ما عسانا نقول حول شخصيّة أمير المؤمنين عليه السلام؟!
من وصل إلى مرحلة الكمال، وكان مظهراً لجميع أسماء الله جلّ وعلا وصفاته، يجب أن يكون عدد أبعاده مساوياً لتلك الأسماء (أي ألفاً)، وليس في مقدورنا تبيين بُعد واحد منها. لكن ثمّة مسألة يجب تناولها، وهي أبعاد حادثة غدير خمّ السياسيّة، والانحرافات والدسائس والمؤامرات التي تعرّضت لها الشعوب على مرّ العصور، وخاصّة شيعة الإمام علي عليه السلام.
* مقاماته المعنويّة عليه السلام أوجدت الغدير
لا يعدّ تنصيب الإمام عليه السلام خليفة من مقاماته المعنويّة، بل إنّ مقاماته المعنويّة الجامعة هي التي أوجدت الغدير. وإنّ تلك المقامات التي كان يتمتّع بها الإمام عليه السلام وشموليّتها، هي التي جعلت منه خليفةً وقائداً مُنَصّباً من قِبل الباري عزّ وجلّ. لذلك، إنّ تبجيل يوم الغدير وتقديسه ليس لأهميّة الحكومة، التي قال بحقّها الإمام عليه السلام لابن عباس: "واللهِ لهذهِ النعلُ أحبُّ إليّ من إمرتكُم"(1)، بل كلّ ما في الأمر هو إقامة العدل.
* الحكومة متّصلة بالسياسة
أمر الله جلّ وعلا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتسليم الحكومة السياسيّة إلى الإمام عليّ عليه السلام؛ فالحكومة عِدل السياسة، بل هي تمام معنى السياسة، ولا يمكن الفصل بينهما. ما يؤسف عليه أنّ كثيراً من الانحرافات قد حصلت، وأبرزها ما قامت به أيد خفيّة، يمتدّ تاريخها إلى عصر الخلفاء الأمويّين والعبّاسيّين، تقول بفصل الدين عن السياسة.
لقد ارتؤوا وجوب جعل الدين شيئاً تعبّديّاً، ونحن أخذنا بأفكارهم وردّدنا معهم: "ما شأن الدين بالسياسة؟ السياسة للملوك والسلاطين". ومعنى ذلك أنّنا نكذّب -والعياذ بالله- الله ورسوله الكريم وأمير المؤمنين وأئمّة الهدى عليهم السلام. أمّا في واقع الأمر، فالحكومة جهاز سياسيّ، وهي ليست قراءة دعاء أو صلاة أو صيام، بل إنّ قيام حكومة العدل يضمن إقامة الصلاة والصوم وأمثالهما.
لو أُتيح للإمام عليه السلام إقامة حكومة العدل، لزالت جميع الانحرافات، ولأصبحت البيئة صحيحة وسليمة، ولفُتح المجال أمام جميع المفكّرين، من العرفاء والحكماء والفقهاء، للعمل بحريّة واطمئنان وسكينة. لذا، فقد جاءت حادثة الغدير لتُفهم الملأ أنّ السياسة تتعلّق بالجميع، وأنّه يجب أن تكون ثمّة حكومة تمارس السياسة في كلّ عصر حتّى تستطيع تحقيق كلّ ذلك.
وعلى الرغم من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أعرف خلق الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمّة، لم يتنحّ جانباً، ولم يكرّس كلّ وقته للأذكار أبداً، بل كان منهمكاً في أعماله، وعلى احتكاكٍ دائمٍ بالناس، ويقوم ببعض ما ذكر أيضاً.
* الغدير وترسيخ السياسة
بناءً على هذا، قيل: "ما نُوديَ بشيء مثلَ ما نُوديَ بالولاية"، لأنّها عبارة عن الحكومة؛ فلم يُدع إلى أيّ شيء مثلما دُعي إلى هذا الأمر السياسيّ، الذي كان موجوداً في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام. يتفوّه بعض رجال الدين بكلمات عجيبة، فيقولون على سبيل المثال: "ملابس الجنديّ محرّمة لأنّها لباس شهرة وتقدح بالعدالة"! أما كان النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم عادلاً؟! ألم يكن أمير المؤمنين عليه السلام عادلاً؟! ألم يكن سيّد الشهداء عليه السلام عادلاً؟! أما كان الإمام الحسن عليه السلام عادلاً؟! لقد لبسوا جميعاً لباس الجنديّ؛ لأنّ حكومتهم كانت حكومة ولاية وتزويد وتجهيز الجيوش الجرّارة، وكلّ ذلك يصبّ في خانة السياسة. وثمّة من يقول: "ما شأن المشايخ بالسياسة؟". يريدون عزل رجال الدين عن الشعب للقيام بما يحلو لهم، لكنّ علماءنا لم يتخلّوا عن السياسة على امتداد التاريخ. من هنا، جاءت قضيّة الغدير لترسيخ مفهوم الحكومة والسياسة.
* إطاعة أولي الأمر
لقد أرسل الله لنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الأحكام التي يجب أن نتّبعها، ثمّ يأتي من يقول مثلاً: أطيعوا من يطلب منكم عدم الالتزام بالأحكام! أيّ عقل يصدّق ذلك؟ ليس من المعقول أن يرسل الله ديناً على يد أنبيائه ثمّ يقول: أطيعوا من لا دين له، أي تخلّوا عن دينكم! لذلك، الجدير بالطاعة هم الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وأولو الأمر الذين يمتلكون صفات من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
* خلافات المسلمين مفتعلة
لقد حدثت انحرافات بعد غدير خم، أدّت إلى الابتلاء بمصائب تتعرّض لها الدول الإسلاميّة كافّة. ومن جملتها الخلافات التي ابتدعها أعداء الإسلام، بين طوائف المسلمين المختلفة، الذين يختلفون في كثير من العقائد، لكن يجب أن تكون علاقاتهم طيّبة بعضهم مع بعض. ويجب أن لا يدفعنا الخلاف إلى عرقلة جهود أيّ دولة إسلاميّة ترغب في طرد أمريكا من بلادها، وكلّ من أراد الفتك بالإسلام والمسلمين.
لمَ يسمح أصحاب العقائد المختلفة للأيادي الخارجيّة بحصول الخلافات؟ إنّ ذلك نتيجة نوع من التربية التي أوجدها المتآمرون، والتي تقوم على أن تعتقد كلّ طائفة بخلاف ما تعتقده الطائفة الأخرى، فيكون الجميع مختلفين، فيعود النفع على أولئك!
أسأل الله تعالى بتواضع وتذلّل، أن يقوّي شوكة الإسلام والقضايا الإسلاميّة في كلّ مكان، وأسأله تعالى أن يوحّد هذه الأفكار المشتّتة في فكر إسلاميّ صحيح واحد.
(*) صحيفة الإمام، مناسبة عيد غدير خم الأغرّ، التاريخ 18 ذي الحجّة 1406هـ، حسينيّة جماران، الجزء (20)، ص 96-101.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 33.