الشيخ حسين كوراني رحمه الله
تمثل معرفة الشخصيّات القدوة الرساليّة أساساً في اتباعهم وحسن التأسّي بهم؛ لذلك تقف على طبيعة هذه المعرفة أمور عدّة، وبقدر ما تكون هذه المعرفة صحيحة وأصيلة، يكون التأسّي صحيحاً ونافعاً ومنتجاً بالنسبة إلينا.
فالسيدة الزهراء عليها السلام من أكثر الشخصيّات الرساليّة تأثيراً في المجتمع؛ إذ تخلّلت حياتها مجموعة من المواقف التي دأب الباحثون على فهمها وبحثها. يطلّ هذا المقال لسماحة الشيخ حسين كوراني(1) رحمه الله على نمطين من معرفتها؛ ليخلص إلى النحو الذي يؤدي إلى حسن التأسّي بها.
* معرفتها
ينقسمُ المشهدُ الثّقافيُّ المعتقِدُ بعصمة السيّدة الزّهراء عليها السلام، إلى شكلين:
الأوّل: الاعتقادُ بعصمتِها عليها السلام، والاقتصار في الحديث عنها على الآيات وتفسيرها الظاهريّ العامّ، وعلى الرّوايات المنتقاة التي تكون الجُرعة الغيبيّة فيها خفيفة، أوْ ليس في ظاهرها شيءٌ من الغيب، وهو الشائع بين الناس.
الثاني: الاعتقادُ بعصمتِها عليها السلام اعتماداً على فقه جميع الآيات، والرّوايات مع الدّخول في أبحاث علميّة معمّقة في فقه هذه الرّوايات، خصوصاً ما يتضمّن معنى غيبيّاً عميقاً، من قبيل أنّ فاطمة عليها السلام هي ليلة القدر. وهو نهجُ الفقهاء العرفاء.
* نتيجتان متغايرَتان
النّتيجة التي تبلُغها معرفة السيّدة الزهراء عليها السلام بحسب الشكل الأوّل (الجُرعة الغيبيّة الخفيفة)، هي العجزُ عن تقديم صورةٍ عن الصّدِّيقة الكبرى تنسجمُ مع مكانتها المتميّزة بين المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام.
أمّا النّتيجة التي يبلغها الشكل الثاني، فهي أنّ عظَمة الزّهراء عليها السلام محمّديّةٌ؛ أي أنّها متصلة بالرسالة المحمّديّة وتمثّل امتداداً لها، وليست متصلةً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لمجرّد كونها ابنته، فثمّة مقام "أُمُّ أبيها في عظيمِ المَنزلة" كما يعبّر المرجعُ الفقيه والفيلسوفُ الشّيخ محمّد حسين الغرويّ الأصفهانيّ.
* الإمام الخميني قدس سره يصف الزهراء عليها السلام
يجدر استعراض بعض ما وصف به الإمام الخمينيّ قدس سره الصّدّيقة الكبرى المحمّديّة عليها السلام، السيّدة المعصومة الوحيدة على وجه الأرض، التي تعجز عن وصفها كلّ الكائنات. يمكن تصنيف هذه الأقوال ضمن القسم الثاني، منها:
1."جميعُ الأبعاد المتصوَّرة للمرأة وللإنسان تجلّتْ في فاطمة الزّهراء عليها السلام.. لم تكن امرأةً عاديّة.. إنّها امرأةٌ روحانيّة.. امرأةٌ ملَكوتيّة.. إنسانٌ بتمام معنى الإنسان".
2."تمامُ نسخة الإنسانيّة.. تمامُ حقيقة المرأة.. تمامُ حقيقة الإنسان.. إنّها موجودٌ ملَكوتيٌّ ظهرَ في العالَم بصورة إنسان.. بل موجودٌ إلهيٌّ جَبَروتيٌّ ظهرَ في صورة امرأة".
3."تمام الهويّات (والخصائص) الكماليّة التي تُتصوَّر في الإنسان وفي المرأة، هي في هذه المرأة".
4."جميع خواصّ الأنبياء موجودةٌ فيها..".
في ضوء ما سبق، يتّضح أنّ كلّ شكل -من شكلي المشهد الثّقافيّ المذكور- تتشكّل على أساسهما نظرتُه ورؤيتُه إلى الزّهراء عليها السلام. كما يتّضحُ أنّ الفرق بين الرّؤيتَين كبيرٌ جدّاً، فهو ببساطة الفرقُ نفسُه بين مَن "تجلّت فيها كلُّ خصائص الأنبياء"، وبين غيرها.
* سِرُّ عظمة السيّدة الزهراء عليها السلام
لدى محاولة البحث عن محاور العظَمة الفاطميّة المحمّديّة، يُمكن تسجيل المحاور التّالية:
1-اليقين: يتعيّن أن يكون مقياسُ مرتبة الموحِّد، هو يقينُه بالله تعالى، لأنّ اليقين فوقَ التّقوى بدرجة، أي أنّ التّقوى تتعاظم فتكون يقيناً، [وقد كانت السيّدة الزهراء عليها السلام خير مصداق للتقوى ولليقين، في كلّ مفاصل حياتها ومواقفها عليها السلام، ومن ذلك موقفها من فدك وخطبتها الشهيرة].
2. العبادة: الحديث عن عبادة الصّدّيقة الكبرى عليها السلام، محور أبحاثٍ يَعسرُ استقصاؤها، إلّا أنّه يكفي أن نقفَ عند ما ورد من أنّها عليها السلام، أشبَهتْ في العبادة سيّدَ النّبيّين صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عُرف عن الحسن البصريّ قوله: "لم يكن في هذه الأمّة أعبد من فاطمة عليها السلام".
3. العِلم: في ما رُوي عنها عليها السلام من كنوز العلم ما يعجزُ كبارُ العلماء ادّعاءَ استيعابِه، بل يَقفون على أعتابه يحاولون استلهامَه، ولو لم يكن إلّا خطبتُها عليها السلام، في المسجد النّبويّ بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، لكفى بها دليلاً على علمٍ لَدُنِّيٍّ، هو تَجلّي علمِ مدينةِ العلم ونَفْسِه صلى الله عليه وآله وسلم.
4. تَجلّي الإنسان الكامل: تحدّث عن هذه الحقيقة المحوريّة المركزيّة، الإمام الخمينيّ قدس سره مبيّناً ما خلاصتُه أنّ الأربعة عشر معصوماً عليهم السلام، يُقال لكلٍّ منهم: الإنسانُ الكامل. كذلك قوله: "إنّ الزهراء عليها السلام هي تمام النسخة الإنسانيّة، وهي تمام حقيقة الإنسان، إنّها موجود ملكوتيّ ظهر في العالم في صورة إنسان".
5. القيادة الإلهيّة المعنويّة لمَسيرة البشريّة عبر القرون: أوضحُ معاني أنّ الزّهراء عليها السلام من سادة المعصومين عليهم السلام، أنّها في طليعة القادة الإلهيّين الذين حملوا الهُدى الإلهيّ للأجيال.
وقد تجلّت هذه القيادة في الدّنيا في مظاهرَ عديدة، منها توسُّل الأنبياء بها عليها السلام، حيث ثبتَ أنّ جميعَ الأنبياء قد تَوسّلوا بمحمّدٍ وآله صلى الله عليه وآله وسلم.
* من أرشيف سماحة الشيخ حسين كوراني (رضوان الله عليه)، بتصرف.