجنّة وقد لا يدخلها، أمّا الشهيد في سبيل الله فهو إلى الجنّة حتماً".
* الاستقامة على صراط العبوديّة
فليتأمّل القارئ العزيز جيّداً شهامة هؤلاء وفتوّتهم واستقامتهم على صراط التوحيد والعبوديّة، وكيف لم تؤثّر فيهم ضغوط المال والمقام والغريزة، رغم أنّ كلّ واحدة من هذه الثلاثة كافية وحدها في إخضاع الأشخاص الذين تكون همّتهم وضيعة وإرادتهم ضعيفة وذليلة. لم تستطع كلّ هذه الإغراءات أن تثني هؤلاء الرجال عن طريق العبوديّة للحقّ تعالى، وفضّلوا الموت على خيانة الإسلام والمسلمين؛ لأنّ ذلك في الحقيقة خيانة لله سبحانه.
* اللذّة الروحيّة أسمى
يجب أن يكون واضحاً أنّه، وإن لم توجد لذّة ماديّة في معرفة الله والعبوديّة له، إلّا أنّ اللذائذ الروحيّة والنعم المعنويّة التي يلتذّ وينعم بها المؤمن، هي أفضل وأحسن وأكثر وأكمل، حيث إنّ من يتذوّق هذه اللذائذ، يُعرض في سبيلها عن أفضل اللذائذ الماديّة. ونذكر بعض الشواهد التاريخيّة التي تؤيّد ذلك:
1. يصيبه السهم ولا يقطع الصلاة: في إحدى الغزوات، كلّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمّار بن ياسر وعبّاد بن بِشْر بالحراسة الليليّة، وقد اتّفقا أن تكون الحراسة مناصفة من أوّل الليل إلى منتصفه لعباد، والنصف الثاني لعمّار. فنام عمّار، وفيما كان عباد يصلّي، توجّه يهوديّ نحو معسكر الإسلام ليغتال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ومن بعيد، رأى في المعسكر شيئاً، ولشدّة الظلام لم يستطع أن يميّز ما إذا كان ذلك إنساناً أم حيواناً أم شيئاً آخر، فرماه بسهم فاستقرّ السهم في جسد عبّاد فلم يقطع صلاته، ثمّ رماه بسهم ثانٍ وثالث واستقرّا أيضاً في جسده ولم يقطع صلاته كذلك، فعجّل في صلاته وأيقظ عمّاراً، فلمّا نظر إليه عمّار ورأى الدم يسيل منه؛ عاتبه لمَ لم يوقظه مباشرة عندما أصابه أوّل سهم، فقال: "يا عمّار، كنت أقرأ سورة الكهف ولم أحبّ أن أقطعها، ولولا خوفي أن يقتلني ويصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكون قصّرت في واجبي، لما تركت قراءة السورة ولما عجّلت في صلاتي ولو كان في ذلك حياتي"، ثمّ مضيا معاً وأبعدا العدوّ عن جند الإسلام.
تأمّل أيّها القارئ العزيز في اللذّة الروحيّة للصلاة، وكيف أنّ هذا المجاهد تغلّب على جراح السهام، بل كان مستعدّاً لبذل روحه ومع ذلك لم يقطع الصلاة.
2. نظرة إلى أبطال كربلاء: إذا أردت أكثر، وأردت أن تعلم مدى قوّة اللذّة الروحيّة وشدّتها؛ فتأمّل في أحوال أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام. وهذا الأمر يدعو إلى التأمّل والعجب، فقد أعرضوا عن المال والجاه والعيال والأولاد بملء اختيارهم، واستقبلوا أنواع البلاء والصعوبات ببهجة وسرور، باذلين في سبيلها مهجهم. فهذا بُرير يقول ليلة عاشوراء: "والله، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً، ولكن والله إنّي لمستبشر بما نحن لاقون..."(1). وهل تدبّرت في حالات عابس يوم عاشوراء، إذ رمى بدرعه وخوذته وألقى بنفسه في بحر جيش العدوّ، حاسراً غير دارع؟
هذا بالرغم من أنّ الإمام الحسين عليه السلام أذن لهم مرّات عدّة بالذهاب حيث يريدون، ولكنّهم لم يتركوه، وكان بعضهم كالغلام الأسود يترجّى الإمام عليه السلام أن يأذن له بالمشاركة في الحرب، وكان لسان حالهم جميعاً: "تركت الخلق طرّاً في هواكَ، وأيتمتُ العيال لكي أراكَ، فلو قطّعتني بالحبّ إرباً، لما مال الفؤاد إلى سواكَ".
* العلم المادّيّ يؤيّد عبادة الله
ممّا تقدّم، يُعلم أنّ على الإنسان أن لا يقصّر في الوصول إلى منزلة سامية في معرفة الله، بل عليه أن يكون إلى جانب تحصيله العلوم الماديّة ساعياً للحصول على المعرفة الإلهيّة، فهذان العِلْمَان ليسا متنافيين، كما أنّ العلم الماديّ يؤيّد "معرفة الله". وإنّ الهدف من إيجاد السماوات والأرض وإرسال الأنبياء عليهم السلام والكتب السماويّة؛ وصول البشر إلى مقام معرفة الله والعبوديّة له سبحانه، وهنا إشارة إلى آيتين من القرآن المجيد:
1. المعرفة هدف الخلقة: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ (الطلاق: 12)؛ أي أنّ الهدف من خلق السماوات السبع والأرضين السبع وجميع أنواع التدبير الإلهيّ، تعريف البشر بقدرة الله وعلمه اللامتناهيين.
2. خلق الجنّ والإنس للعبادة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، أي خلقتهم ليصلوا إلى مقام العبوديّة الذي فيه السلطنة الإلهيّة. والهدف من الإيجاد وصول الإنسان إلى مقام العلم والعمل اللذين هما بمثابة جناحين له، وبهاتين القوّتين يحلّق في العالم الأعلى ويصل إلى المقامات التي ما رأت عين مثلها ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر.
هكذا هو الذوبان حبّاً في الله طاعةً وعبوديّة، حتّى يضحى لذّة لا تضاهيها أيّ لذّة أخرى.
(*) مقتبس من كتاب القلب السليم، ج1، ص181-186.
(1) السيّد الأمين، أعيان الشيعة، ج3، ص561.