بقلم: الدكتور عباس مزنر
لقد أنتجت تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة نمطاً من الخطاب المعرفي الحسي الذي يختلف عن نمط الخطاب الذي ساد في القرون الماضية. إن هذا النمط الحسي والانفعالي الذي ولد في التلفزة والصورة المرئية بدأ يطغى على لغة التجريد ولغة الفكر والقيم... فأضحت المعرفة سطحية بعيدة كل البعد عن تلك المعرفة الكلاسيكية والأكاديمية. لقد ولد نمط مختلف من المعرفة المشوّهة والتي ترتكز على إشباع الحواس(1).
وفهمها من خلال العين والرؤية فتحول الجسد إلى مشهد في هذه الثقافة وتحوّلت كل صفاته وما يتصل به من الجمال إلى أقاليم مقدسة في مختلفة أشكال البرامج من مشهد المذيعة المقدّمة إلى مختلف ألوان الدراما التلفزيونية التي لا تعرض سواء في البرامج المكسيكية أو البرازيلية أو حتى في نمط برامجها التي تحاكي أمثال هذه في الإنتاج المحلي إلاّ تلك الصورة التقليدية والنمطية للمرأة فهي أسطورة في الجمال وإما نموذج ومثال في زي العارضة التي تتحول إلى كائن لا مثيل له ولا شبيه له في الشاشة الفضية وتغدو هذه أيضاً أسطورة فوق الواقع مغيّبة عنه.
وفوق كل ذلك لقد اقتحمت الكاميرا بيوت الناس والمشاهير من الفنانين والممثلين.. وباتت تكشف الكثير من أسرار هؤلاء وأصبحت في جرأتها على تخطي الحدود والأعراف تنقل ما كان خافياً وتفضح ما كان مستراً... كل ذلك في إطار العرض المرئي وإشباع نهم العين وشهواتها(2) وباتت هذه اللغة الجديدة سياسة معتمدة في التلفزة الأميركية وغيرها من التلفزة الأوروبية التي بدأت تحذو حذوها.
هذا الإعلام كما يقول "هربرت شيللر" في "النيوز ويك" وتحت عنوان "رجس التلفزة"(3) يعتمد بشكل أساسي على عرض ما يصدم وما يحرك المشاعر والأهواء بالإضافة إلى إثارة الشهوات من أجل الحفاظ على المشاهدين أما الأفلام الوثائقية والأخبار فإنها لم تعد تجذب الجمهور والمعلنين.
ويضيف "شيللر" وهو من أهم الباحثين الإعلاميين الأميركيين أن أهم عدد تصدره مجلة "التايم" هو ذاك العدد السنوي الذي يخصص لعرض صور شهوانية للنساء وتصل مبيعات هذه المجلة إلى الذروة... ويضيف هذا "النجاح" قد دفع إلى تحويل العدد المصور للمجلة إلى صورة أو شريط متلفز عبر شبكة التلفزيونية الكابلي أو المرمّز لمجلة "التايم". هذه "الأيديولوجية" الشبقية والشهوية من المتوقع أن تعمم مرئياً وتلفزيونياً في مختلف الولايات الأميركية كما يقول شيللر. (وهناك اليوم عدة محطات "أميركية" في أوروبا لا تعرض إلاّ هذا النمط) لتشكل أهم سوق وجمهور للمؤسسات والمحطات المرئية. أما في الجانب الآخر للصورة المتلفزة وحتى الإخبارية فإن الهم بات أيضاً يتجه نحو اقتصاديات السوق الإعلامي فتحولت حتى الأخبار والتحقيقات إلى مادة تسويقية وباتت أخبار المشاهير والجرائم والعنف و... من أهم الأخبار التي تلقى اهتماماً بالغاً من الجمهور وهكذا نجد أن C.N.N. قد تحوّلت إلى هذا النمط من الأخبار بعد تراجع نسبة المشتركين والمشاهدين لهذه الشبكة (بعد انتهاء حرب الخليج الثانية) كما أن مختلف المحطات الأميركية تعتمد هذا النمط التسويقي للأخبار حتى باتت هذه المتفرّقات المحلية تطغى على الأخبار الدولية(4) ونجد في مثل هذه النشرات والتحقيقات نمطاً ترفيهياً يحتوي عناصر خبرية مضخّمة(5) تؤكد على قيم الغرابة والإثارة والمال والثروة والفكاهة والطرفة والتسلية.. إن مجمل هذه القيم الليبرالية للخبر إنما تترجم حياة مدنية وحضارة عابثة وتعكس هروباً وميلاً نحو الخروج من هذا القمقم ولذا فإن البرامج المعتمدة في التلفزة تستجيب دائماً لميل المشاهدين ولأهوائهم وحبهم ونزوعهم للتسلية والترفيه والمرح و...
* برامج الترفيه والتسلية (البرامج الهروبية):
أما في الجانب الترفيهي فإن محطات التلفزة تعمد في لبنان كما في أوروبا إلى الترفيه القائم على مزيج من الألعاب والمسابقات والاستعراضات والمنوعات والرياضة والمسلسلات. وهي أكثرها (في أوروبا) مستورد من الولايات المتحدة الأميركية كما يقول هربرت شيللر وتحذو التلفزة عندنا هذا الحذو وتحاكي في برامجها هذا النمط من الإنتاج الترفيهي الأميركي الذي يعظم قيم الفرح والربح والإثارة والكسب المادي.
