الأستاذ موسى حسين صفوان
ربما يعتقد البعض أن وقت الحديث عن الآثار التربوية والاجتماعية لبرامج محطات التلفزيون قد عفا عليها الزمن، في الوقت الذي يتحضّر العالم فيه، على أعقاب الألفية الثالثة للتحول إلى الكمبيوتر، والاستغراق في عالم الإنترنت... إلاّ أن هذا الكلام لا يبدو دقيقاً، فلفترة طويلة سوف يبقى التلفزيون شريكاً معايشاً للأسرة يطل عليها صباحاً ومساءً بعد أن كان فيما مضى مقصراً على السهرات. وذلك أن شركات البث التلفزيوني، استفادت هي الأخرى من ثورة التكنولوجيا الالكترونية وأبدعت أنظمة بث فضائية، وأخرى مشفّرة تنأى عن عيون الرقابة، وتذهب إلى أبعد ما يمكن تصوره من الابتزال والفساد الأخلاقي.
وهكذا فإننا إزاء ما نواجهه كل يوم من انتشار للمحطات الفضائية التي تستطيع الدخول لغير استئذان إلى كل بيت بواسطة "الدش"، لا بد لنا من إعادة النظر إلى هذا الجهاز، خاصة وهو يقتحم علينا بيوتنا، ويفرض نفسه علينا وعلى أطفالنا، ويضعنا في موقع المواجهة لما يحمله من برامج تتسلل إلى صميم البنية التربوية لأجيالنا. خاصة وأن المحطات المحلية آخذة في مجاراة المحطاة الأجنبية في البرامج التي يغلب عليها طابع اللهو والإسفاف، والإعلانات التجارية، في الوقت الذي تندر فيه البرامج التربوية ذات الأهداف الوطنية والتربوية والاجتماعية.
وللإنصاف، لا بد لنا أن نُذكّر بالدور الذي تلعبه بعض المحطات التي تحمل رسالة الإعلام بصدق، لتخدم المسألة التربوية.
* التلفزيون شريك الأسرة
ما من أحد يشك في أن جهاز التلفزيون أصبح شريكاً للأسرة، وأكثر من مجرد جهاز كهربائي يوضع في إحدى زوايا البيت... لقد باتت المحطات التي ينقلها تعد بالعشرات، وهي تبث أربعة وعشرين ساعة، وفيها من كل غث وسمين... وأكثرها يجنح نحو الإسفاف والصفاقة والابذال، ولا شك بأنه يترك آثاراً نفسية بالغة التعقيد على الأجيال الناشئة... وحتى على الكبار.. ولو فرضنا أن الكبار الذين نالوا نصيباً من الثقافة التربوية، وحظيت بنيتهم النفسية بكينونتها في أجواء أقل توتراً يملكون بعض الحصانة. فإن الصغار الذين يتفتحون اليوم على الحياة لا يملكون من المناعة ما يكفي لتحصينهم ضد هذه التيارات العاصفة من الفساد، التي تخنق آية روحانية، وتفسد آية مفاهيم ومبادئ معنوية حتى أن المنع إذا ما مارسه الأهل.. وقليل من الأهل يفعل ذلك... فإنه لا يجدي كثير نفع، لأن أجواء المجتمع العامة لا تختلف كثيراً عن أجواء تلك البرامج، فهي كالعدوى التي استشرت وانتشرت، وأصبحت مستعصية على الحصر، وقد سمعنا بعدد من الجرائم تقشعر لها الأبدان..
* التلفزيون يرسم الخريطة الاجتماعية
ولا يقتصر أثر التلفزيون على تشكيل البنية النفسية، التي أقل ما يمكن قوله فيها أنها تترك أفراداً نزّاعين للشهوات، ضعيفي الإرادة، مذهولين عن الواجبات الفردية والاجتماعية يتشكل طموحهم على أساس الصور الذهنية التي تراكمت في مخيلاتهم، مما يؤدي بصورة ما إلى الاستسلام للغزو الثقافي الذي يضرب أطنابه فيما بيننا، بل يتجاوز كل ذلك...
إننا نشهد اليوم مرحلة من انعدام القيم، أو تنحيها لمصلحة الشهوات مما يفرز مشاكل اجتماعية لا تعد ولا تحصى، وهذا يظهر من أنواع الجرائم التي نشاهدها كل يوم مما يعكس صورة سوداوية عن البنية الاجتماعية لوطننا. فضلاً عن الآثار الاجتماعية التي تصعب ملاحظاتها من تفكك عرى المجتمع، وتهافت العلاقات بين الأسر والجيران والأقارب، كل ذلك في طريقه لرسم خريطة اجتماعية لمجتمع مبدد الأوصال وبالتالي مفتقر للعواطف الإنسانية، مما يتيح المجال لأنواع جديدة من المشاكل في وقت تتضاءل فيه عناص المحبة التي لا تتولد إلاّ من خلال العلاقات الاجتماعية.
* التلفزيون والذوق الأدبي والإبداع
وتلعب البرامج التلفزيونية دوراً بارزاً في تشكيل الذوق الأدبي والإحساس بالجمال.. وماذا يمكن توقعه من بيئة متخمة بالبرامج الرخيصة والمبتذلة التي تخلو إلى حد بعيد من جماليات الذوق الأدبي الرفيع، وتحرك المشاعر الشهوانية بفرض الكسب التجاري، إن من المحطات ما يستغل برامج الأطفال في مجال الدعاية والإعلانات الرخيصة، ومنها ما يضع برامج غنائية أجنبية مبتذلة ومفسدة قبل موعد برامج الأطفال المنتظرين لبرامجهم ما لا ينبغي مشاهدته، علماً بأن تربية الأطفال لا تتم فقط من خلال البرامج المخصصة لهم، فلم تعد هناك فرصة لمنع الأطفال عن مشاهدة العديد من البرامج والأفلام والتي لا تراعى فيها مبادئ الحشمة المتناسبة مع أذواقهم.
لقد قضى التلفزيون إلى حد بعيد على الذوق الأدبي والإبداعي لأجيالنا، ولسوف تشهد العقود القادمة آثار ما تقدمه وسائل الإعلام اليوم.
* التزييف والحقائق المغلوطة
بعض المحطات، وهي تعد لبرامج ثقافية تحشد عدداً كبيراً من الناس، وتدعو بعض المختصين، ثم توجه الحوار بطريقة تخدم مشاريع معينة بشكل يتم فيه تزييف الكثير من الحقائق، كل ذلك بغرض إحداث برامج مثيرة تستقطب لمشاهدين والإعلانات التجارية... ومن تلك البرامج، برامج طرحت فيه مسألة تعليم الأطفال مقررات التربية الجنسية، وهو برنامج ليس من المناسب بحثه على الهواء في بيتنا، خاصة في أجواء يظهر فيها الانحياز التام لدى وسائل الأعلام، من خلال نوعية المحاورين، وطريقة إدارة الحوار... فبدل علاج المشكلة حسب المفاهيم القيمية والخلقية لدينا، فإذا بدعاة الحلول يستغرقون في المشكلة على الطريقة الغربية، علماً بأن مجتمعنا يختلف من الناحية النفسية عن المجتمع الغربي، وأن جزءاً كبيراً من الحل يكمن بالجهة النفسية والخلقية، التي تحاول مثل هذه البرامج هدمها، فحتى عند محاولة توجيه البرامج بطريقة تربوية، فإن التلفزيونات تفشل في مراعاة المصلحة الوطنية، إلاّ إذا كانت المصلحة الوطنية متعددة الهويات.
* من المسؤول عن هذا الإسفاف؟
ولا بد من هذا السؤال، فتحديد المسؤولية أمر ضروري من أجل إيقاف هذه الحالة من التردي والانهيار الخلقي الذي ينحدر إليه مجتمعنا..
إننا ما زلنا نحافظ على شيء من القيم التي حفظت حتى الآن مجتمعنا من الهبوط إلى المستويات الخلقية والصحية التي بلغها الغرب، فإذا ما تركنا العنان للتلفزيون ومشتقاته فليس بعيداً أن نفقد حتى هذا القدر من التحصين، ونقع في آتون الفساد الغربي وهناك تكون الكارثة.
ومن هنا فإنه ينبغي للأفراد من مواقعهم، وللمؤسسات الاجتماعية، وللدولة أن ينطلقوا كلُّ من موقع مسؤوليته لوضع استراتيجية كفيلة بمعالجة ما يمكن أن يترتب من آثار على إساءة استعمال جهاز التلفزيون.