الشيخ سامر توفيق عجمي(*)
كثيراً ما يتناهى إلى مسامعي أثناء الحوار مع بعض الآباء
أو المعلّمين أو القادة الكشفيّين أو المدرّبين الرياضيّين أو غيرهم، أنّ استخدام
أسلوب القسوة في خطّ علاقة المربّي بالمتربّي يلعب دوراً مُهمّاً في صناعة شخصيّة
قويّة قادرة على مواجهة تحدّيات الحياة وتجاوز صعوباتها، وإذا كانت التربية عبارة
عن إعداد الطفل للحياة، فإنّ القسوة هي أسلوب ناجح في توفير ذلك. في المقابل نعاين
مجموعة أخرى من المربّين يعارضون بشدّة استخدام أسلوب القسوة ويستعيضون عنه بأسلوب
اللّين والرفق والحب.
وهذا يستدعي حضور السؤال التالي بقوّة:
هل استخدام أسلوب القسوة في تربية الطفل أمرٌ فعّال ومشروع أم أنّه خطأ شائع؟ وما
هو الأصل التربويّ الأنجح في بناء هُويّة الطفل؟
* الحزم غير القسوة
النقطة الأولى في الجواب عن هذا السؤال تبدأ من خطأ يقع به كثيرون، وهو عدم التمييز
بين مضامين المصطلحات التربويّة، حيث يتمّ الخلط بين القسوة من جهة، وبين الحزم
والشدّة، حيث إنّ الباحث المتتبّع للنصوص الدينيّة يلاحظ أنّها ترفض القسوة والتي
هي عبارة عن غلظة القلب، وتعتبرها مضادّة للرقّة والرحمة والرفق.
فقد ورد في بعض الروايات أنّ الله عزّ وجلّ خلق العقل من نوره، وكرّمه، وخلق الجهل
ظلمانيّاً، ولعنه. وأعطى تعالى العقل خمسة وسبعين من الجند، وكذلك الجهل، فكان ممّا
أعطى الله عزّ وجلّ العقل من الجند: الرقّة وضدّها القسوة، التي هي من جنود الجهل.
ولذا، إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نلاحظ أنّه يذمّ القسوة ويعتبرها حالة موغلة في
السلبيّة، يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ﴾ (الزمر: 22).
ويقول تعالى في وصف بني إسرائيل: ﴿ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾
(البقرة: 74). كما ورد في العديد من النصوص أنّ القسوة تؤدّي إلى البُعد عن
الله سبحانه وتعالى.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن أبعد الناس من الله القلب القاسي"(1).
وكذلك اعتُبرت القسوة من مؤشّرات الشقاء.
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع خصال من الشَّقاء: جمود العين، وقساوة
القلب، وبعد الأمل، وحبّ البقاء".
وبهذا يظهر أنّ المنهج القرآنيّ والنبويّ في التربية لا يرتضي اعتماد أسلوب القسوة
في بناء شخصيّة الطفل.
* الرحمة هي الأصل
إنّ الأصل التربويّ في بناء شخصيّة الطفل وصناعة هُويّته هو الرحمة والرفق والحبّ،
حيث إنّها توصل إلى تحقيق الأهداف المطلوبة. عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "من
كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس"(2).
أمّا القسوة وغلظة القلب فتؤدّيان إلى نتائج عكسيّة وتنفّر المتربّي من السلوك
المرغوب تربيته عليه، كما تضعفان من قوّة الحضور المعنويّ للمربّي في حياة الطفل،
فيبتعد نفسيّاً وعاطفيّاً عنه، فيعيش داخليّاً حالة الرفض لأيّ توجيه أو نصيحة قد
يقولها المربّي، وهذا ما يمكن استلهامه من قوله تعالى:
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل
عمران: 159).
* العاطفة بين الجوع والإشباع
فالطفل -في أصل تكوينه- كائن رقيق حسّاس عاطفيّ، يشعر بالحاجة إلى يد تمتدّ إليه
لتلبّي نداء الوجدان وتروي ظمأه العاطفيّ، وهو محتاج إلى الشعور بأنّه موضع حبّ
واهتمام وعناية ورعاية وتقدير واحترام...
