نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الآداب المعنوية للصلاة: في مراتب الإخلاص


السيد عباس نور الدين


قد علمنا مما سبق أن الإخلاص في الدين الإسلامي يعني انتفاء جميع المقاصد والغايات النفسانية من الإنسان واستيلاء الحق سبحانه على القلب وصيرورته مطلوب السالك وغايته الوحيدة. وللوصول إلى هذا المقام الذي هو غاية الغايات، يمر السالك في مراحل عديدة لتصفية نيته وتخليصها من جميع الشوائب حتى لا يبقى في القلب إلا المعبود الأوحد عزّ اسمه.

هذه التصفية والتجريد قد تبدو في غاية الصعوبة والمشقة عند المبتدئ، إلا أنها سرعان ما تصبح ميسرة ببركة التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، من خلال الالتزام المطلق بأوامره وشريعته، التي تكفلت بإفناء كل مراتب الأنا والأنانية.
كما أنَّ هذه التصفية لا تحصل بمجرد التصور الذهني وإعمال الفكر. كان يتصور السالك حقيقة المقام النهائي ويتوجه إليه بعقله وفكره. لأن الإخلاص أعظم من ذلك وأكبر. فهو حالة قلبية باطنية تظهر في مواضع الابتلاء، وإن كان التصور والتوجه الذهني شرطاً لازماً إلا أنه لا يكفي.
وبالإضافة إلى الشريعة الغراء، فإن الله تعالى يمتحن عباده ويبتليهم بأنواع البلاء الذي يكون كاشفاً ومساعداً لتحصيل الدرجة الرفيعة من الإخلاص. حيث أن جوهر البلاء هو تعرّض المصالح الخاصة بالإنسان للتهديد والزوال (مهما كانت هذه المصالح). وحينها، ومن خلال المشاعر التي تظهر من هذا المُبتلى، يدرك مدى إخلاصه. وبما أن الإخلاص يعني انتفاء النظر إلى المصالح الذاتية بالكامل، فإن شعور الخوف أو الحزن أو القلق الذي ينتاب هذا السالك أثناء هذا الابتلاء الذي يهدد مصالحه (الموجودة أو القريبة) يعني أنه لم يصل بعدُ إلى الإخلاص المطلوب.
وعليه، فإن خداع النفس لن يستمر طويلاً، حيث سيعلم كل إنسان مدى إخلاصه.

ونذكّر بأن الموقف العملي الوحيد المطلوب اتخاذه في جميع المراحل حتى أعلاها هو أداء التكليف الإلهي الشرعي. وإذا قلنا إن هذا الالتزام والتعبد كافيان لبلوغ أعلى المراتب العرفانية لما جانبنا الحقيقة.

وبهذه الكلمات الوجيزة نكون قد أشرنا إلى كليات المسائل المتعلقة بالإخلاص على الشكل التالي:
1- عرفنا موقع الإخلاص في الدين الإسلامي وأنه غاية العبادات كافة.
2- علمنا المعنى الحقيقي للإخلاص وهو انتفاء جميع المطالب والغايات النفسانية من القلب (وإن كانت الغايات تحصيل الكمالات).
3- أدركنا أن الإخلاص هو مقام معنوي وليس مجرد تصور ذهني.
4- وإن الكاشف عن تحقق الإخلاص أو عدمه هو تلك الامتحانات الإلهية التي تمر في حياتنا، وهي تريد أن تنتزع منَّا تلك المطالب والمصالح النفسانية (لا شك ولا ريب بأنه لا يوجد أي بلاء مانع من الوصول إلى الإخلاص، أي تحقق الوصال الحقيقي مع الله سبحانه).
5- وعلمنا أن الطريق العملي الأوحد لعبور مراتب الإخلاص هو الالتزام الدقيق بالشرع الأنور الذي يُعدّ جوهره إفناء الأنانية وتحطيم صنم الإنية (رؤية النفس).

ونظراً إلى أن مقام الإخلاص مقام عميق، أو بعبارة أخرى، بما أن الناس غالباً ما يحتجبون عن الحق سبحانه بمئات الحجب، فإن الوصول إلى الإخلاص قد يتطلب عبور مراتب عديدة للتصفية. وها نحن نشير إلى أهم هذه المراتب كما بيّنها الإمام قدس سره.
1- المرتبة الأولى: تصفية العمل (القلبي والقالبي) من شائبة نيل رضا المخلوقين وجلب قلوبهم. وهذه الشائبة هي المسماة بالرياء الفقهي وصاحبه أرذل المرائين وأخسهم. فينبغي تصفية الأعمال من طلب المنزلة في قلوب الناس، سواء كانت هذه المنزلة دنيوية أم أخروية دينية. والمرائي هو الذي يبعثه هذا الطلب على القيام بالعمل، فيحبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. وفي الحديث أن أدنى الرياء شرك. وقال الله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشسركت ليحبطن عملك}.
والإخلاص في هذه المرتبة يعني عدم بقاء هذا الباعث في قلب العامل وصيرورة مدح الناس له وذمّهم عنده بمنزلة سواء. شرط أن يكون الباعث على أداء العمل أداء التكليف الشرعي الذي هو الميزان أيضاً.

