مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أخلاقنا: الأسرة والصفح الجميل(2)

آية الله الشيخ حسين مظاهري(*)


لكي يسود الوفاق داخل البيت، ويعمّ الاستقرار تحت سقفه، لا بدّ أن تتحقّق أمورٌ عدّة بين الزوجين، منها: الصفح.

في هذا المقال، نستكمل مظاهر الصفح عند النبيّ يوسف عليه السلام، على أن نعرّج بعدها على باقي التفاصيل المرتبطة بهذا المبحث.

* الصفح عند النبيّ يوسف عليه السلام
ورد في المقال السابق أنّ أوّل مظهر من مظاهر الصفح عند النبيّ يوسف عليه السلام تجلّى بالصفح عن "زليخا".

أمّا بالنسبة إلى الصفح الثاني الذي أبداه نبيّ الله يوسف عليه السلام، فهو ذاك الذي أظهره لإخوانه بعد أن ألقوا به في ظلمات الجبّ، ليُباع ويُشترى ويحدث له ما حدث. لقد قال يوسف عليه السلام لإخوته بعد أن استتبّ له الأمر: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ﴾ (يوسف: 92).

يُقال إنّ يوسف عليه السلام عانى كثيراً حينما جلس إلى مائدة الطعام، ومعه إخوانه، وكانت أفكاره تتداعى ويتذكّر جريمتهم القبيحة، وكيفيّة إلقائه في ظلمات الجبّ؛ لذا لم يهنأ له عيش، ولم يطبْ له طعام، وعندها شعر أنّ إخوانه قد يكونون خجلين منه، فتحدّث إليهم قائلاً: "إنكم لو لم تلقوا بي في تلك البئر، لما تمكّنتُ من الوصول إلى هذا المكان. إذاً، أنتم السبب في سعادتي وعزّتي، وأنتم من أوصلني إلى هذا المقام". ﴿وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ﴾ (يوسف: 99).

أمّا الصفح اليوسفيّ الثالث، فكان أسمى من الصفحين الأوّلَيْن، حيث يُفهم منه أنّ يوسف عليه السلام كان كاملاً. يُقال إنّ يوسف عليه السلام، وبعد أن رفع أباه على العرش قال: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ (يوسف: 100).

لقد أراد يوسف عليه السلام أن يقول لأبيه: إنّ الشيطان هو السبب في اختلافاتنا، وإنّ إخوتي لا ذنب لهم، فلا تلومنّهم أو تعنّفهم، وإنّ بلوغي هذا المقام السامي كان بسببهم.

* اصفح عن المسيء إليك
إنّ في القرآن المجيد آية تحمل معنيين ظاهريّين، وقد فسَّرها المفسّرون بشكلٍ يختلف عن تفسير علماء الأخلاق وهي: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ (الشورى: 40).

المعنى الأوّل: يكون إذا قطع أحدهم يدك، قطع حاكم الشرع يده، وهذا التفسير هو الذي قال به المفسّرون. المعنى الثاني: التزمه علماء الأخلاق الأفاضل، فهو: إذا أساء أحدٌ إليك، فأسأت إليه، فستكون أنت ومَنْ أساء إليك مذنبين، وإنّ من رماك بحجر عُدَّ مذنباً، فإذا رددتَ عليه الحجر كنت مثله مذنباً؛ ولذا قال الباري تعالى بحقّ العافين والمصفحين: ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ (القصص: 54)؛ أي إذا أساء إليهم شخصٌ أحسنوا إليه، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

* الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومظهر الصفح
1- دخول مكّة
لقد منع أهل مكّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على مدى 13 سنة من تبليغ رسالته بالشكل الذي يريد، ولم يدخل الإسلام في هذه المدّة المديدة غير 40 إلى 50 شخصاً.

لقد استطاع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، في السنة الثامنة للهجرة، دخول مكّة بعد أن جاء بجيش يفوق تعداده 12 ألف نفر، وبدون إراقة دماء، فشعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه بلذّة عجيبة، بعد أن كابد ما كابده على مدى 20 عاماً، تخلّلها 28 معركة من أجل إخلاء بيت الله الحرام من تلك الأوثان والأصنام.

وبعد دخول مكّة مباشرةً، أمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ابن عمّه عليّاً عليه السلام بتحطيم الأصنام، والتي كان تعدادها 360 صنماً؛ ليتطهّر بيت الله من وجودها إلى الأبد. بعد ذلك، جاء المسلمون لينظروا إلى الكعبة ويستشعروا جذبها المعنويّ لهم، ثمّ شرعوا بقراءة دعاء الوحدة "لا إله إلا الله وحده وحده وحده".

2- يغفر الله لكم
كان المسجد الحرام يغصّ بالناس، أولئك الناس الذين رموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة، قبل سنين عديدة، إنّهم الذين تجرؤوا على جرح جبهته الشريفة الطاهرة لتنزف دماً، فوقف الجميع ينتظرون أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الغالبيّة العظمى ترتجف هلعاً وخوفاً، ظنّاً منهم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم سيأمر عليّاً عليه السلام بشهر سيفه؛ ليعمله في رقابهم، ولكنّ ما حدث كان عكس ذلك.

وما إن انتهى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من دعاء الوحدة، حتّى التفت إلى أبي سفيان، وهند آكلة الأكباد، ومن لفّ لفّهم، فبدأوه بالحديث قائلين: يا رسول الله! افعل بنا ما تشاء، فإنّ لك الحقّ في ذلك، فإن قتلتنا فأنت محقّ، وإن مثّلت بنا، فلك الحقّ!

لكن الجواب كان: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ﴾ (يوسف: 92).

بعد ذلك، قَبِل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم إسلامهم، على الرغم من أنّه يعلم أنّ الكثير منهم منافقون، ولكنّه قَبِل منهم ظاهر شهادتهم، وجعل من بيت أبي سفيان أمناً لمن دخله تطييباً لنفسه؛ لأنّه كان زعيماً في مكّة، فمنحه رئاسة ظاهرة كي يأمن شرّه.

3- يوم المرحمة
ذكرت كتب التاريخ، أنّه عندما دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة، حمل أحدهم رايةً وهو يجول في الطرق، ويقول: "اليوم يوم الملحمة"؛ بمعنى أنّ اليوم يوم الانتقام منكم.

فوصل الخبر إلى أسماع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعندها غضب غضباً شديداً، فأرسل عليّاً عليه السلام ليأخذ تلك الراية، ليجول في أزقّة مكّة قائلاً: "اليوم يوم المرحمة".

هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيماً شفيقاً عطوفاً، وكذا كان أهل بيته الأطهار عليهم السلام.

* الجار الجيّد: من يصفح عن المسيء
إنّ القرآن يريد عفواً، بل يريد أسمى من ذلك؛ يريد صفحاً، إحساناً، ودرءاً للسيّئة بالحسنة. وأكثر مثال قد يجسّد هذه الفكرة هو: الجار الجيّد.

إنّ الجار الجيّد ليس من يقوم بفعل خير لجاره؛ لأنّ ذلك واجبٌ عليه، بل إنّ الجار الحسن هو من تمكّن من أن ينسجم مع جاره المؤذي، وتمكّن من غضّ نظره عن سيّئات جاره، وصبر على أذاه.

كان أحد الأجلّاء مريضاً ومُشرفاً على الموت، فذهب إليه جاره ليطمئنّ على أوضاعه، فرآه مضطجعاً على أرض رطبة، في غرفةٍ لها جدار ملاصقٌ لمنزله، وقد تسرَّب الماء منه إلى منزل هذا الجار، فاغتمَّ واهتمَّ، وقال لجاره المريض: لِمَ لم تقل شيئاً لي بصدد هذه الرطوبة التي جاءتك منّا؟!

فأجاب: لم أرد أن أثقل عليك، ولم أرد إيقاعك في مخمصةٍ يمكن أن أتحمّلها وحدي!

هكذا يريد الإسلام منّا؛ يريد تعاملاً رفيعاً سامياً حتّى مع الغرباء، ولا يريد منّا ذلك التعامل الذي قد يصدر من بعض النساء مع أمّهات أزواجهنّ، أو من بعض الزوجات اللّواتي لا يعرفن درء السيّئة بالحسنة.

والحقّ يُقال: إنّ هذه الآية المباركة الشريفة ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النور: 22) يجب أن تُكتب بماء الذهب، وتعلّق على الجدار لنراها كلّ يوم، ليس بعنوان منظر جميل، أو آية قرآنيّة نتبرّك منها، كلّا، بل لنزيل بها من قلوبنا ما علق بها من أدران، ولننظر إليها بتأمّل كي يضحي الصفح ملكةً في نفوسنا الأمّارة بالسوء.

* ليعمّ الخير في بيت الزوجيّة
أيّها السيّد! عارٌ عليك إذا لم تصفح عن زوجتك التي قد يبدر منها ما يمكن اعتباره إساءة إليك، وعارٌ عليك إذا لم تتبسّم حينما تكون غاضباً، وكذا بالنسبة إليكِ أنتِ أيّتها الزوجة، عليك أن تُزيلي سحنات وجهك الغاضب أمام زوجك، ولو كان ظالماً لك؛ لأنّ المرأة تعني المحبّة، والرجل يعني المروءة. فاتّقوا الله تعالى، وعلّموا أبناءكم العفو والصفح والإحسان لمن أساء إليهم ليعمّ الخير والبركة في بيت الزوجيّة الذي باركه الله تعالت أسماؤه.


(*) مستفاد من كتاب: الأخلاق البيتيّة، الفصل العاشر - القسم الثاني.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع