الشيخ سامر جوهر
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "العدل أساس تحقّق الحياة الإنسانيّة الطيّبة. أنتم حين تدعون لتعجيل ظهور الإمام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّكم تطلبون أن يظهرَ لينشرَ العدالةَ، هذا هو الواقع، بالتالي، "يملَأ اللهُ بِه الأرضَ عَدلاً وَقِسطاً كما مُلِئَت ظُلماً وَجَوراً"(1). مع أنّ ذلك الإمام العظيم سينشر الدين والتقوى والأخلاق أيضاً في المجتمع، لكنّكم لا تقولون: (يملأ الله به الأرض ديناً)، بل تقولون: (عدلاً)"(2).
نعم، إنّما يُقام الدين بالعدل، فللعدل موقعه المحوري في المنظور الإسلامي. فكيف يتحقّق العدل في المجتمع؟ وما هي أشكال تطبيقه؟
* كيف يتحقّق العدل؟
قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25). وردت كلمة "قسط"، وتعني العدل، في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، ويراد بها "إيفاء الحقّ إلى صاحبه وإيصاله إلى مورده الأحقّ والأحسن، ويتحقّق في مقام إجراء العدل وإعماله في الخارج"(3). والمقسط من أسماء الله تعالى وهو العادل.
نتيجة لذلك، تقتضي الحكمة الإلهيّة تهيئة كلّ مقدّمات إقامة العدل، فلا يمكن قيام الناس بالقسط من دون إرسال الرسل بالبيّنات والكتاب والموازين والتشريعات بكلّ مستوياتها الفرديّة والاجتماعيّة، ومن هذه الجهة كان التشريع الإلهيّ بأتمّ وأكمل وجه لتحقيق العدل والقسط. أمّا من جهة الناس، فالقيام بالتشريعات الإلهيّة والالتزام بها يضمن تحقّق العدل(4).
* العدل مطابق للتشريع الإلهيّ
تنوّعت الأحكام والتشريعات الإلهيّة التي تطال شرائح المجتمع كافّة. ومن الواضح أنّ العدل المطلوب تحقيقه، هو ما يطابق موازين الشرع وأحكام الدين، وليس العدل في نظر المؤمنين بعيداً عن التشريع الإلهيّ، بل بحسب التاريخ، لم تتمكّن أمّة من الأمم من تحقيق العدل بعيداً عن الدين. ومن المفيد الإشارة إلى أنّ الآية ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، ليست لإرشاد الناس وأمرهم بتحقيق القسط فحسب، بل لتأمين كلّ ظروف تحقيقه أيضاً، كما في نهاية الآية: ﴿وأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيه بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ (الحديد: 25). وقال الله تعالى مخاطباً النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة: 42).
انطلاقاً من هنا، ما هي أوجه تحقيق العدالة الاجتماعيّة بين الناس والأفراد؟
* العدل في الحكم
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الأمر المهمّ الذي يستحقّ التضحية في سبيل تحقيقه، هو الأمر المهمّ ذاته الذي ضحّى سيّد الشهداء عليه السلام بنفسه من أجله، والذي سعى رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وعشرين عاماً من أجله، والذي دفع الإمام عليّاً عليه السلام إلى شنّ حرب الناكثين والقاسطين والمارقين؛ كلّ ذلك من أجل مجاهدة الظلم ومن أجل إقامة الحقّ والعدل"(5). وقد ورد في الكثير من خطب نهج البلاغة ما يدلّ على أهميّة العدل الاجتماعيّ في الحكم، منها: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، ولا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ ونُظْهِرَ الإصْلاحَ فِي بِلادِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ"(6).
وقد تسلّم الإمام علي عليه السلام الخلافة في ظروف بالغة التعقيد، إذ كان يصعب على أصحاب النفوذ أن يُذْعِنوا للإصلاح؛ لأنه يضرّ بمصالحهم. لذلك قال لهم الإمام عليه السلام: "دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي... واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ"(7).
وكان تجسيد العدالة الاجتماعيّة من أولى مهام الإمام عليه السلام، وقد ألغى السياسة الماليّة والاجتماعيّة والإداريّة الّتي كان معمولاً بها؛ ليوفِّر بيئة لتطبيق العدالة الاجتماعيّة في معاملة الأفراد. ومن التعديلات التي قام بها عليه السلام:
1. تبنِّي سياسة المساواة العادلة في توزيع المال والحقوق، وإلغاء الطبقيّة والتمييز ومظاهر الثراء.
2. استرجاع الأموال التي صُرفت من بيت المال بغير وجه حق.
3. إقالة الولاة الّذين أساؤوا التصرّف وخالفوا أمر الله تعالى.
* العدل في الأسرة
الأسرة أهمّ المؤسّسات الاجتماعيّة في المجتمع البشريّ على الإطلاق، إذ إنّها تعمل على تلبية حاجات الإنسان المادّيّة والمعنويّة، وتُشكّل البيئة الصالحة لتأمين الاستقرار النفسيّ لأفرادها، وتربية الأجيال وفق قيم الدين. ويمكن القول إنّها أحبّ مؤسّسة عند الله، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بُنِي بناءٌ في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج"(8).
