الشيخ د. أكرم بركات
ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها ولا تعرضوا عنها"(1).
من أيّام الله تعالى التي تمتاز بنفحات الرحمة الربّانيّة أيّام شهر رجب، الذي ميّزه الله تعالى عن بقيّة الشهور. وفي هذا المقال إطلالة على مميّزات هذا الشهر.
* فضيلة شهر رجب
ورد في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أقبل شهر رجب جمع المسلمين حوله، وقام فيهم خطيباً يقول: "أيّها المسلمون، قد أظلّكم شهر عظيم مبارك، وهو شهر الأصبّ تصبّ فيه الرحمة على من عبده إلّا عبداً مشركاً أو مظهر بدعة في الإسلام"(2).
* عبادات رجب
يمتاز شهر رجب في أنّه شهر العبادة، فقد ورد فيه الكثير من الأعمال العباديّة، نذكر منها:
1. الاستغفار
وهو بوّابة شهر رجب، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رجب شهر الاستغفار لأمّتي، فأكثروا فيه الاستغفار؛ فإنّه غفور رحيم، وشعبان شهري، استكثروا في رجب من قول استغفر الله، وسلوا الله الإقالة والتوبة فيما مضى، والعصمة فيما بقي من آجالكم..."(3).
وورد في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه كان يسجد في شهر رجب، ويُسمع في سجوده: "عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، لا يزيد على هذا مدّة مقامه"(4).
2. الصوم
وقد ورد فيه أحاديث كثيرة وعظيمة، منها:
أ. من صامه كلّه: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من صامه كلّه [أي رجب]، استوجب على الله ثلاثة أشياء: مغفرةً لجميع ما سلف من ذنوبه، وعصمةً فيما بقي من عمره، وأماناً من العطش يوم الفزع الأكبر". فقام شيخ ضعيف فقال يا رسول الله: إنّي عاجز عن صيامه كلّه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صم أوّل يوم منه، فإنّ الحسنة بعشر أمثالها، وأوسط يوم منه، وآخر يوم منه؛ فإنّك تعطى ثواب صيامه كلّه"(5).
ب. من صام يوماً: عن أبي الحسن عليه السلام: "رجب نهر في الجنّة أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر"(6).
ج. من صام آخره: عن سالم قال: دخلت على الإمام الصادق عليه السلام في رجب وقد بقيت منه أيّام، فلمّا نظر إليّ قال لي: "يا سالم، هل صمت في هذا الشهر شيئاً؟"، قلت: لا والله، يا ابن رسول الله، فقال لي: "لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم مبلغه (أي حدّه وحجمه) إلّا الله عزّ وجلّ، إنّ هذا الشهر قد فضّله الله وعظّم حرمته، وأوجب للصائمين فيه كرامته". قال: قلت له: يا ابن رسول الله، فإنْ صمتُ ممّا بقي شيئاً، هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصائمين؟ قال: "يا سالم، من صام يوماً من آخر هذا الشهر كان ذلك أماناً من شدّة سكرات الموت، وأماناً له من هول المطلع وعذاب القبر، ومن صام يومين من آخر هذا الشهر، كان له بذلك جوازاً على الصراط، ومن صام ثلاثة أيّام من آخر هذا الشهر أمن من الفزع الأكبر من أهواله وشدائده، وأعطي براءة من النار"(7).
د. الرجبيّون: عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش أين الرجبيّون؟ فيقوم أناس يضيء وجوههم لأهل الجمع على (رؤوسهم) تيجان الملك مكلّلة بالدرّ والياقوت، مع كلّ واحد منهم ألف ملك عن يمينه، وألف ملك عن يساره، يقولون: هنيئاً لك كرامة الله عزّ وجلّ يا عبد الله، فيأتي النداء من عند الله جلّ جلاله: عبادي وإمائي، وعزّتي وجلالي، لأكرمنّ مثواكم، ولأجزلنّ عطاءكم، ولأوتينّكم من الجنّة غرفاً، تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، ونعم أجر العاملين، إنّكم تطوّعتم بالصوم لي في شهر عظَّمْتُ حرمته، وأوجبتُ حقّه، ملائكتي: أدخلوا عبادي وإمائي الجنّة، ثمّ قال جعفر بن محمّد عليه السلام: هذا لمن صام من رجب شيئاً، ولو يوماً واحداً في أوّله أو وسطه أو آخره"(8).
3. الدعاء
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الله تعالى نصَبَ في السماء السابعة مَلكاً يُقال له الداعي، فإذا دخل شهر رجب ينادي ذلك الملك كلّ ليلةٍ منه إلى الصباح: طوبى للذاكرين، طوبى للطائعين، ويقول الله تعالى: أنا جليس من جالسني، ومطيع من أطاعني، وغافر من استغفرني، الشهر شهري والعبد عبدي، والرحمة رحمتي، فمن دعاني في هذا الشهر أجبته، ومن سألني أعطيته، ومن استهداني هديته، وجعلت هذا الشهر حبلاً بيني وبين عبادي، فمن اعتصم به وصل إليّ"(9).
* من أدعية رجب
من أدعية شهر رجب ما روي عن محمّد السجّاد: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك، هذا رجب، علّمني فيه دعاءً ينفعني الله به. فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وقل في كلّ يومٍ من رجب صباحاً ومساءً وفي أعقاب صلواتك في يومك وليلتك: يا من أرجوه لكلّ خير، وآمن سخطه عند كلّ شرّ، يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة، أعطني بمسألتي إيّاك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عنّي بمسألتي إيّاك جميع شرّ الدنيا وشرّ الآخرة، فإنّه غير منقوص ما أعطيت، وزدني من فضلك يا كريم". قال: ثمّ مدَّ أبو عبد الله عليه السلام يده اليسرى، فقبض على لحيته، ودعا بهذا الدعاء وهو يلوذ بسبابته اليمنى، ثمّ قال بعد ذلك: "يا ذا الجلال والإكرام يا ذا النعماء والجود، يا ذا المن والطول، حرّم شيبتي على النّار"(10). وفي حديث آخر: "ثمّ وضع يده على لحيته، ولم يرفعها إلّا وقد امتلأ ظهر كفِّه دموعاً"(11).
يتضمّن هذا الدعاء معانيَ جليلة، منها:
أ. الأمل الدائم بالله تعالى؛ لأنّه سبحانه علّة كلّ خير، وكلّ الوجود خير: "يا من أرجوه لكلّ خير".
ب. الأمن النفسيّ المنطلق من نظرة الرحمة الإلهيّة: "وآمن سخطه عند كلّ شرّ".
ج. السخاء العظيم، الذي قد نستبعده، لبخل أنفسنا: "يا من يعطي الكثير بالقليل".
د. الرحمانيّة التي وسعت كلّ شيء: "يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة".
هـ. ما ينتج عن الأمل والأمن والسخاء والرحمانيّة، وهو طلب الأعلى، وعدم التواضع في الطلب من الله: "أعطني بمسألتي إيّاك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة".
و. وحتّى لا يغلب الرجاء بالمعنى السلبيّ، يذكّرنا الدعاء بالحاجة إلى الله تعالى لنتخلّص من العذاب: "حرِّم شيبتي على النار".
فلنستغلّ هذا الشهر بالدعاء والطاعات.
(1) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 80، ص 352.
(2) المصدر نفسه، ج 94، ص 47.
(3) المصدر نفسه، ص 38.
(4) ابن طاووس، إقبال الأعمال، ج 3، ص 218.
(5) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 95، ص 395.
(6) المصدر نفسه، ج 8، ص 175.
(7) المصدر نفسه، ج 94، ص 33.
(8) الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، ص 31.
(9) المصدر نفسه، ج 95، ص 377.
(10) ابن طاووس، مصدر سابق، ج 3، ص 211.
(11) المصدر نفسه، ج 3، ص 211.