ندى بنجك
نفقٌ معتمٌ دخلتَ به القلوب، يبحث عن ممرّ ضيّق، يأتي منه ضوء ما وينفي الخبر. دُوارٌ من الذهول يلتفّ برأسك. تشعر أنّك في صندوق، وفجأةً، يضيق بكَ كلّ شيء من حولك. تجرّعنا مرارة الحزن مرّات عدّة، خلال فقدنا لكبار من القادة المقاومين. وهذه المرّة أيضاً، تجرّعناه مجدّداً بمجرّد أن قامت القوّات الأمريكيّة الطاغية بقصف موكبه بالصواريخ مع صديقه نائب مسؤول الحشد الشعبيّ في العراق أبو مهدي المهندس، خلال وصولهما إلى مطار بغداد. الجميع على يقين، من أنّ الفريق "قاسم سليمانيّ" باستشهاده، وبإلهيّة دمه، سوف يفتح باب التاريخ على تاريخ آخر، ولكن في الوقت نفسه، لا مفرّ من هبّة الحزن المتحسّر على قامة تاريخيّة، شغلت عدوّه الممتدّ في أكثر من بلد وعالم، وأرّقت وجوده، طيلة عقود من الزمن.
•عندما بكت السماء عليه
تتوالى الصور، نتبادلها بألم. جسده المشظّى، وأصابعه فوق العشب والتراب، وخَاتمه العقيق الملطّخ بالدم، وأشياء كثيرة أخرى، تتعلّق بتلك اللحظة، التي تجرّأ فيها اللعين، واستهدفه، وحرمنا بطلاً جهاديّاً إسلاميّاً عظيماً، ومفتاحاً من مفاتيح النور والنصر.
صمت على الدروب في المناطق والقرى، ودندنات مكلومة جنب المدافئ، وإحساس بفراغ في الأرض، وحسرة لا تُفسّر، وتسليم كامل لكلّ أصوات الحنين، التي تحضر تلقائيّاً بلا أسباب، حينما تطرق على النوافذ حبّات المطر.
تلازمَ الحدث المرّ مع شتاء وبرد انسحب على مدى أيّام التشييع للجسد المبارك، ومكوث الناس في المنازل، قبالة شاشات التلفزة، تلحق كلّ صورة له ومشهد. وعلى مدى أيّام الفقد والصدمة، همس خفيف في المكتبات، ونظرات شاردة لجمهور تدفّق من أجل طباعة صورة للقائد المحبوب جدّاً، الكلّ يودّ أن يعلّقها في مكان ما من بيته، وبعضهم أرادها قلادة في عنقه، وفي سيّارته.
•صور الحبّ والعشق
تمرّ أيّام على الحكاية، والوقت كلّ الوقت يمرّ منه وإليه. على امتداد المشاهد التي تُعرض، نراه يفترش جبهات الأرض، يجول بين المقاتلين، ويجلس بينهم، يتفقّد ويُشرف على كلّ شيء، يوزّع لهم حصصاً دسمة من الحبّ والتواضع. معهم يأكل، ويصلّي، ويغفو، وفي ساعات كثيرة من رحلة التجوال والمهمّات، لا يرفض لأيّ منهم مطلباً إذا ما بدأ به، فإنّه يكاد لا ينتهي، وهو أن يتصوّروا معه.
يقوم الحاجّ قاسم سليمانيّ من قعدته، يلفّ كوفيّته حول عنقه، ويتوسّط المجاهدين، ثمّ تؤخذ الصورة بمجرّد ظهور البسمة.
كم من مجاهد يختلي الآن بتلك اللحظة، ويقلّب تلك الصورة، ويفخر أنّه في يوم من الأيّام، وربّما في كثير من الشهور والأعوام، جمعهما خبز، وماء، وصبح، وشمس، وضحكة، ودمعة، وصلاة، وما لا يُحصى من الشهداء.
رجل التراب وروحه، لواء القدس وقائده، بطل الجهاد العظيم، نشاهده في لقطات وفيديوهات كثيرة مع قادتنا، ومع شهدائنا، هو فلذة من حزبنا، نشعر بأنّه عاش معنا في مدننا، وقرانا، وحاراتنا، ومساجدنا، لقد تقاسمنا معه الخبز، وحلوى العيد، ودمعة في عاشوراء، وزحمة في الطريق إلى احتفال من احتفالات النصر والكبرياء.