وقد باتت هذه الثقافة وقيمها الجديدة طاغية في الإعلام وباتت معاييرها الأميركية ثابت وذات سمات عالمية تستحوذ على الجمهور الأكبر من المشاهدين حتى سميت هذه الثقافة بالثقافة الأميركية التي بدأت تغزو مختلف المجتمعات والأمم والحضارات (وهنا اليوم عدة محطات "أميركية" الثقافة والإنتاج في القارة الأوروبية)(6).
هذا النوع من البرامج تسيطر عليه السمة التجارية أي سمات السوق وقد ولّدت هذه السمة نوعاً من التلفزة وهوية لها(7) تتخللها باقة من الإعلانات التي أصبحت تشكل المادة الأساسية في هذا النمط من البرامج ولا تخلو من الدعوة إلى قيم جديدة تعزز وترسخ قيم الاستهلاك ونمطه وقيم الرفاهية والعيش المترف... وهي أيضاً تترك أثرها في لغة البرمجة ومضمونها إذ يقتضي الأمر في مثل هذا النوع من الخطاب الجماهيري وفي هذه المحطات أن يهبط المستوى الإنتاجي والإبداعي إلى مستوى العامة من الناس وحتى "الابتذال"(8) والإسفاف والدونية مع مختلف أشكال الإثارة و"الجنون" وفي العرض المتلفز (والأمثلة كثيرة في محطاتنا وبرامجنا اللبنانية).
هذا النوع من البرامج بالإضافة إلى برامج الرياضة والمنوّعات تمثل مساحة هامة في باقة البرامج وهي باتت في حضورها وتأثيرها ذات وقع هام ولها دور أساسي في جذب الجمهور الذي بات منه المدمنين على هذه الثقافة خاصة وأن للصورة أثر تخديري كما تقول ماري وين(9) (بحيث أنها توصلت إلى نتائج هامة على هذا الصعيد)، وهكذا يمثل المشاهد أمام الجهاز ساعات عدة في اليوم حتى أنه بات يعجز عن أداء الكثير من الأعمال والواجبات أمام سلطة الصورة وسحرها(10).
هذا النمط الخطر الجديد الذي بات يحاول حتى الهيمنة على الصحافة والكلمة والخطاب الشفهي من خلال وسائل الاتصال المرئية الحديثة أصبح يشكل التهديد الحقيقي لمنظومة القيم والمنظومة المعرفية(11) ككل في ظل تطور مذهل في هذا العالم لم يعرف حدوداً حتى اليوم.
(1) هذه اللغة الحسية والشهوية وهذا الخطاب يفتقد كما نلاحظ للغة الفكر والثقافة التي غابت عن التلفزة أو عن عدد كبير منها ونحن نعترف بأن هذا الخطاب المعرفي وبرامجه الثقافية. لا تجد إلاّ جمهوراً نخبوياً.
ولكنها تستطيع أن تخاطب جمهوراً أكبر إذا أسقطت في أشكال وبرامج وتحقيقات وفي ألوان ومشارب ولغة درامية وتوثيقية متنوعة وجديدة تتميز بالقوالب الفنية بالمهارة في الصناعة والإخراج والنص والحوار والعقدة و...).
(2) ومن هذه الأساليب الجديدة كان يتم تثبيت أجهزة التصوير في بيوتات "المراهقين" والمراهقات" لنقل صورة عن حياتهم اليومية.. وقد اعتبر شيللر هذا الاعلام الشهوي إعلاماً مشوهاً.
(3) اللوموند ديبلوماتيك آب 1989 Le Monde diplomatique aout 1989.
(4) إن ما يتراوح بين 29% و33% من المساحة الزمنية الخبرية للتلفزة الأميركية يتضمن أخبار الجريمة والعدوان كما يقول S. Halimi V: Le monde Diplomatique Aout 1998.
(5) Le monde Diplomatique (Fev 1994).
انظر مقالة، H. Malein (حول تضخيم وتمجيد الأخبار...).
(6) La presse- audiovi- Caroline Mauriat suelle
(7) م.ن.
(8) للمزيد من التفاصيل راجع "الثورة والتكنولوجية ووسائل الاتصال "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تونس 1991.
(9) وين ماري لأطفال والإدمان التلفزيوني ترجمة سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية العدد (247).
(10) ويتحدث العلماء عن الأثر التخديري للجسد وللحواس تحت سيل الصورة وفيضها وترققها.
(11) راجع "الثقافة المحلية في عصر الاتصال". ألقيت في مؤتمر الاتصال في القرن الحادي والعشرين، بالجامعة اللبنانية الأميركية (تشرين 1996) بيروت.
للمزيد راجع "المتلاعبون بالعقول" ترجمة سلسلة عالم المعرفة الكويتية، هربرت شيللر (1999) الطبعة الثانية.