صحيح أنّ المدخل الشرعيّ إلى الزواج هو عقد قانونيّ، لا يتمّ إلّا من خلال إيجاب الزوجة وقبول الزوج، ضمن شروط مذكورة في الرسائل الفقهيّة، إلّا أنّه في روحه عبادة وبناء لكلّ أطرافه؛ الزوجين والأبناء، كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "هل تجدون في كلّ العالم منهجاً مثل الإسلام يهتمّ بأمر تربية الإنسان؟ فهو يحدّد لكلٍّ من والدَيْه قبل زواجهما الشروط الّتي يجب توفّرها فيهما، ويحدّد المواصفات اللّازمة في الزّوجين، ثمّ يحدّد كيفيّة تعاملهما بعد الزّواج، وآداب الحمل والولادة، ثمّ حضانة الطّفل، والهدف من كلّ هذه الآداب هو أن تكون ثمرة هذا الزّواج كياناً صالحاً للمجتمع"(9).
وقد شرّع الإسلام حقوقاً وواجبات لكلّ أفراد الأسرة، وللزّوجَيْن خاصة لأنّهما أساسها، وهي بمثابة النظام الداخليّ للحياة الزّوجيّة الذي يُحقق موازين العدل داخل الأسرة، ومن هذه الحقوق والواجبات(10):
1. واجبات الزّوج تُجاه الزّوجة (حقوق الزّوجة): وهي على قسمين: الأول- حقوق شرعيّة كالمهر والنفقة والعلاقة الخاصة، وعدم استخدام القسوة. والثاني- حقوق أخلاقيّة من قبيل حسن المعاشرة، والصبر على إساءتها، وغفران ذنبها، والتجمّل لها، وغيرها من التفاصيل الواردة في كتب العلماء.
2. واجبات الزّوجة تُجاه الزّوج (حقوق الزّوج): وهي أيضاً على قسمين:
الأول- حقوق شرعيّة من قبيل إطاعتها لزوجها فيما يعدّ فيه إذناً له، وتمكينه من نفسها، والتزيّن له. والثاني- حقوق أخلاقيّة من قبيل حسن استقبالها له، وحسن المعاملة، والصبر عليه وعلى غيرته، وغيرها ممّا ذكره العلماء.
وثمّة عناوين أخرى تسهم في تحقّق العدالة بين الزوجين مثل تفهّم خصوصيات الآخر، وتحكّم المودّة في العلاقة بينهما، والمعاشرة بالمعروف، وغيرها.
إضافةً إلى توضيح الإسلام حقوق الوالدين على أبنائهما وواجباتهما، وبالعكس أيضاً، والحقوق والواجبات بين الأخوة، كلّ ذلك بناءً على العدالة وتحقيقاً لها في دائرة الأسرة عامّة. ومن أبسط الأمثلة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما نظر إلى رجل له ابنان، قبّل أحدهما وترك الآخر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم له: "فهلا ساويت بينهما؟"(11).
* العدل في العمل
أولى الإسلام موضوع العمل أهميّة كبيرة، ووضع التشريعات التي تساعد على تحقّق العدالة بين العمّال. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ظلم أجيراً أجره، أحبط الله عمله وحرّم عليه ريح الجنّة، وإنّ ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام"(12)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ظلم الأجير أجره من الكبائر"(13)، وكذا في موضوع الأجرة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه، وأعلمه أجره وهو في عمله"(14).
* العدل مع الآخر
كثيرةٌ هي الوصايا الإسلاميّة في تحقيق العدالة في المجتمع: مع الجار والمعلم، والتلميذ والصديق، ومع الآخر المختلف من غير دين، حتى وردت توصيات لتحقيق العدل والإنصاف في التعامل مع النفس: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص: 77)، إذاً لكلّ فرد في المجتمع الإسلاميّ كيان وتقدير وحقوق وواجبات تُجاه نفسه وتُجاه غيره.
* هدف البشريّة
لقد كان تحقيق العدل هدفاً جوهريّاً في تاريخ البشريّة؛ فقد بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عمله في المدينة بالمؤاخاة بين المسلمين، وتطبيق مبدأ التكافل بينهم، لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي يتوخّاها الإسلام. ولو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم لبعث الله حجّته "فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً"(15).
(1) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج51، ص12.
(2) كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقائه رئيس السلطة القضائيّة ومسؤوليها في 26-6-2019م.
(3) الشيخ المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 9، ص 259.
(4) الشهيد المطهري، أنسنة الحياة في الإسلام، ص 19.
(5) الإمام الخمينيّ قدس سره، صحيفة النور، ج6، ص 35، بتصرّف.
(6) الشيخ محمد عبده، نهج البلاغة، ج2، ص14.
(7) الشيخ محمد عبده، المصدر نفسه، ج 1، ص 181 - 182
(8) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج20، ص14.
(9) الكوثر، مجموعة من خطابات الإمام الخمينيّ قدس سره خلال الأعوام (1962م- 1978م)، ج 3، ص 341، بتصرّف.
(10) الشيخ أكرم بركات، دليل العروسين بين الخطوبة والزفاف، ص 57، بتصرّف.
(11) الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص220.
(12) الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 513.
(13) الشيخ الريشهري، ميزان الحكمة، ج1، ص25.
(14) الشيخ الريشهري، المصدر نفسه، ص26.
(15) الشيخ الطوسي، الغيبة، ص 24.