•حكايا اللوعة والفَقد
في غمرة هذا الطواف حول شهادته الجليلة، تلمع في البال وجوه محدّدة؛ بعضها يعرفه عن قُرب، والتقى به في مناسبات عدّة، وبعضها الآخر تربطه مع اسمه صلة خاصّة ومختلفة. هم بعض العوائل لقياديّين جهاديّين شهداء، ممّن لازموه وترافقوا معه في جولات كثيرة، وجمعتهم على الجبهات حكايات شتاء وصيف.
1 - صورته انضمّت إلى صورهم
تقوم من سريرها، يُمسك أحدهم بيدها ويُقعدها في غرفة الجلوس. لم يُخبرها أيّ من أبنائها بالأمر. مرّ يوم بأكمله وهم يخفون عنها. بلا شكّ، مثل هذا الخبر قاس جدّاً على مرمى روحها، فهي تحبّه كما تحبّ السيّد مصطفى، وإذا بزلّة لسان: "أومِي نفوت لجوّا يا ستّي ونشوف تشييع الحاج قاسم"!
- "حاج قاسم؟! أيّا حاج قاسم!".
سرعان ما انتبه "للنكبة" التي أحدثها بجملته، من دون أن يشعر. ليس من السهل على الحاجّة أمّ عدنان التسعينيّة في العمر، أن تسمع نبأ استشهاد الحاج قاسم سليماني. وهي من حيثما تلفّتت في جنبات منزلها في الغبيري، تقع نظراتها في الزوايا والجدران الطافحة بالصور. هذه صورة لصهرها الحاجّ عماد، ثمّ صورة جنبها لحفيدها جهاد، وعلى الطرف المقابل لروح روحها، ابنها السيّد مصطفى "ذو الفقار"، قادة شهداء، كانوا يملؤون عمرها بالعطر. واليوم، انضمّت إلى صورهم صورة أخرى.
تلقّت النبأ بمرارة، وراحت تتذكّر مجيئه بعد استشهاد الحاج عماد، زيارته للضريح في الروضة، ثمّ تأثّره وإعجابه بشخصيّة الشهيد جهاد، وبعدها، وقت استشهاد السيّد مصطفى، دخل إلى غرفتها متألّماً خافضاً قلبه قبالة فقدها السرمديّ، قائلاً لها ومكرّراً: "أنا ابنك، أنا ابنك، وما تحزني، مصطفى بالجنّة، وكلنا لاحقينو!". بأنفاسها المتهدّجة، وحسرة مِلؤها تاريخ من الحكايات والذكريات التي جمعت هؤلاء الأحبّة معاً، تهندم منديلها الأسود من جهة خدّها واليد مرتعشة، وتتمتم: "يا عيوني يا حاج قاسم، إنتَ خسارة لكلّ الأمّة، الله معك، الله معك".
2 - "أصبحنا أيتاماً" من جديد
تترقرق دمعة طريّة من "زهراء" ابنة السيّد مصطفى بدر الدين القائد الشهيد، وهي تسمع جدّتها، وتسترجع يوم اللقاء بالحاجّ قاسم سليمانيّ في طهران، وتلك الرسالة المباشرة التي تلاها على مسمعهم مواسياً لهم: "كان السيّد مصطفى دقيقاً بشكل عجيب، ومرتّباً ومنظّماً. وهو شهيد حيّ منذ أن أصبح جريحاً في المقاومة الإسلاميّة. كان مؤمناً وسيّداً حقيقيّاً، وكان وجهه نورانيّاً، خصوصاً في أيّامه الأخيرة، وكلامي هذا ليس فيه ذرّة مجاملة". ترحل مع الرسالة الذكرى، وتغوص بإحساسها معبّرة: "شعرنا كلّنا باليتم، وكأنّ والدنا قد استشهد من جديد!".
3 - "لقد استشهد الحاجّ أبو محمّد لتوّه"
تستفيق من نومها على الكابوس نفسه، الذي رأته فجر استشهاد زوجها الشهيد القائد إبراهيم الحاج "أبو محمّد سلمان" عام 2014م، وقد سبّب لها الكثير من التعب والضجر. تذكر بعض التفاصيل منه، بأنّ "الدواعش يريدون أن يُلحقوا بها الألم، ويضربوها على رأسها". وسرعان ما يأتيها الخبر في فجر اليوم الثاني، بعدما أيقظتها ابنتها مفجوعة وهي تقول: "استشهد الحاجّ قاسم سليمانيّ!".
"كأنّ الحاج أبو محمّد استشهد لتوّه"، هكذا تقول، "فراغ في عيون أبنائي، في لحظة واحدة أخذ عقولنا وقلوبنا إلى مكان حزين".
كان الشهيد القائد أبو محمّد سلمان من المحبّبين لدى الجنرال قاسم سليمانيّ. كان رفيق النزال المتواصل في بدايات القتال ضدّ داعش في العراق، ثمّ في سوريا، بينهما الكثير من المشاهدات والصور، لا يملكون أيّاً منها في المنزل، لكنّها محفوظة لدى الإخوة المعنيّين. صورة كبرى للحاجّ قاسم عُلّقت جنب صورة أبي محمّد، وهي أوّل ما يلمحونه عند مدخل البيت، ومن خلالها يشتمّون عبق الصداقة الجميلة بينهما، وصوت الذاكرة.
4 - "دماؤه هي دماء الأمّة كلّها"
كانا معاً على جبهة واحدة في سوريا، منذ المعارك الأولى ضدّ التكفيريّين في العام 2011م، وكان يلازمه في المهمّات الخاصّة، إنّه الشهيد القائد علي فيّاض "علاء البوسنة"، الذي كان الحاجّ قاسم يطلبه بالاسم ليرافقه بالمهمّات الحسّاسة في الميدان. وكان الأمين العام سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) يوصيه بأن لا يقتحم باتّجاه الخطوط الأماميّة الخطرة، ويتعهّد له سليمانيّ بذلك.
"إنّ دم الحاج علاء هو جزء من دم الأمّة، وأمّا دماء القائد سليمانيّ، فإنّها دماء الأمّة كلّها!". بهذا يلخّص الشيخ نزيه فياض شقيق الشهيد القائد الحاج علاء مشاعره، وهناك ما يلمع في العين من حنين وفقد لشقيقه الشهيد، يظهر في الكثير من الصور.
•خافوه فترصّدوه
ثمّ ماذا؟ هل من مزيد؟ أجل، مع الحاج قاسم سليمانيّ لك أن تتّكئ على تاريخ لا يشبه إلّا نفسه، يحضر فيه ألف شهيد وشهيد.
ثمّ إنّ الشهيد القائد حسن الحاج "أبو محمّد الإقليم" منهم، والشهيد القائد "أبو عيسى الإقليم" منهم.
غربة في زوايا الوقت، تشعر بها هذه العوائل، وحيرة في الوجوه. وهي الجملة نفسها يردّدونها: "كنّا نرى فيه الملاذ والسند، ولا مبالغة مطلقاً أنّنا نسكن الآن في جمر تلك اللحظات، التي هبّت علينا برائحة من قميص شهيدنا، ثمّة من جاءنا به ذات فجر، وضعه عند الباب وغادر، تماماً هكذا نعيش الآن مع غربة الخبر".
صورٌ، صورٌ، صُوَر، زيدت إلى جانبها صورته. وإنّها ليست مجرّد صورة، هي بالنسبة إلى الكثير من العوائل موّال عمر، وهي الممرّ إلى الآتي من جهاد طويل، ودمٍ لا بدّ أن يُبذل. كم من بيت سندخله بعد اليوم، ويلاقينا فيه جفن سليمانيّ العالي، تتوسّط صورته صور الشهداء كلّهم؟! فتستريح الدمعة عند ضفة القلب، كلّما ذُكرت حكاية دمٍ على التربِ.
خافوه جدّاً فترصّدوه. ونحن الذين نعلم أنّ لا نوم للدماء، لا الأمس كان لهم ولا الآتي.