ومحبّة الطفل عملة لها وجهان: إيجابيّ، من حيث إنّها تمنحه طاقة إيجابيّة، وتحقّق
له الشعور بالسعادة، وتجعله يعيش البهجة واللّذة والسرور، وهي حاجات ضروريّة للنموّ
السليم للطفل، ولها وجهٌ سالب، بمعنى أنّها تقلّص الطاقة السلبيّة عنده، وتساهم في
التخفيف من حالات التوتّر والعصبيّة والعدوانيّة والأرق.
والطفل الذي يُستخدم معه أسلوب القسوة، ولا ينال كفايته من الحبّ والحنان من قبل
والديه، سيعيش الحرمان العاطفيّ، وسيحرّكه دافع الحاجة في ذاته إلى البحث عمّا يسدّ
جوعه العاطفيّ، ويرفع حرمانه خارج دائرة الوالدَين. وهنا تكمن الخطورة، حيث قد يخطئ
الطفل الطريق، فيرمي نفسه في أحضان شخص آخر يعوّض له عن عاطفة الأب والأمّ، أو يلجأ
لأجل لفت نظر والديه إلى وسائل مضرّة به، فيؤذي نفسه أو يصبح عدوانيّاً في سلوكه أو
يفشل.
* بين الإفراط والتفريط
إنّ الرفق والحبّ كباقي الكيفيّات النفسانيّة من حيث ثلاثيّة الخطوط، بمعنى أنّه
يمكن أن يكون في نقطة الوسط، ويمكن أن يميل إلى جانب الإفراط أو التفريط. والمطلوب
في حبّ الأطفال والرفق بهم هو الوسطيّة والاعتدال، كي يكون حبّاً إيجابيّاً، والميل
عن الوسطيّة إلى أحد الجانبين يجعل الحبّ سلبيّاً.
فالإفراط في الحبّ واللّين قد يؤدّي إلى الغفلة عن الله تعالى، والتفريط في الحبّ
قد يؤدّي إلى الوقوع في فخّ معصية الله، فكم من شخص يعصي الله في وظيفته أو
معاملاته التجاريّة مثلاً، فيرتشي أو يغشّ أو يزوّر... بحجّة أنّه يريد أن يوسّع
على أبنائه تحت شعار حبّه لهم؟! وكم من إنسانٍ قد لا يشارك في التشكيلات الجهاديّة
ويتخلّف عن الجهاد ليبقى إلى جانب أطفاله بذريعة شدّة ارتباطه العاطفيّ وحبّه لهم؟!
والخطورة في مثل هذا الحبّ السالب في التربية، هي أنّه يؤدّي إلى ضرب فعّالية بعض
الأساليب التربويّة الأخرى، كالتربية بالنموذج السلوكيّ، ويؤدّي إلى اعتماد أساليب
خاطئة فيها، كأسلوب الإفراط في التدليل والتغنيج، أو الإفراط في الحماية، من خلال "التساهل
مع الطفل وتشجيعه على إشباع رغباته، وممارسة مختلف أشكال السلوك دون مراعاة الضوابط
الدينيّة أو الخلقيّة أو الاجتماعيّة... فلهذا الأسلوب آثاره السلبيّة على شخصيّة
الطفل، حيث ينشأ أنانيّاً غير آبه بأحد، حريصاً كلّ الحرص على تلبية رغباته والحصول
على كلّ ما يريد"(3).
وكذلك في جانب التفريط، يؤدّي نقص جرعة الحبّ للأطفال إلى استخدام أساليب سلبيّة
عدّة، مثل: الأسلوب التسلّطيّ؛ أي التحكُّم بأفعال الطفل وأقواله ورغباته بما
يتوافق ورغبات الأهل، بغضّ النظر عن حاجات الطفل ومتطلّباته، أو أسلوب الإهمال،
بمعنى تجاهل الوالدَين للطفل وعدم الإشراف والتوجيه لأفعاله وأقواله إيجاباً أو
سلباً.
