نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الرحمة في البُعد الاجتماعيّ

الشيخ د.عليّ زين العابدين حرب (*)


في بعض الأخبار الحاكية عن الألفين الثقال من الأيّام، التي أُسند فيها مسند الخلافة إلى الإمام عليّ عليه السلام، ومُدّ بساطها تحت قدميه: "مرّ شيخٌ مكفوف كبير يسأل [يستعطي]. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، نصرانيٌّ! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز، منعتموه! أنفِقوا عليه من بيت المال!"(1).

رغم إشارة النصّ إلى لمعةٍ خاطفةٍ من رحمات الإسلام، إلّا أنّه يدهشنا في غناه بعناصر من هذه الرحمة وأطرافها وأسبابها ومستحقّيها: الحاكم والمحكوم، الأمّة والمجتمع، المسلم وغير المسلم، الإعانة والتكفّل، الهرم والعجز، الفقر والمرض. فما هي صور الرحمة في البُعد الاجتماعيّ الإسلاميّ؟ وما هي بعض أشكالها؟ هو ما سيرشدنا إليه هذا المقال.

* الرحمة متأصّلة في الإسلام
إنّ تصفّح مظاهر الرحمة في بُعدها الاجتماعيّ، ليس أمراً شاقّاً وعسيراً. ففهمُ أنّ الإسلام رحمة، وأنّه يدعو إليها، وأنّه يقوم عليها؛ لَهُوَ أمرٌ يبلغه كلُّ امرئ منصفٍ كريمٍ، أَلَمّ قليلاً أو كثيراً بتاريخ الإسلام، وتاريخ كُمَّل رجالاته من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة  عليهم السلام من بنيه. كما يبلغه كلُّ عارفٍ بالوصايا المتواترة في برّ الوالدين وحرمة العقوق بهما، وصلة الرحم، والعطف على الضعيفَين: المرأة واليتيم، وقضاء حاجة المحاويج، وعون عابر السبيل، الذي تقطّعت فيه السبل وبعدت صلته بأهله، والوصيّة بالأسير خيراً، في إطعامه وكسوته وسكناه وعدم أذيّته، رغم أنّه أُسِرَ، وهو متلبّسٌ بالعدوان والحرب على مجتمع المسلمين. وكذلك في العفو عند المقدرة على الاقتصاص والثأر من قاتل العمد، وغير ذلك الكثير.

* أطر الرحمة في البُعد الاجتماعيّ الإسلاميّ
1. أسبقيّة الرحمة في التدبير الإلهيّ للمجتمع: إنّ مجيء اسمَي (الرحمن) و(الرحيم)، بعد لفظ الجلالة في آية البسملة ومفاتيح السور، عدا سورة براءة، يفيدنا بأنّ صفة الرحمة واسمَيها -الرحمن الرحيم- تلي صفة الألوهة واسم الجلالة في الرتبة مباشرةً، وتُشتقّ منها معنويّاً. فالله الذي خلق وبرأ وذرأ، ودبّر ورزق وأعطى، وهدى بالفطرة والحواسّ والعقل والقلب، وشرّع الدين ووصّى بتعاليم فرديّة واجتماعيّة، إنّه في كلّ ذلك رحيم، وفعل ذلك لأنّه رحيم. فأفعال الباري تعالى كلّها مظهر رحمة.

لذلك، عندما نتدبّر في باقة الوصايا الإلهيّة الواجبة والمندوبة التي أشرنا إليها، سوف تسطع منها شمس الرحمة دون حجاب. وإذا خفيت عنّا، فلاحتجابٍ في بصيرتنا، كالأعمى الذي يحدّق في محلّ الشمس في رابعة النهار، دون أن يراها.

خذْ أيّها القارئ الكريم مثالاً من أشدّ الأحكام قسوة ومظنّة للغضب الإلهيّ كالحدود والقصاص، فسوف تجد فيها رحمة بالمجتمع وصونًا له من التمزّق، فيما لو سرت فيه الموبقة والفاحشة والعدوان دون وازع زاجر، بل كذلك سوف نجد فيها رحمة بالجاني ورأفة به، حتّى لا يتّبع خطوات الشيطان أكثر فأكثر، ولا تعميه أهواء نفسه الأمّارة بالسوء، فيخسر الدارين؛ دنياه وآخرته. هذا إذا صحّ له التدارك، كما في غير القتل وزنا المحصن. وإلّا، فإنّ الرحمة حينئذ تتعلّق بالمجتمع دونه.

2. ضرورة تحلّي الفرد والمجتمع بصفة الرحمة: مضافاً إلى حاكميّة الرحمة الإلهيّة، فإنّه يمكن للإنسان أن يتسمّى باسم (الرحيم) وينتسب إليه. وأمّا اسم الرحمن، فمختصّ بالباري، لأنّه يدلّ على الرحمة البالغة الواسعة، التي لا يقدر على مماثلتها أيُّ رحيمٍ آخر، مهما علا. وهذا مفاد ما رُوي عن الصادق عليه السلام: "الرحمن اسم خاصٌّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عام بصفة خاصّة"(2).

لذا، فإنّ كلّ عبدٍ مدعوٌّ لتمثّل هذه الصفة العامّة وذلك الاسم العامّ في أفعاله وسلوكه، في معاملته مع الآخرين، لقوله تعالى: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29). وحينئذ، نصير إلى مجتمع الرحمة بقدر ما يتخلّق أفراده بذلك.

3. المنازل الاجتماعيّة لرحمة الله: إنّ منازل الرحمة الإلهيّة ثلاثةٌ، هي: الفقر والحاجة، والدعاء والسؤال، والسعي والعمل(3). وقد ذكر المرحوم الشيخ محمّد مهدي آصفي هذه المنازل في سياق رحمة الله بالعبد، لكن يمكن استثمارها في البُعد الاجتماعيّ أيضاً، حيث ينبغي أن يتمثّل العبدُ الرحمةَ في المواطن الاجتماعيّة التي تكون منازل لرحمة الله، والتي يطّلع عليها بنفسه؛ لكي يكون جنديّاً من جنود الله، ومن مدبّرات أمره الساري، وواسطة لفيض عطائه وإحسانه إلى الخلق.

وبما أنّ فقر الإنسان يستنزل رحمة الله؛ أحدهما يجذب الآخر، فكذلك على المستوى الاجتماعيّ، حيثما يجد العبد فقراً واحتياجاً وضعفاً في الآخرين، وأمكن له العمل على رفعها، وبادر إلى ذلك، كان واسطة للرحمة الإلهيّة، ولإيصال الأفراد والمجتمع إلى الكمال والسعادة في آنٍ معاً. كذلك إذا قصده أصحاب الحاجات، طالبين العون، وسائلين المساعدة، فينبغي له أن يكون خليفة الله فيهم بقضاء حوائجهم، مع التمكّن من ذلك.

أمّا أنشطة المجتمع وفعاليّاته الهادفة والنافعة للإسلام والإنسان، فهي مهبط رحمة الله أيضاً. ولا بدّ للعبد من أن يكون مجرى هذه الرحمة، والجنديّ الحاضر للحركة والسعي في ساحاتها وميادينها، وأن يعي مسؤوليّته الاجتماعيّة في ذلك. يكفينا مثال رحمة الله بالسيّدة هاجر وولدها ذبيح الله عليه السلام من الهلاك عطشاً، لأنّها سعت وجهدت ونشطت بحثاً عن الماء في الوادي غير ذي الزرع.

من هنا، عندما يكون السعي على مستوى المجتمع والأمّة، يتآزر الأفراد ويتعاون بعضهم مع بعض في تلبية الاحتياجات وسدّ النواقص، التي يقصّر الإنسان في تلبيتها وسدّها، إذا كان وحيدًا أو متروكًا لقدره. كلّ ذلك يهيّئ ظرف الزمان والمكان لنزول رحمة الله.

* الرحمة المطلوبة في المجتمع
أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّتنا  عليهم السلام بالرحمة في موارد كثيرة، نذكر منها:
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ارحموا عزيزاً ذَلّ، وغنيّاً افتقر، وعالماً ضاع في زمان جهّال.."(4)، و"ارحم المساكين"(5)، و"استوصوا بالأسارى خيراً"(6).
- عن الإمام عليّ عليه السلام: "ارحم من أهلك الصغير، ووقّر منهم الكبير"(7)،
- وعنه عليه السلام: "أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم"(8).
- وعنه عليه السلام: "الله الله في النساء وفيما ملكت أيمانكم، فإنّ آخر ما تكلّم به نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم: أوصيكم بالضعيفَين: النساء وما ملكت أيمانكم"(9).
- عن الإمام الصادق عليه السلام: "يحقّ على المسلمين [أي يجب عليهم]... المواساة لأهل الحاجة... حتّى تكونوا كما أمركم الله عزّ وجلّ: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29)"(10).

