مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: كيف نُعمّر مساجد الله؟


الشيخ د. أكرم بركات


قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (التوبة: 17-18).

كلّ الأمكنة هي لله تعالى، ولكن أن ينسب الله تعالى المساجد له، فهذا يدلّ على قدسيّة خاصّة لتلك الأمكنة التي عدّها سبحانه بيوته في الأرض، ففي الحديث القدسيّ: "إنّ بيوتي في الأرض المساجد"(1).

وما تقدّم في الآية السابقة يتمحور حول عمارة هذه المساجد. والعِمارة بصورة عامّة لها معنيان: البناء والإحياء.

* أوّلاً: البناء
من اللافت ما ورد في الروايات حول بناء المساجد أنّ الله تعالى، أوّلَ ما خلق الأرض، رفع موضع الكعبة، ودحا الأرض من تحتها، وأنّه عزّ وجلّ حدّد مكان المسجد الحرام قبل نزول آدم عليه السلام إلى الأرض، وأنّ جبرائيل عليه السلام أرشد آدم عليه السلام إلى مكان المسجد ليبني فيه الكعبة الشريفة(2). وهذا يعني أنَّ الله تعالى قدّم وجود المسجد في الأرض على وجود الإنسان فيها؛ لتكون ثقافة الإسلام مبنيّة على أساس أنّ بيت الله تعالى قبل بيت الإنسان، بل قبل الإنسان نفسه.

وقد أشارت بعض الروايات إلى أنّ أمكنة المساجد قد حُدّدت سابقاً في الغيب الإلهيّ، حيث ورد أنَّ آدم عليه السلام حينما بنى الكعبة أخذ جبرائيل عليه السلام من كسيراتها، فكلّ موضع وقعت فيه ذرّة من تلك الكسيرات بنى فيه مسجداً(3).

من هنا، كان بناء المسجد من قِبل المؤمنين هو سيرٌ لتحقيق إرادة الله تعالى. ولعلّ هذا أحد الأسباب الكامنة في الشرف العظيم والثواب الكبير الذي كتبه الله تعالى لمن قام ببناء المساجد، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من بنى مسجداً في الدنيا بنى الله له بكلّ شبر –أو قال بكلّ ذراع- مسيرة أربعين ألف عام مدينة من ذهب وفضّة ودرّ وياقوت وزمرد وزبرجد، في كلّ مدينة أربعون ألف ألف قصر، في كلّ قصر أربعون ألف ألف دار، في كلّ دار أربعون ألف ألف بيت، في كلّ بيت أربعون ألف ألف سرير، على كلّ سرير زوجة من الحور العين..."(4).

* ثانياً: الإحياء
إنّ العمارة الحقيقيّة التي يريدها الله تعالى في المساجد هي عمارة الإحياء، الذي هو إحياء معنويّ للمساجد. وورد أنّه دافع من إنزال عذاب الله تعالى إلى الأرض، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب، قال: لولا الذين يتحابّون فيَّ، ويعمرون مساجدي، ويستغفرون بالأسحار، لأنزلت عذابي"(5).

1. كيف نحيي المساجد؟
إنّ لإحياء المساجد كيفيّات عديدة أوردتها الأحاديث الشريفة، نذكر منها:

أ. الزيارة: إنّ زيارة المسجد نفسها هي نوع من إحياء عمارته، وعليها يترتّب ثواب جزيل وفضل عظيم يبتدئ بالمشي إليه، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من مشى إلى مسجد من مساجد الله عزّ وجلّ، فله بكلّ خطوة خطاها حتّى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات"(6).

- ويعظم فضل الزيارة إذا سُبِقت بالتطهُّر مقدِّمة لها، ففي الحديث القدسيّ: "إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لمن تطهَّر في بيته، ثمّ زارني في بيتي، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر"(7).

- وتزداد الزيارة عظمة حينما يلتزم الزائر بآدابها كالذكر الوارد عند دخول المسجد في حديث الإمام الصادق عليه السلام: "إذا دخل العبد المسجد، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الشيطان الرجيم: آه كسر ظهري، وكتب الله له عبادة سنة"(8).

- وإذا زار المسجد، فجلس فيه، فإنّ لجلوسه ثواباً عند الله تعالى، ففي الحديث عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذر، إنّ الله تعالى يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكلّ نفس تنفَّست درجة في الجنّة، وتصلّي عليك الملائكة، وتُكتب لك بكلّ نفس تنفَّست فيه عشرُ حسنات، وتُمحى عنك عشرُ سيّئات"(9).

ب. الصلاة: إنّ ما يزيد من فضل زيارة المسجد أن يُصلّى فيه، فإنَّ الصلاة في المساجد لها ميزات منها:
- الثواب المضاعف: عن الإمام عليّ عليه السلام: "الصلاة في المسجد الحرام مئة ألف صلاة، والصلاة في مسجد المدينة عشرة آلاف صلاة، والصلاة في بيت المقدس ألف صلاة، والصلاة في المسجد الأعظم مئة صلاة... وصلاة الرجل وحده في بيته صلاة واحدة"(10).

- الشهادة للمصلّي يوم القيامة: عن الإمام الصادق عليه السلام: "صلُّوا من المساجد في بقاع مختلفة؛ فإنّ كلَّ بقعة تشهد للمصلّي عليها يوم القيامة"(11).

وتتأكّد الصلاة في المساجد لجيرانها، وهم الذين يسكنون في جوار المسجد في محيط أربعين داراً من كلِّ جانب، أو إلى المدى الذي يصل فيه نداء الأذان، فقد ورد أنّه قيل للإمام عليّ عليه السلام: "من جار المسجد يا أمير المؤمنين؟ فأجاب عليه السلام: مَنْ سمعَ النداء"(12)، وعنه عليه السلام: "حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها"(13).

ج. قراءة القرآن: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما نصبت المساجد للقرآن"(14).

د. الدعاء: عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بإتيان المساجد؛ فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً طهَّره الله من ذنوبه، وكُتب من زوّاره، فأكثِروا فيها من الصلاة والدعاء"(15).

هـ. التعلّم: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من راح إلى المسجد لا يريد إلّا ليتعلّم خيراً، أو ليعلّمه، فله أجر حاجّ تامّ الحجّة"(16).

2. فوائد الحضور في المسجد
الحضور في المسجد له فوائد عدّة، نذكر منها:

أ. التكامل المعنويّ: من خلال الزيارة والصلاة وقراءة القرآن.

ب. التكامل الثقافيّ: من خلال التعلّم.

ج. التكامل الاجتماعيّ: وذلك من خلال البيئة الإيمانيّة التي يؤمّنها المسجد، ففيه تحصل العلاقة الأخويّة الصادقة التي يندر للإنسان أن يحصل عليها في أيّ مكان آخر. وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى ذلك في قوله الوارد عنه: "لا يرجع صاحب المسجد بأقلّ من إحدى ثلاث: إمّا دعاء يدعو به يدخله الله به الجنّة، وإمّا دعاء يدعو به فيصرف الله عنه بلاء، وإمّا أخ يستفيده في الله عزّ وجلّ"(17).

د. تعلّم النظام: إنّ صلاة الجماعة خير معلّم للنظام الاجتماعيّ الذي يحبّه الله تعالى ويحثّ عليه.

هـ. تعلُّم الجمال: إضافة إلى النظام الذي يمارسه المؤمن في صلاة الجماعة، فإنّ ترتيب الصلاة بذلك النظم يجعل الإنسان مستأنساً بالصورة الجميلة التي تضفيها هذه الصلاة.

و. تعلُّم الوحدة: إنّ من فوائد صلاة الجماعة في المسجد هي تلك الوحدة التي يمارسها المصلّي مع إخوانه المسلمين؛ فإنّهم يقفون معاً، ويركعون معاً، ويسجدون معاً، ويجلسون معاً، ممّا يعبّر عن الصورة الأبهى التي يريدها الله أن تنتقل من المساجد إلى جميع أنحاء المجتمع الإسلاميّ.

ز. الوعي السياسيّ: إنّ صلاة الجماعة في المسجد تُشعر المؤمنين بقوّتهم المنطلقة من وحدتهم. وإنّ توجّههم ناحية المحراب (المشتقّ من الحرب)، توحي بتوحيد البوصلة في حربهم على شيطان الداخل والخارج المتمثّل بعدوّ الإسلام. وإنّ منبر المسجد الذي يتعرّض فيه خطيبه إلى قضايا المسلمين، يبثّ الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ عندهم، ليتحلّوا بقيمة التواصي بالحقّ والصبر في نصرة الإسلام، والتغلّب على المصاعب التي تعاني منها المجتمعات الإسلاميّة.

* دور عظيم
إنّ هذا الدور الأساس، وهذه الفوائد العظيمة للمساجد، هي التي جعلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤسِّس في مكان انتظار أمير المؤمنين عليه السلام والفواطم مسجد "قبا"، ثمّ يؤسّس في المدينة وقبل أيّ حركة المسجدَ النبويّ الشريف، وهي التي تجعل المتردّد إلى المسجد في موقع استثنائيّ يوم القيامة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "تحت ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، رجل خرج من بيته فأسبغ الطهر، ثمّ مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض الله..."(18).

 

1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 81، ص 6.
2- يراجع: ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ج2، ص 83 - 84.
3- انظر: لآلئ الأخبار، ج 4، ص 137.
4- المصدر نفسه، ج 8، ص 192.
5- المصدر نفسه، ج 84، ص 154.
6- المصدر نفسه، ج 73، ص 370.
7- المصدر نفسه، ج 81، ص 6.
8- السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج4، ص477.
9-العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 74، ص 85.
10- السيد البروجردي، مصدر سابق، ج 4، ص561-562.
11- العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج80، ص384.
12- الشيخ الريشهري، الصلاة في الكتاب والسنّة، ص73.
13- المصدر نفسه، ج 71، ص 151.
14- المصدر نفسه، ص 363.
15- السيد البروجردي، مصدر سابق، ج4، ص431.
16- المصدر نفسه، ج 1، ص 185.
17- العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج71، ص275.
18- القاضي النعمان، دعائم الإسلام، ج1، ص154.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع