"يحار اللسان كيف يتحدّث عن السيّد "ذو الفقار"؛ فيقف عاجزاً أمام عطاءات هذه الشخصيّة التي قدّمت الكثير لهذه المسيرة ولهذا العمل الجهاديّ.
أتذكّره في مواقف كثيرة؛ بدءاً من مراحل تأسيس العمل المقاوم، مروراً بالتخطيط وتطوير العمل، وصولاً إلى كلّ ما تحقّق من إنجازات؛ إذ كان له الفضل، كغيره من القادة والشهداء، في كلّ ما وصلنا إليه اليوم من قوّةٍ وقدرة. يكفي أنّه واحد من أولئك القلّة القليلة، الذين تحدّوا الترسانة العسكريّة الصهيونيّة ومقولة أنّ "العين لا تقاوم المخرز"، حتّى سُجّل له أنّه من المؤسّسين الأوائل في المقاومة الإسلاميّة منذ العام 1982م، مقدّماً كلّ وقته وجهده وحياته في سبيل هذه المسيرة، حتّى اللّحظات الأخيرة له قبيل شهادته في العام 2016م". هكذا عبّر الحاج جواد، أحد رفاق درب الشهيد القائد مصطفى بدر الدين "ذو الفقار"، حينما توجّهت مجلة "بقيّة الله" لتلملم حنايا الذاكرة، وحنينها إليه.
* اللقاء الأوّل
كان لي شرف اللّقاء بالسيّد "ذو الفقار"، بعد حرب الأيّام السبعة (تمّوز 1993م) أو ما سمّاه الصهاينة بعمليّة تصفية الحساب، حيث قمنا بجولة ميدانيّة مع الإخوة المجاهدين، برئاسة وفد من قيادة المقاومة في الجنوب، لتقييم النجاحات والإخفاقات في هذه الحرب، ولدراسة الخطوات التي يمكن القيام بها لاحقاً؛ لنكون على جهوزيّة تامّة في حال وقوع أيّ عدوانٍ عسكريٍّ صهيونيّ في المستقبل.
* قائدٌ قديم
تعاطى الشهيد، منذ انخراطه في صفوف المقاومة، بمسؤوليّة وبحرص كبيرَين، جعلاه يتولّى مسؤوليّات عدّة في فترات مختلفة من سنيّ حياته؛ فقبل معركة الأنصاريّة ما بين عامَي 1995م و1996م، تولّى مسؤوليّة الوحدة العسكريّة المركزيّة؛ أي أنّه كان المعاون الجهاديّ لسماحة الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (حفظه الله). وفي حرب تمّوز 1993م، كان قائد الوحدة العسكريّة، وكذلك كان في حرب نيسان 1996م (عناقيد الغضب)، فكان يقوم بجولات ميدانية خلال احتدام المعارك، وتحت القصف، على مواقع المجاهدين.
ومنذ ذلك الوقت، بدأنا التخطيط لاستهداف البوارج الإسرائيليّة، وكان لنا الدور في إطلاق صواريخ "سام" ورشّاشات مضادّات على الطائرات المروحيّة "الهليكوبتر". وطبعاً، كلّ ذلك كان برعايته وتحت إشرافه.
* الكاميرا تواكب المجاهدين
للإعلام دور بالغ الأهميّة في العمل الجهاديّ، إذ إنّه يوثّق الأحداث، ويحفظها للتاريخ، ويدحض كلّ الإشاعات والأكاذيب. من هنا، حرص السيّد "ذو الفقار" على هذه المسألة، فكان هو من زرع أوّل بذرة في طريق الإعلام الحربيّ بشكلٍ منظّمٍ. وكان يعبّر عن أهميّة ذلك بقوله: "يجب أن تواكب الكاميرا المجاهدين في أيّ عمل يقومون به؛ كي لا يزوّر هذا التاريخ وتلك الحقائق يوماً ما". فكانت البداية المنظّمة للإعلام الحربيّ ما قبل عام 1996م، حيث صارت الكاميرا ترافق المجاهدين في العمليّات الجهاديّة كافّة، سواء عند اقتحام المواقع أو قصفها، أو خلال نصب كمائن أو عبوات، وفي أيّ عمل عسكريّ آخر.
وكان لفكرته رحمه الله في نيسان 1996م ذلك الأثر الكبير، خصوصاً على العدوّ الإسرائيليّ، الذي تلقّى رسالة واضحة، مفادها: أنّنا ننتظر اليوم الذي نلتحم فيه مباشرةً معه، وأنّ المجاهدين لا يخافون هذا العدوّ، بل هم مستعدّون لمواجهته وجهاً لوجه، على الرغم من تحصّنه في طائراته الحربيّة، والاستقواء بها.
* تاريخ جهاد
للشهيد تاريخٌ جهاديّ حافل، حفر اسمه بعمقٍ في صفحاته المرصّعة بأسماء مجاهدين وشهداء لم يبخلوا ببذل الدماء والأرواح. فمواجهات خلدة، التي دارت أثناء الاجتياح الإسرائيليّ عام 1982م، تحكي بطولاته، فكان له دورٌ كبيرٌ في التصدّي للعدوّ الإسرائيليّ، حتّى أنّه أصيب إصابةً بالغةً في قدمه، وكان من المجاهدين الذين ثبتوا.
أمّا عمليّة أنصاريّة الشهيرة، فأكاد أجزم أنّ السيّد "ذو الفقار" والحاج عماد ومجموعة من قياديّي المقاومة في الجنوب هم الرأس المدبّر لها. حينها، كمَنَ المجاهدون لأشهر عدّة في المنطقة بانتظار تقدّم قوّات العدوّ الإسرائيليّ. وهذا ما حصل بالفعل، فبتوفيق من الله سبحانه وتعالى كمَنَ المجاهدون لمجموعة (كومندوس) صهيونيّة كانت تضمّ نحو 12 أو 14 جنديّاً صهيونيّاً قُتلوا جميعهم، ما عدا عامل الإشارة الذي سحبه جنود العدوّ بعد تغطية ناريّة كثيفة. وبعد هذه العمليّة، حصلت عمليّة تبادل مهمّة جدّاً بين أسرى الطرفين.
وبعد 1996م، بدأت عمليّات المقاومة تتوسّع أكثر، وصار المجاهدون يهاجمون المواقع الصهيونيّة بشكلٍ كثيف. وأذكر أنّه قال لي حينها: "لا يجب أن نركّز على القصف المدفعيّ فقط، بل يجب أن نلتحم بشكلٍ مباشر مع العدوّ الإسرائيليّ مهما كلّفنا الأمر". هذه كانت توجيهاته بشكل عامّ على كلّ الجبهات.
كذلك، لا يخفى على أحد دور السيّد "ذو الفقار" في الانتصار في حرب الدفاع عن مقدّساتنا في سوريا؛ إذ أخذ قراراً بتحويل غرفة العمليّات إلى داخل سوريا، وكان بإمكانه أن يديرها من الخارج، لكنّه أصرّ، وقال: "سنذهب إلى سوريا، ولن أعود من هناك إلّا شهيداً أو منتصراً". وبالفعل، عاد شهيداً منتصراً.
* شخصيّة شديدة الدقّة
للشهيد مزايا وخصال كثيرة، جعلت منه قائداً ومجاهداً ناجحاً. فقد كان شخصاً جدّيّاً جدّاً، خصوصاً في ما يتعلّق بالعمل العسكريّ، إذ كان صارماً بكلّ ما للكلمة من معنى في هذ المجال. أمّا خارج هذه الأجواء، فكان إنساناً عاديّاً كغيره. ولشدّة جدّيّته المعسكرات، كان قد أصدر قراراً بالتقيّد باللباس العسكريّ أثناء حضور جلسات العمل، وفي المراكز العسكريّة، حتّى أنّه طلب من الإخوان ارتداء ملابس باللون العسكريّ بعد الدوام، واشترى لهم لهذه الغاية سراويل وسترات زيتيّة اللون. وكان يدقّق في مسائل النظافة والترتيب داخل المراكز، وارتداء البدلات، وطريقة الجلوس، وأسلوب المدرّب في التدريب. كان يتابع هذه الأمور بشكلٍ مباشر وشخصيّ. ونلاحظ أنّ أغلب صوره في سوريا، حيث أمضى نحو ستّ أو سبع سنوات، كانت باللباس العسكريّ. حتّى عندما ذهب لزيارة راهبات معلولا، كان لباسه زيتيّ اللون.
* كإفطار المجاهدين
في فترة التسعينيّات، كان سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، يقيم إفطارات للمجاهدين في بيروت، ويدعو الوحدات الجهاديّة إليها. وفي إحدى هذه السنوات، أحبّ السيّد "ذو الفقار" تنظيم إفطار باسم الوحدة الجهاديّة في المركز، فدعا إليه سماحة السيّد وأعضاء الشورى، مضافاً إلى مسؤولي الوحدات في المناطق ومسؤولي الأقسام، وأطلق على كلّ مأدبة اسماً من أسماء المحاور العسكرية، مثل: مأدبة الطيبة، مأدبة الجبّور، مأدبة صافي، مأدبة مليتا،... ولكنّ اللافت في هذه الدعوة أنّ الجلوس كان على الأرض، وليس على كراسٍ وطاولات، والطعام كان عبارة عن معلّبات (التونة والمرتديلا) وعدس مجروش، والهدف أن يكون الإفطار مثل إفطار المجاهدين في المواقع العسكريّة، للإحساس بهم وبحالهم.
* مساعدة الناس
لم يقتصر اهتمام السيّد على ما له علاقة بالشؤون العسكريّة فحسب، وإنّما كان أيضاً شديد الاهتمام بقضايا الناس وأحوالهم، وخصوصاً المجاهدين منهم؛ ففي إحدى المرّات، وجد أنّ أسنان أحد الإخوان قد تآكلت، فقدّم له المال ليصلحها. وكثيرة هي الأمثلة على مساعدته للناس. كما كان الشهيد "ذو الفقار" يستمع للآخرين، ويأخذ باقتراحاتهم إذا ما وجدها مناسبة، وكان يعمل أيضاً على تطويرها وتنميتها.
* المقاومة: عملٌ وتوعيةٌ
حبّ المقاومة سرى في عروقه، فترجمه ميدانيّاً على الأرض، وبأشكال كثيرة أخرى؛ منها حرصه على التوعية بشأن المقاومة ودورها.
فبتوجيهات من السيّد "ذو الفقار" رحمه الله، ومن بعدها الحاجّ رضوان رحمه الله، كنّا نجول في ذكرى القادة الشهداء في 16 شباط على الجامعات والمدارس والكشّاف، مضافاً إلى المشاركة في بعض المنتديات في مناطق عدّة، لشرح عمل المقاومة وأهميّته. وكنّا نتوجّه إلى المشاركين بالمعلومات والقصص بحسب فئاتهم العمريّة. وكنّا خلال جولاتنا هذه نرتدي البزّات العسكريّة، كي نحتكّ كعسكريّين بعامّة الناس، وكان الهدف من هذا العمل هو توضيح صورة المقاومة ودورها.
* اللياقة البدنيّة.. أولويّة
وللرياضة نصيبٌ من اهتماماته، على الرغم من كلّ انشغالاته. فكان قد نظّم دورات رياضيّة في كرة القدم وكرة اليد وكرة الطاولة، وكرّس مشروع الرياضة الإلزاميّة؛ لأنّ على المقاوم أن يحافظ على لياقته البدنيّة. وكان يحضر في أغلب الدورات التي كانت تُقام على مستوى المناطق والمراكز، مضافاً إلى شراء الأدوات الرياضيّة وتوزيعها على جميع المراكز. فكانت الرياضة إلزاميّة ليومين في الأسبوع كحدّ أدنى. لقد كان يسعى لبناء مقاوم متكامل، على المستوى الروحيّ والجسديّ والعباديّ والبدنيّ؛ أي كان يهتمّ بالجهوزيّة البدنيّة كما الروحيّة. وكان يحضر في بعض المباريات، التي تخلّلها توزيع الجوائز والميداليّات. وما زالت أدوات الرياضة موجودة في المراكز، والرياضة إلزاميّة للجميع، حتّى الآن.
* السيّد.. العشق
تلك الشخصيّة الجهاديّة العسكريّة المنضبطة، كانت أيضاً رقيقة المشاعر. وأيّ مشاعر تلك التي كنّها الشهيد لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، سيّد الحبّ والعشق؟!
لقد كانت علاقته بسماحة السيّد كعلاقة الأخ بأخيه، والابن بأبيه. وكان حبّه لسماحته يصل إلى درجة العشق. فقد قال لي مرّة: "كنت عند سماحة الإمام القائد السيّد الخامنئيّ دام ظله، وطلب منّي أن نحمي السيّد حسن ونرعاه". ومذّاك، أصبح أكثر اهتماماً بسماحته وحرصاً عليه. وكان كلّ همّه حمايته، ويشدّد على الوصيّة التي أوصاه بها الإمام القائد، أنّ "علينا حمايته، لأنّه أمانة في أعناقنا، ونعمة إلهيّة منحنا الله سبحانه وتعالى إيّاها".
* عندما فقد السند والدعم
أمّا الحاجّ رضوان رحمه الله، الرفيق والسند والداعم والمؤنس، فقد ترك بشهادته فراغاً كبيراً في حياة السيّد "ذو الفقار"؛ لأنّه كان يعدّه جزءاً منه. وقد لمسنا ذلك فعلاً بعد شهادة الحاجّ عماد، إذ تأثّر السيّد بفقدانه كثيراً، فشعر بحمل المسؤوليّة بشكل أكبر، وراح يضاعف جهوده، مع أنّه لم يبخل يوماً بوقته وعمله لهذا الخطّ. وهو لم يفارقه منذ وصول جثمانه الشريف إلى حين وضعه في اللّحد. وخلال تلقّي التعازي والتبريكات باستشهاد الحاج عماد، كان السيّد "ذو الفقار" موجوداً في مجمع سيّد الشهداء عليه السلام، وكان يغطّي وجهه بوشاح كي يتوارى عن الأنظار؛ لأنّ وضعه الأمنيّ فرض عليه ذلك. وكان حينها يبكي بشدّة لفقدان رفيق دربه. فقلت له: "يا سيّد، إن كنت أنتَ تبكي بهذا الشكل، فكيف سيكون حالنا ونحن الذين وضعنا أملنا فيك؟!".
* ذكراه حاضرة أبداً
ذكراك أيّها القائد، حاضرةٌ دائماً وأبداً في العقول والوجدان. كيف لي أن أنسى فضائلك ومكارمك، وأنت الذي أوصيتني يوماً "بقراءة زيارة آل ياسين كلّ يوم، وخصوصاً عندما تكون غضبان، وهذه وصيّة منّي إليك". فكنت خير مجاهد وقائد ومربٍّ، فهنيئاً لك في عليائك.