انطلاقاً من هذه الأحاديث والروايات، نفهم بوضوحٍ أهمّ الموارد التي وردت فيها التوصية بالرحمة؛ إذ يجمعها النقص والاحتياج بأنحائهما المختلفة. ولا شكّ في أنّ الحثّ على الرحمة والتراحم في هذه الصور المنصوصة، إنّما هو لأجل إعانة أصحابها على بلوغ السعادة والكمال، أو مواصلة طريق الكمال، وحتّى لا يتبيّغ بهم ضعفهم كما في حال الفقراء والمساكين، وحتّى لا يتنكّبوا عن الصراط المستقيم كالأطفال والأيتام، وحتّى لا تكبّلهم قيودهم عن الوصول إلى هذه الغايات كالمرأة والرقّ والأسير، وحتّى لا يسقّط المستخفّون والجهّال العلماء عن مرتبة كماليّة بلغوها بالجهد، في محيطٍ لا يقدّر هذا الصنف من الكمال.

* أمثلة معاصرة
عندما تتنافى كلّ ثغرة أو فجوة اجتماعيّة مع الكمال المنشود وتعيقه، أو تحول دون بلوغ سعادة النوع الإنسانيّ والمجتمع، لا بدّ من العمل على سدّ ذلك وملئه برحمة الله وعطف الإنسان. لذا، يمكننا أن نطرح هنا أمثلة معاصرة للتراحم الاجتماعيّ، يتحقّق فيها ملاك الفقر والحاجة دون لبس. هذه الأمثلة كثيرة، من قبيل:

1. التراحم في عمليّات البيع والشراء والصرافة: فلا غشّ ولا غبن ولا تلاعب في الأسعار، ولا احتكار للبضائع وللعملات وللمحروقات. فالإخلال في ذلك، يضيّق العيش على عيال الله ويزيد من الفقر، أو من ضغوط الحياة على الأقلّ.

إنّ أغنياء الأزمات، الذين يقتنصون غياب الرقابة وترهّل الدولة، ليزيدوا من فقر الناس وضعفهم، يقفون مانعاً من نزول رحمة الله، ويعرّضون أنفسهم لغضب الله، ومَن صارَع الحق صرَعه.

2. الأجور الخياليّة: كذلك الأمر، بالنسبة إلى الأجور الخياليّة، أو الأجور الجانبيّة بالعملات الصعبة، التي يفرضها بعض الأطبّاء وبعض المستشفيات على المرضى؛ فهذا وقعه أمضّ على الناس وألمه أشدّ من ألم المرض العُضال. وهو كذلك استنزالٌ لغضب الباري وحجبٌ لرحمته.

3. الأثقال الأسريّة: أضف إلى ذلك، غياب بعض أوجه التراحم داخل الدائرة الاجتماعيّة الأضيق، أي الأسرة؛ فإثقال كاهل الزوج بمتطلّباتٍ من كماليّات العيش، في وقت ينوء ظهره بثقل الضروريّات الكثيرة فحسب، وإثقال كاهل المرأة العاملة والموظّفة بتمام أعمال المنزل كأنّها قهرمانة جبّارة، وعدم تقاسم هذه الأعمال بين أفراد الأسرة، كلّ ذلك يتنافى مع التحلّي بصفة الرحمة والتخلّق بها.

في الختام: أنت بصيرٌ قارئي الكريم باستعصاء تتبع صور التراحم هذه. فما أشدّ حاجتنا إلى التراحم واستمطار رحمة الله في أرض العلاقات الاجتماعيّة العطشى للاستخلاف الحقيقيّ!


(*) أستاذ في الحوزة العلميّة، وأستاذ محاضر في جامعة المعارف-بيروت.

(1) الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج 15، ص 66.
(2) الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 54.
(3) يراجع: الآصفي، في ضيافة الرحمن، ص 107.
(4) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 41.
(5) الشيخ الأميني، الغدير، ج 8، ص 355.
(6) ابن هشام، السيرة النبويّة، ج 2، ص 472.
(7) الشيخ الريشهري، ميزان الحكمة، ج 2، ص 1045.
(8) نهج البلاغة، ج 4، ص 6.
(9) الشيخ الكليني، الكافي، ج 7، ص 52.
(10) الحرّ العامليّ، مصدر سابق، ج 12، ص 216.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع