آية الله الشيخ حسين مظاهريّ
إنّ كلمة العفو كلمةٌ مقدّسة، وعندما يريد الإنسان أن يصوّرها لنفسه يشعر بخروج نورٍ يسطع منها، يلامس شغاف قلوب العافين.
بعد الحديث عن دور "المحبّة" في تحقّق "الوفاق" في العددين السابقين، نضع بين أيدي القرّاء الأعزّاء العامل الثاني المساعد في تحقّق الوفاق الأسريّ، وهو "الصفح والعفو"، الباعث على المحبّة، والألفة، والوئام والوفاق في الوسط العائليّ.
* "العفو".. كلمة من نور
كلمة العفو جميلةٌ ومقدّسة إلى الحدّ الذي تكون فيه دائماً ملازمةً لكلمة "المحبّة". ولجمالها الفائق، ولتأثيراتها الرائعة في النفوس، أكَّدَ القرآن الكريم عليها كثيراً، وقسّمها إلى ثلاثة أقسام:
الأوّل - التجاوز: أيّ حينما يرى الفرد شخصاً يسيء إليه عامداً، فإنّه يعفو عنه، ويتجاوز عن سلوكه السيّئ في سبيل الله، وفي سبيل القيم الإنسانيّة السامية: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).
أيّها المسلمون! عليكم أن تلتزموا بالعفو حتّى يصبح ملكةً لديكم. وإذا أردتم البقاء على هذه الصفة المحمودة، يجب عليكم أن تعلّموها لمَن معكم في الدار، وتعلّموه الالتزام بها. وبناءً على ذلك، فمَن رأى من أهل داره إساءة، ينبغي له أن يعفو ويصفح؛ كي تعمّ المحبة ويسود الودّ هذا الوسط.
الثاني - الصفح: هو أعلى وأسمى مرتبةً من سابقه، وفيه يترفّع الفرد عن رؤية الإساءة؛ فلو أساءت زوجته التصرف أمامه مثلاً، يحاول جاهداً أن يفعل شيئاً يُفهَم منه أنّه لم يَرَ تلك الإساءة أبداً؛ كي يعفو عنها. وهذا ما يسمّى بالصفح، وقد قال فيه القرآن الكريم: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾ (النور: 22).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تجاوزوا عن عثرات الخاطئين، يقيكم [يَقِكم] الله بذلك سوء الأقدار"(1). وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بصدد الصفح: "ما عفا عن الذنب مَن قرَّعَ به"(2). وجاء في الخبر ما مفاده أنّ الأفراد الذين يعفون، سيعفو الله عنهم يوم القيامة. أمّا الذين يصفحون؛ أي لا يعاتبون المسيء أبداً، وكأنّهم لم يروا منه إساءة، فالله يتجاوز عنهم، ولا يذكر مساوئهم أبداً، ويدخلون الجنّة دون حساب.
فكن، أيّها الرجل، من أهل الصفح في المنزل، وتصرّف كأنّك لم ترَ سيّئاً من زوجتك حينما تشعر أنّها أساءت. هذا إذا أردت أن تدخل الجنّة دون حساب. وكذا بالنسبة إلى الزّوجة؛ إذ ينبغي لها أن تغضّ النظر، وتصفح عن زوجها، إذا ما رأت منه ما يخالف قانون الأسرة المقدّس.
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: "إذا استحقّ أحدٌ منك ذنباً، فإنّ العفو مع العدل أشدّ من الضرب لمن كان له عقل"(3). وقال العزيز في محكم كتابه المجيد: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: 72).
نفهم من هذه الآية الشريفة أنّه لا بدّ للمؤمن من أن يعفو ويصفح، فإذا ما لطم وجهه طفلٌ لا يعدو سنَّهُ سنةً أو سنتين، وجب عليه أن يتصرّف كأنّ شيئاً لم يكن. وهذا الصفح في مثل هذه المواضع لهو دليلٌ على سعة صدر هذا الإنسان ونضجه. فالمؤمن يكون كذلك مع الآخرين، خصوصاً أهل بيته.
الثالث - الإحسان إلى المسيء: وهو ما يجب أن يعمل به خاصّة المسلمين من الذين بلغوا مقامات ومراتب لم يبلغها عامّة الناس، فهو: الإحسان لمن أساء إليهم: ﴿وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ (القصص: 54)؛ أي يدفعون المعصية بالطاعة، أو الجهل بالحلم. وقد تكرّرت هذه الآية في موارد عدّة في القرآن الكريم، ولكن بأشكال أخرى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (المؤمنون: 96). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحسن إلى من أساء إليك"(4).
* "الإحسان" في سورة يوسف عليه السلام
لقد أكّد الباري على هذه المسألة كثيراً في سورة يوسف التي عدّها أحسن القصص. وهي سورةٌ مليئةٌ بالدروس الأخلاقيّة والاجتماعيّة السامية، وإذا ما قرأها الإنسان وجهد أن يعمل بها، أضحى إنساناً كاملاً بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى.
إنّ هذه السورة تحمل في سطورها مواقف مهمّة، ينبغي أن نقف عندها ونتأمّل:
يُبيّن القرآن المجيد: أنّ "زليخا" أساءت كثيراً ليوسف عليه السلام، وألقت به في غياهب السجن، ولكنّه لم يتمكّن من الخروج إلّا بعد أن ألهمه الباري كيفيّة إيصال السؤال التالي إلى الملك: ﴿مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ (يوسف: 50).
عندها قالت "زليخا" لزوجها: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (يوسف: 51).
بعد أن خرج يوسف عليه السلام من السجن، قال: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ (يوسف: 52)؛ أي هل تعلمون لماذا خطّطت لإقرار النساء، واعترافهنّ بخطئهنّ؟
لقد فعل النبيّ يوسف عليه السلام ذلك من أجل كشف براءته؛ لأنّه علم أنّ الأمر سيؤول إليه وسيصبح عزيز مصر، وهذا يتناقض مع ما عليه من اتّهام، فتحمّل سنين عشراً في السجن، ولم يفكّر بفضح هؤلاء النساء أبداً، إلّا بعد أن اضطرّه الأمر الأهمّ إلى ذلك، وإلّا لن يسمح لنفسه كشف أفعال زليخا، وصاحباتها اللواتي قطّعنَ أيديهنّ.
هذا الموقف يعدّ صفحاً جميلاً من جانب يوسف، لا يمكن أن يكون أو يليق إلاّ به، ولمثله من المؤمنين والخيّرين.
(*) مستفاد من كتاب: الأخلاق البيتيّة، الفصل العاشر – القسم الثاني.
(1) ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص2013.
(2) (م. ن.)، ج 3، ص 2014.
(3) (م. ن.)، ج 1، ص 57.
(4) (م. ن.)، ج 1، ص 641.