2- المرتبة الثانية: تصفية العمل من تحصيل المقاصد الدنيوية والمآرب الزائلة الفانية. كأن يعمل العمل العبادي- كصلاة الليل- لتوسعة الرزق ويأتي بصلاة أول الشهر للسلامة من الآفات. فإن الباعث في مثل هذه الأعمال الشريفة إذا كان تحصيل هذه الحظوظ الدنيوية المحللة (لا نقول المحرمة)، فإنه مخالف للإخلاص. لأن جميع الحظوظ الدنيوية ينبغي أن تطلب كوسيلة، ولا يجوز أن تصبح غاية لأية عبادة.
ولا ينبغي الخلط بين البحث عن حقيقة الإخلاص من جهة والبحث في صحة العبادة من الناحية الفقهية الظاهرية من جهة أخرى. نعم، يوجد بعض المراتب المنافية للإخلاص التي تبطل العبادة من الناحية الفقهية، كالمرتبة الأولى التي ذكرناها، وفيها تفصيل أيضاً حيث يطلب في محله (راجع تحرير الوسيلة). فإن بطلان العبادة عند الفقهاء هو غير بطلانها عند العرفاء في بعض المراتب. لأن بطلان العبادة عند الفقيه يعني وجوب إعادة العبادة. أما بطلانها عند العارف فهو عدم حصول الأثر المعنوي والأخروي المطلوب منها. ولذلك قال الإمام مناقشاً البعض: "وقد عدّ بعض الفقهاء عليهم الرحمة هذه المرتبة (الثانية) من الإخلاص شرطاً لصحة العبادة.. وهو خلاف التحقيق حسب القواعد الفقهية، وإن كانت هذه الصلاة عند أهل المعرفة لا قيمة لها أصلاً، فهي كسائر المكاسب المشروعة، بل لعلها تكون أقل منها أيضاً" (الآداب/ ص298).

ومن أسرار هذا التفريق هو فتح طريق المجاهدة أمام السالكين من خلال العبادة. لأن العبادة قد تمتزج مع عدم الإخلاص وتكون وسيلة للإخلاص، وذلك إذا أدَّاها العابد كمجاهدة من أجل الوصول إلى الإخلاص الحقيقي.
وعليه، فإن السالك إذا أدى الأعمال لأجل تحصيل الحظوظ الدنيوية كغاية وباعث للعمل لا يكون مخلصاً، إلا أنه لا يكون آثماً. وقد ينال ما طلبه من العبادة من حظ دنيوية ومقصد مادي، ولكن لا ينبغي له أن يتصور أنه بهذه العبادة يكون سالكاً.

المرتبة الثالثة: تصفية العمل من طلب الوصول إلى الجنَّات الجسمانية والحور والقصور وأمثالها من اللذات الجسمانية. وهؤلاء الذين تبعثهم هذه المشتهيات على العمل هم الأجراء، الذين أشارت إليهم الروايات الشريفة. وهذا أيضاً في نظر أهل الله كسائر المكاسب، إلا أن أجرة عمل هذا الكاسب أكثر وأعلى إذا قام بالأمر ويخلصه من المفسدات الصورية.

ولعل من البيانات السابقة اتضح الفارق بين الغاية كباعث والوسيلة! فإن أي شيء محلل يطلبه السالك كوسيلة لا كغاية يكون حسناً، إذا كان الحق سبحانه قد حبّذ اتخاذه وسيلة. والشيء يصبح وسيلة في نفس السالك عندما يراه طريقاً للوصول إلى مرضاة الرب سبحانه. ولا شك بأن الأشياء تصبح وسائل بعين الشريعة لا بعين السالك. فربّ نافعة ضارة، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم. وعليه، يصبح إتيان جميع العبادات التي وضعت لها حظوظ دنيوية من باب الامتثال للحق تعالى الذي أمرنا أو أحب تلك الأعمال.
وهكذا يؤدي السالك في طريق الإخلاص العمل لا لأجل الوصول إلى الجنة كغاية من العبادة. بل لأن الله تعالى جعل الجنة محل رضاه وقربه وساحة لقائه. فالجنة مطلوبة عند السالكين إلا أن غايتهم أبعد من ذلك.

المرتبة الرابعة: أن يصفي العمل من خوف العقاب والعذاب الجسماني الموعود. فإن هؤلاء هم الذين يبعثهم هذا الخوف للقيام بالعمل وهم "العبيد" كما في الروايات. يقول الإمام قدس سره "وهذه العبادة في نظر أصحاب القلوب لا قيمة لها وخارجة عن نطاق عبودية الله ولا يفرق. في نظر أهل المعرفة. أن يعمل الإنسان عملاً من خوف الحدود والتعزيرات في الدين أو من خوف العقاب والعذاب الأخروي أو للوصول إلى النساء في الدنيا أو الحور ونساء الجنة. فالعمل في جميع ذلك ليس لله" (الآداب/ ص299).
فبطلان العمل في مثل هذه المرتبة هو عند العارفين وليس من الناحية الصورية طبقاً للقواعد الفقهية. أي أن وجود مثل هذا الباعث، وهو الخوف من العقاب الأخروي، مخالف للإخلاص الحقيقي. لهذا قال الإمام: "وليس لهذا المتاع قيمة في سوق أهل المعرفة".

المرتبة الخامسة: تصفية العمل من الوصول إلى السعادات العقلية واللذات الروحانية الدائمة الأزلية والإنسلاك في سلك الكروبيين والانخراط في زمرة العقل القادسة والملائكة. يقول الإمام قدس سره:
وهذه الدرجة وإن كانت درجة عظيمة والمقصد عالياً ومهماً، والحكماء والمحققون يهتمون بهذه المرتبة من السعادة اهتماماً كبيراً، ويرون لها قيمة، ولكن في مسلك أهل الله هذه المرتبة أيضاً من نقصان السلوك وسالكها يعد كاسباً أيضاً ومن الأجمراء، وإن كان له فروق مع سائر الناس في المتجر والمكسب.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع