الشيخ محمد خاتون
لم يكن لفظ المستضعفين من المصطلحات الاجتماعية الحديثة أو من مبتكرات الثورة الإسلامية المباركة... وإنما هو من الألفاظ الأصيلة في الإسلام، وفي القرآن الكريم، نعم لقد استطاعت الثورة الإسلامية من خلال الحركة الجهادية الكبرى التي أحدثتها في الأمة الإسلامية، أن تعيد إلى هذا اللفظ أصالته التي فقدها فترة من الزمن بفعل مجموعة من الأسباب لسنا الآن بصددها.
على أن القرآن الكريم قد أعطى للمستضعفين أكثر من معنى وبالتالي فإن هناك أكثر من نوع من أنواع المستضعفين.
فهناك نوع قد ذمه القرآن الكريم من خلال قوله عز وجل: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
فهذا النوع هو ذلك الجمع الذي لا يبدى حركة في المجتمع، وقد يطمح إلى أهداف كثيرة ومتنوعة، ولكنه لا يسعى إليها.. وإنما ينتظر التغيير من الخارج.. فهو لا طاقة له على العمل التغييري لأنه يكلفه تكاليف يرى نفسه غير قادر على أدائها... وقد يطلق على هؤلاء في عصرنا أصحاب الأمر الواقع... فإن الواقع بنظرهم يفرض عليهم فرضاً وهم أبناء ذلك الواقع.. فلا مجال أن يغيروه.
وقد يكون سكوت هؤلاء ناتجاً عن خلل عقائدي وهو القول بالجبر... فإنهم مجبرون باعتقادهم على أنهم وجدوا في مجتمع ما.. ومجبرون على أن يكون وليهم هو ذك الحاكم الجائر... ولو كان الله لا يريد لهم ذلك لما خلقهم في ذلك المجتمع، أو لما سلَّط عليهم ذلك الحاكم الجائر.
وهناك نوع آخر هو في الحقيقة خارج البحث، ولكن أطلق عليهم اسم المستضعفين أيضاً فذلك لا بد من أن نعرج عليه، وهذا النوع لم يذمه القرآن ولم يمدحه وإنما كان مستثنى من النوع الأول... وهم الذين قال تعالى عنهم بعدما تقدم من الآيات الكريمة: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾.
فهؤلاء هم بسطاء الناس ممن لا يفقهون معنى للنهوض والتحرك والتغيير وما شابه فهؤلاء لا يعطون حكم النوع الأول... ولكنهم ليسوا صنفاً نموذجياً يقتدى به ويكون أمثولة لغيره.. ولذلك لم يكن لهم حكم واحد ولذلك قال تعالى عنهم: ﴿فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾. فالتغيير بالعفو يوحي بأن هناك إساءة ليأتي بعدها العفو من الله تعالى.
والنوع الثالث هو النوع المشرق للمستضعفين وهم الذين قال تعالى عنهم في القرآن الكريم: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾.
هؤلاء تميزوا عن غيرهم بأنهم أصحاب حركة تغييرية في المجتمع... ولم ينصب عنوان الاستضعاف عليهم من دون إرادة... بل هو ناتج عن أن هناك أقوياء لم يلق هؤلاء المستضعفون إليهم بالمودة ولم يسلموا إليهم الزمام فحاولوا بما يملكون من وسائل قهر وقسرٍ أن يستضعفوهم ويقهروهم.
وهذه الآية المباركة هي التي يشير إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يقول وهو يشير إلى علي والحسن والحسين عليهم السلام فبكى وقال: أنتم المستضعفون بعدي. فسئل الصادق عليه السلام عن معنى ذلك فقال: معناه أنكم الأئمة بعدي، إن الله عز وجل يقول: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ فهذه الآية جاءت فينا إلى يوم القيامة.
ونستخلص من هذه الرواية الشريفة أن الانطباق الحقيقي لقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾هو في ذلك اليوم الذي يخرج فيه رجل من ذرية أولئك الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
ولا شك في أن الأمر الذي يحمله صاحب الزمان أرواحنا لتراب مقدمه الفداء هو أمر في غاية الخطورة والأهمية، ومثل هذا الأمر لا بد أن يكون رواده على درجة عالية من الإيمان ومن الجهاد في سبيل الله تعالى.. وهذا ما لا يتحقق من خلال أن ينتظر هؤلاء الرواد مع المنتظرين خروج القائم بلا أي جهد يذكر للتمهيد، بل لا بد أن يكون هناك جهد كبير من خلاله استحقوا خروج القائم ومن جهة أخرى فإن الميراث الذي سوف يرثه الوارثون مع إمامهم ليس ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً وإنما هو مهمة إلهية تتمثل في حمل الأمانة التي هي إقامة حكم الله على الأرض حتى لا يبقى أي أثر لحكم الظاغوت.
وهذا ما تحمله تلك الفقرة من الآية الكريمة (ونمكن لهم في الأرض)، فإن التمكين في الأرض لا يعني بأي حال هدوءاً في جبهة الممكن لهم وقعوداً لقطف ثمار الانتصار.. وذلك من خلال الاعتماد على إشارات وردت في بعض الروايات التي تصور البركات التي ترافق حركة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.. وقد يفهم منها أنها خاتمة المطاف إلا أن المتتبع لما ورد عن أهل البيت عليهم السلام يخلص إلى أن هذه الدنيا ليست عقوبة ولا ثواباً لمؤمن ولا لكافر.
إن التمكين في الأرض هو مقدمة لعمل كبير يطلب من هؤلاء كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾.
فهذا التكليف الإلهي الذي ينصب على هؤلاء يعطي لظهور الإمام عليه السلام الخلفية الحقيقية... فليس ظهور الإمام مقدمة لراحة وقعود المستضعفين.. وإنما هو مقدمة لعمل جهادي مميز لهم يتسنى لهم فيه من خلال قيادة الإمام أن يحققوا كل الأهداف التي من أجلها خلق الله الإنسان من أجل ذلك أطلق الإمام الخميني قدس سره على اليوم المقترن بمولد المهدي عجل الله فرجه الشريف يوم المستضعفين، لأنه اليوم الذي أتى فيه إلى هذا الوجود ذلك الشخص الذي سيقود حركة المستضعفين الذين ينشدون الحرية والكرامة.. إلى تحقيق الهدف من إقامة الصلاة لتصبح معلماً من معالم المجتمع الإيماني.. إلى إيتاء الزكاة كوجه من وجوه العطاء والجهاد بالمال في سبيل الله إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يعنيه من بذل العطاء والجهاد بالنفس في المرحلة العليا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا شك في أن هذا اليوم هو يوم فرح كبير، لأن حركة المستضعفين لن تتمكن من الوصول إلى أهدافها من دون ذلك الإنسان الذي ادخره الله تعالى ليكون حاملاً لراية المستضعفين.. ومحققاً لأحلام كل الأنبياء والأوصياء والصلحاء على امتداد التاريخ.
إن يوم الإمام المهدي هو يوم قطف ثمار الحركة الجهادية لما مضى تمهيداً لخوض غمار المعركة الفاصلة مع قوى الشر فيما يأتي من الزمان...
ولقد حققت الثورة الإسلامية المباركة على يد الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه... انتصاراً كبيراً للإسلام على الكفر في هذه المرحلة.. وكانت محطة كبيرة في حياة المستضعفين. ولكنه بالمقابل وضع شعوب الأمة الإسلامية في مرحلة متقدمة من مراحل المواجهة مع الاستكبار العالمي.. فمن جهة ننظر إلى الحدث السعيد بانتصار الثورة على أنه ثمرة لمرحلة من الجهاد ضد قوى الشر... ولكننا بالمقابل لا نستطيع أن نضع جانباً أي دور جهادي كبير تتحمله تلك الأمة التي انتصرت في مرحلة من مراحل الجهاد.
على أن هذه الثورة قد أخذت موقعيتها في حياة الأمة الإسلامية.. من أنها تقع في طريق التمهيد لحركة صاحب الزمان أرواحنا فداه.
إن كل تلك العطاءات التي قدمت من أبناء الإمام الخميني (قدس سره) إنما هي مقدمات لذلك اليوم الذي سماه الإمام يوم المستضعفين.
ومن يراقب حجم التضحيات التي قدمت حتى انتصار الثورة على كثرتها، يجد أنها لا تساوي شيئاً أمام حجم التضحيات التي قدمت للمحافظة على الثورة.. وللتمهيد لحركة عالمية للمستضعفين في مواجهة المستكبرين.. وهذا ليس خروجاً على القاعدة بل هو من صلب القاعدة التي نستخلصها من خلال مراقبة كل الحركات التاريخية وعلى اختلاف الأزمنة والأمكنة وهي أن المحافظة على النجاح هو أصعب بكثير من تحقيق النجاح.. فقد يحدث الانتصار بحساب يدخل فيه بعض الظروف... بينما تحقيق الحفاظ عليه يعني تطويع كل الظروف وصيرورة العامل الذاتي هو العامل الفعال في الحركة الجهادية وليس انتظار الظروف هو المطلوب...
... في يوم المستضعفين ترسم معالم انتصار كبير على الأعداء ليس لأنه يعني أن الصراع قد انتهى مع قوى الشر في العالم وآن الأوان للمحارب أن يرتاح.. وإنما يعني أن الصراع قد بدأ يأخذ منحى جديداً وهو دخول المستضعفين قاطبة في حركة الصراع تحت راية الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف