الشيخ سمير خير الدين
ما هو العدل التكوينيّ؟ وهل يتنافى مع وجود البلاءات والشدائد في حياة البشر؟ وهل يتناقض مع ظاهرة الموت، وكلاهما فعل الله تعالى؟
في هذه المقالة، إجابة حول هذه التساؤلات، وفق رؤية الشهيد الشيخ مطهري.
* العدل الإلهيّ التكوينيّ
يرتبط هذا المظهر من العدل بالخلق والتكوين، بمعنى أنّ الكون "قائم على أساس الحقّ والعدل، وقد نظّم العالم على أساس الأسباب والمسبّبات"(1)، وبتعبير آخر: المقصود من أنّ الله عادلٌ هو أنّه "لا يهمل استحقاق ولياقة أيّ موجود، فيعطي كلّ شيء ما يستحقّ". بناءً على العدل التكوينيّ، يستحيل تحقّق الظلم التكوينيّ؛ بالتالي، فعدله تعالى وحكمته يقتضيان أن يحلّ الكمال محلّ النقص، والخير محلّ الشرّ، والجمال محلّ القبح، والهدف هو وجود النظام الأفضل محلّ العبث.
في هذا السياق، طُرحت بعض الأسئلة والإشكاليّات التي استلزمت أبحاثاً في ذلك، نشير إلى أهمّها.
* البلاءات والعدل التكوينيّ
ما هو تفسير وجود البلاءات والشدائد في ظلّ العدل التكوينيّ؟
قال تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6)، تشير الآية إلى أنّ اليسر كامن في أعماق الشدّة، ومقرون بها، وفهم الآلام متوقّف على فهم الغاية من وجود الإنسان في النشأة الدنيويّة: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (المُلك: 2)، وهذا يعني أنّ مرحلة الاختبار، تمهّد للعالم الآخر؛ من هنا، ستكون الشدائد والمصائب ضروريّة لتكامل الإنسان وتطهيره من الذنوب، وعن ذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155)؛ فقد ذكر الله تعالى الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وكلّها آلام؛ ثمّ أعقبها بالبشارة بالخير. أضف إلى أنّ صيغة (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) تفيد التأكيد المنسوب لله تعالى. نتيجةً لذلك، يمكن الخلوص إلى النتائج الآتية:
1. إنّ وجود الشدائد والصعوبات من السنن الإلهيّة في الكون. فكما أنّ الصقل للحديد والفولاذ يجعلهما حادّين، فكذلك الشدائد، فهي ترتبط بتربية الإنسان وصقل شخصيّته؛ فالصعوبات "مربّية للفرد، وموقظة للأمم، فهي تعيد الوعي للنائمين، وتحرّك العزائم والإرادات"(2).
2. إنّ مبدأ البلاء يشمل البعدين التشريعيّ والتكوينيّ؛ في الشأن التشريعيّ، فإنّ الصوم، والحجّ، والإنفاق، والصلاة، كلّها تكاليف فيها شيء من المشقّة والكلفة أوجدها الشرع، والصبر إزاءها، والاستقامة في أدائها يوجب تكميل النفوس، وتربية الاستعدادات الرفيعة للإنسان. أمّا في الجانب التكوينيّ، فالجوع، والخوف، والخسارات الماليّة، وفقدان الأرواح، هي شدائد أوجدها النظام التكوينيّ ويواجهها الإنسان على الرغم منه.
3. إنّ وجود الشدائد والبلاءات والآلام في الحياة الدنيا هو جزء من ماهيّتها. وبما أنّ نشأة الدنيا مرحليّة واختباريّة، فلا بدّ من أن تكون طريقاً لتربية النفس وصقلها بالملكات الفاضلة التي لا تتحقّق إلّا بالعمل والصبر على الآلام، ويكون هذا من وجوه الحكمة الإلهيّة في تسامي الإنسان الاختياريّ، ومن مقتضيات العدل التكوينيّ الذي يتركّز على إيصال المخلوقات إلى كمالاتها، والتي منها الإنسان الذي يختصّ بوصوله إلى كماله باختياره.
* الموت والعدل التكوينيّ
هل يتناسب الموت مع العدل الإلهيّ؟ الموت ما هو إلّا حلقة من حلقات مسيرة الإنسان الوجوديّة التكامليّة في سيره في العوالم.
وهنا، يجب التأكيد على أمرين:
أوّلاً: النظرة إلى العالم والموت
إنّ النظرة الكلّيّة إلى العالم، تحدّد موقعيّة النظرة إلى الحياة والموت في النظام الوجوديّ. بناءً على ذلك:
1. إنّ الفهم الصحيح للحياة، يعلّم المرء كيف ينبغي أن يحييها؛ لأنّ سرّ الممات كامن في عمق الحياة. من هنا، إن كانت نظرته إلى الكون والإنسان مشوّهة أو بتراء، فسيرى الموت عدماً، وستصبح "الرغبة في الخلود والآمال المعلّقة عليها عذاباً أليماً للإنسان، وبالتالي، تصبح صورة الموت في مرآة الفكر المستنير، والنظرة البعيدة للإنسان مولّدة لنبع من الوحشة لا نهاية له"(3).
2. إنّ الشعور بالعذاب والوحشة، والألم والمعاناة هو وليد النظرة العبثيّة واللغويّة إلى الحياة، الناشئة عن الجهل بشؤون المبدأ والمعاد، وفلسفة الحياة، وهدفها، وفهم ظاهرة الموت في سياقها الطبيعيّ في المنظومة العقائديّة السليمة.
3. إنّ من أسباب الخوف من الموت عدم الفهم الصحيح له؛ وكان ذلك دافعاً نحو تكوين الفلسفة المتشائمة التي ترى الحياة بلا هدف، وعليه، كان التشاؤم، والقلق، والحيرة، والخوف، والاضطراب، والاكتئاب، والضعف، والانتحار، وكلّها تنتج عن سوء النظرة إلى الوجود والحياة.
ثانياً: لا مكان للعبثيّة
يتّضح بطلان العبث التكوينيّ بمقتضى الحكمة الإلهيّة، بالأدلّة الآتية:
1. قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المؤمنون: 115)؛ فهل يعقل أن يكون تحقّق العبث مرتبطاً بانتهاء الإنسان وانعدامه بعد فترة عمره؟ هذا مستحيل على الله تعالى، فلا يصدر عن الحقّ إلّا الحقّ، فالآية "تلفت الإنسان إلى إنسانيّته، وإلى ما ينطوي عليه من الجواهر والاستعدادات الاستثنائيّة التي هي بمنزلة البذور لمرحلة الإثمار"(4).
2. التناسب بين نشأتي الدنيا والآخرة استعداداً وفعليّة، فالتناسب متحقّق بين عناصر الكون، وهنا يحضر مبدأ التناسبيّة؛ التي من مظاهرها التكوين الدنيويّ والبقاء الأخرويّ، فمثلاً: "الأمل فرع لتصوّر الخلود؛ أي تصوّر البقاء الدائم وجماله وجاذبيّته، وهذه الجاذبيّة تخلق في أنفسنا أملاً كبيراً في أن نبقى دائماً"(5).
فالإنسان قد خُلق بشكل غُرس فيه الأمل في الخلود، باعتباره وسيلةً للوصول إلى الكمال الذي يستطيعه. فلو كانت الحياة مقصورة على الحياة الدنيويّة، لأصبحت تلك الاستعدادات لغواً لا فائدة منها، و"الإنسان الذي لا يؤمن بالحياة الأبديّة، يجد تناقضاً بين تكوينه الواقعيّ من جهة، وفكره وأمله من جهة أخرى"(6).
3. إنّ من مظاهر التناسبيّة بين الخلق حياة الطفل عند ظهوره مثلاً، واشتعال العطف عند الأمّ تجاهه، فالعطف يتناسب مع رعايته ليبقى، وكذا انجذاب الطفل إليها، متناسب مع مراعاته وبقائه، وكذا البذرة متناسبة مع التراب، وكذا مع توجّهها نحو الأعلى لا الأسفل لتعيش، وكذا مع طبيعة الماء، فكانت الأمطار ماءً لا سائلاً آخر، فلولا هذا، وذلك، وذاك، لم تنبت بذرة، ولما تحقّقت حياة.
وكذلك فقد خُلق الإنسان راغباً في البقاء، وهذا يعني وجود البقاء، لذا قيل: حبّ البقاء دليل البقاء، ويصبح الموت وفقاً لهذا سيراً من بقاء إلى بقاء.
* الموت مظهر عدل
في ختام هذا المبحث، نستخلص أمرين أساسيّين:
1. يتّضح أنّ نشأة الدنيا مكان لتربية الاستعدادات، ولتنمية قوى الإنسان؛ فتكون الدنيا محطّة اختباريّة وإعداديّة، لكن إعداديّتها متّصلة بالآخرة؛ بمعنى أنّ ما نجده هناك مرتبط بما نعدّه هنا، وطبيعة هذا الإعداد تكميليّ وإنضاجيّ بحيث يُخرج الصفات والملكات الفاضلة أو الرذيلة من عالم القوّة إلى عالم الفعل.
2. يتبيّن أنّ الموت ليس عدماً حتّى يتنافى مع العدل التكوينيّ، وإنّما هو تطوّر وتحوّل، غروب عن نشأة ما، وبدء نشأة أخرى، بل هو ظاهرة وجوديّة طبيعيّة تكامليّة تشكّل مظهراً من مظاهر العدل التكوينيّ، يسير المرء فيه من وجود أدنى إلى وجود أسمى، في أحدهما يكون الإنسان في طور الاستعداد والقابليّة، فتهذّب تلك الاستعدادات، وفي الآخر تتحقّق الحقائق الفعليّة المترتّبة على تلك القابليات.
(1) الشيخ مطهري، الرؤية الكونيّة التوحيديّة، ص22.
(2) الشيخ مطهري، العدل الإلهيّ، ص 173.
(3) الشيخ مطهري، المصدر نفسه، ص 231.
(4) الشيخ مطهري، المعاد، ص111.
(5) الشيخ مطهري، العدل الإلهيّ، ص 232.
(6) الشيخ مطهري، المصدر نفسه، ص 232.