* الحبّ الحازم
وأفضل الطرق في التربية أن يستخدم المربّي أسلوب الحزم في لين. وقد ورد في روايات
عدّة أنّ من صفات المؤمن وعلاماته أن يكون له حزم في لين، بمعنى أن يضع الأمور في
مواضعها من خلال الموازنة بينها من حيث الآثار والنتائج، فيكون ليِّناً حينما
يتطلّب الموقف ذلك، ويكون حازماً حينما تقتضي مصلحة الطفل ذلك، فلا حبّه يمنعه من
الحزم، ولا حزمه يجعله قاسي القلب.
وقد أوضحت دراسة أعدّتها "مؤسسة ديموس البريطانيّة للأبحاث"، أنّ الموازنة بين
مشاعر الحبّ والحنان والانضباط والحزم تنمّي في الطفل العديد من مهارات التواصل
الاجتماعيّ مقارنة مع التربية الحازمة فقط أو تلك التي تتركه ينمو ويكبر دون انضباط.
وقالت الدراسة إنّ الأطفال حتّى حدود الخامسة من العمر الذين يتربّون في بيئة
عائليّة محبّة ومنضبطة، أو ما يعرف بـ"الحبّ الحازم"، ينمّون قدرات وصفات شخصية
أفضل من أقرانهم ممّن تربوا في بيئات مختلفة نسبيّاً.
وقال مؤلّف الدراسة "جين لكسموند": "إنّ المهم هنا هو تطوير الثقة والحبّ والحنان
المقرون بالضبط والحزم والصرامة"(4).
* استحباب عَرَامة الطفل
وفي هذا السياق، ليعلم المربّي أنّ تشجيع الطفل على الأفعال الشاقّة والتي فيها
مشاكسة وشراسة تكسبه قوّة البدن وشجاعة القلب، وتنمّي عقله وتزيد فيه. وهذا ما
أشارت إليه الروايات بشكل واضح حين أكّدت على استحباب عَرَامة الصبي في صغره.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عرامة الصبيّ في صغره زيادة في عقله
في كبره"(5). وعن العبد الصالح (الإمام الكاظم) عليه السلام، قال: "يُستحبّ
عَرَامة الغلام في صغره؛ ليكون حليماً في كبره"(6).
والعرامة في اللّغة بمعنى: الشدّة والحدّة والقوّة والشراسة(7). وتستعمل أيضاً
بمعنى المرح والبطر(8).
فيكون معنى الحديثين أنّه يستحبّ تشجيع الطفل وتعويده على القيام بالأمور الشاقّة
والألعاب المليئة بالنشاط والحركة والتخشّن... وهذا الأمر يختلف عن استخدام القسوة
مع الطفل.
وبهذا يتبيّن أنّ الأصل المطلوب في بناء شخصيّة الطفل هو التربية بالحبّ والرحمة
والرفق مقابل القسوة، وأنّ الرحمة والرفق لا يتنافيان مع الحزم من جهة ومع تدريب
الطفل على الأمور الشاقة والتخشن من جهة ثانية، وأنّ هناك فرقاً بين الحزم والقسوة،
فالحزم مطلوب والقسوة مرفوضة.
وقد ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام، أنّه قال: "وحقّ
الصغير رحمته في تعليمه، والعفو عنه، والستر عليه، والرفق به، والمعونة له"(9).
(*) مدير مركز التحدّيات الثقافيّة المعاصرة، ومؤلِّف وباحث تربويّ، وأستاذ في
جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية فرع لبنان.
1- الأمالي، الطوسي، ص3.
2-الكافي، الكلينيّ، ج2، ص120.
3- عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، سامر توفيق عجمي، ص199-200.
4- http//www.bbc.com/arabic/scienceandtech/2009/11/091108_hh_childupbringing_tc2.shtm
l
5- الجامع الصغير، السيوطي، ج2، ص151.
6- الكافي، (م.س)، ج6، ص51.
7- معجم مقاييس اللّغة، ابن فارس، ج4، ص292.
8- لسان العرب، ابن منظور، ج12، ص395.
9- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج2، ص625.