لا شكّ في أنّ موضوع إثبات وجود الله تعالى كان ولا يزال من أكثر المسائل الفكرية والفلسفية حساسية وإثارة للعقل البشري منذ فجر التاريخ وحتّى يومنا هذا، فما كتب حول هذا الموضوع وما ألّف في هذا المضمار لا يرقى إليه بل إلى شيء منه ما كتب وما ألّف في أيّ موضوع آخر على الإطلاق.
إلاّ أنّ الملاحظ أنّ أكثر هذه الكتب والمؤلفات لم تعتنِ بالتفريق بين مختلف الطرق والمناهج التي يمكن من خلالها إثبات وجود الله، حيث كانت تقريرات الأدلّة والبراهين تخلط بين أكثر من منهج وتتداخل في أكثر من طريق ما أدّى إلى بروز بعض الخلل والاضطراب فيها فنفذ من خلالها الملحدون والمشكّكون لبث سمومهم وتضعيف أصل الإيمان بالله والتشكيك بوجوده.
ومن هنا فقد رأى الشهيد مطهري رضي الله عنه في كتابه القيّم (التوحيد) أنّ أوّل خطوة يجب القيام بها هي تحديد الطرق والمناهج وتقسيمها تقسيماً جامعاً وكاملاً مع بيان ميزات كلّ منهج وطريق بشكل واضح ومحدّد لسدّ مثل هذه الثغرات فيقول: "يوجد ثلاث طرق كليّة لإثبات وجود الله عزّ وجل، وكلّ واحد من هذه الطرق الثلاث تام وصحيح، أولها الطريق النفسي أو الفطري، ثمّ الطريق العلمي أو شبه الفلسفي، وأخيراً الطريق الفلسفي" .
ونحن في هذه المقالة سوف نسلّط الضوء على الطريق الأول وهو الطريق الفطري.
* الفطرة وتعريفها:
كثيراً ما نسمع بأنّ الإيمان فطري، وأنّ الإنسان يعبد الله بالفطرة، وهناك الكثيرون – ومنهم مؤمنون بالله – يناقشون في هذا الموضوع ولا يعترفون بفطريته بحجّة عدم كون جميع البشر معتقدين بذلك. فهم يقولون إنّه قد يمكن إثبات وجود الله من طريق آخر أمّا من خلال الفطرة فلا يمكن ذلك.
وللوقوف على حقيقة الأمر لا بدّ أولاً من الرجوع إلى معنى الفطرة ثمّ ولوج باب التحقيق في هذا الطريق. فالأصل اللغوي لكلمة "فطرة" هو الفعل "فطر" وهو بمعنى "خلق" كما قال تعالى: (وجهت نظري للذي فطر السموات والأرض...).
وهي – أيّ فِطرة – على وزن فِعلة وهو مصدر نوعي يبين نوع الفعل وكيفيته، وعليه فيصبح معنى "الفطرة" نوع الخلق وكيفيته، يقول الإمام الخميني قدس سره: "إعلم أنّ المقصود من "فطرة الله" التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس وهم متصفون بها، والتي تعدّ من لوازم وجودهم ولذلك تخمّرت طينتهم بها في أصل الخلق" .
إنّ معنى أن يكون لدى البشر ميل وارتباط فطري، هو أن يكون هذا الميل والارتباط موجود لدى الإنسان بما هو إنسان وفي أصل خلقته. وبتعبيرٍ آخر إنّ خلقة الإنسان هي بنحو أنّه ينجذب نحو هذا الشيء ويرتبط به ويسعى إليه. فلو أخذنا التكوين الجسدي للإنسان على سبيل المثال نجد أنّ الإنسان ينجذب غريزياً نحو الطعام عند الجوع، ونحو الماء عند العطش وهكذا بالنسبة لسائر الحاجات الجسدية. وهذا موجود في أصل خلقة الجسد، وفي المقابل على المستوى الروحي للإنسان نجد أنّ الروح التي هي جوهر الإنسان وتمام حقيقته تنجذب تكوينياً نحو أمور أخرى، نحو العلم والقدرة والخير والجمال وسائر الكمالات المعنوية الرفيعة والقيم الأخلاقية السامية. وبهذا يتضح المقصود من أنّ الإنسان يثبت وجود الله تعالى ويعبده من خلال طريق الفطرة، يقول الشهيد مطهري قدس سره:
"إنّ الإحساس بوجود الله في الإنسان وفي فطرته، وهذا الإحساس يجذب الإنسان نحو الله تعالى" ويضيف قائلاً: "إنّ من يقول بأنّ معرفة الله أمر فطري يريد أن يقول إنّ في وجود الإنسان رغبة من النوع السامي والرفيع وهي الرغبة في العبادة، حيث يرى الإنسان قلبه مرتبطاً ومنجذباً نحو حقيقة ما، فيحب أن يخرج من قفصٍ نفسه" ويتوجّه إلى تلك الحقيقة المقدّسة ليسحبها ويقدّسها ويعرج إليها. إنّ هذه الرغبة الموجودة في قلب الإنسان هي التي جذبته نحو الله تعالى" .
* هل الإيمان بالله أمر مشترك؟
وهنا من البداهة أن يطرح هذا الإشكال وهو أنّه لو كان الإيمان بالله عزّ وجل والارتباط به فطرياً عند البشر لكان من اللازم أن يكون جميع البشر من المؤمنين وأن لا يعرف التاريخ البشري أحداً من الملحدين والمنكرين لوجود الله تبارك وتعالى وهذا خلاف الواقع. فكيف نفسّر إنكار الكثيرين للإيمان بالله والارتباط به؟ ألا يعني ذلك عدم كون هذا الأمر فطرياً؟!
والجواب عن هذه الشبهة يكمن في التفريق بين إنكار شيء ما وعدم وجود هذا الشيء في الواقع، فكم من الأشياء الحقيقية الموجودة في الخارج ولكن ينكرها كثير من الناس. كذلك الارتباط بالله عزّ وجل موجود عند كلّ إنسان وفي أصل خلقته، إلاّ أنّ الملحد إمّا أن يدرك ذلك ويريد أن يخفيه حفاظاً على مصالحه واتباعاً لأهوائه كما يقول تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) وهذا لا كلام معه، وإمّا أنّه غافل عن ارتباطه هذا وغير ملتفت إليه. وهذا إذا رجع إلى نفسه وفطرته وتفكّر فيها قليلاً لا بدّ وأن يلتفت إلى ارتباطه الحقيقي بالله ويرجع إليه.
* ولكن كيف؟
إنّ أيّ إنسان لو رجع إلى نفسه لوجد أنّها تطلب الكمال وتنجذب إليه وترغب عن النقص وتنفر منه. وكون هذا الأمر مشتركاً عند جميع البشر أمرٌ بديهي ولا خلاف فيه. فعلى سبيل المثال يجد الإنسان في نفسه انجذاباً فطرياً نحو العلم، وهذا الشعور يدفعه إلى طلبه وتحصيله. وقد يتصوّر الإنسان بداية أن هذا الميل والانجذاب هو نحو مرتبة معيّنة من العلم، ولكن عندما يسعى لتحصيل هذه المرتبة ويصل إليها يجد نفسه منجذبةً نحو مرتبة أخرى وراغبةً في تحصيلها وهكذا حتّى لا يقف عند حدّ من العلم محدود ولا عدّ من مراتبه معدود، بل يبقى ينفر من أيّ نقص من العلم منجذباً إلى العلم الذي لا نقص منه أبداً أي العلم المطلق، وهكذا على مستوى القدرة، والعاطفة، وسائر أنواع الكمالات والقيم السامية.
إذاً بناءً على فطرة حبّ الكمالات والنفور من النقص يكون الارتباط الفطري الحقيقي للإنسان بالكمال المطلق فقط وهو الله سبحانه وتعالى، والمشكلة عند الإنسان الغافل أنّه نظر إلى ظاهر حاله وليس إلى أعماق فطرته فوقع في الغفلة كما يقول تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) . وهو الآن يتصوّر أنّ هذه المرتبة العلمية وذلك المركز الدنيوي وغير ذلك من الكمالات إلى أقصى آماله، ولكنّه عندما يحصل على هذه المراتب فإذا به يسعى إلى ما هو أعلى منها وهذا دليل على أنّ الفطرة لا يرضيها إلاّ المطلق من كلّ كمال وهو الله عزّ وجل.
يقول الإمام الخميني قدس سره:
"إنّ قلوب جميع أبناء البشر [حتّى الماديين والطبيعيين] تتوجّه بالفطرة إلى الكمال الذي لا نقص فيه فهم يعشقون الكمال الذي لا عيب فيه ولا كمال بعده والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز عن شيء، والحياة التي لا موت فيها. أي أنّ الكمال المطلق هو معشوق الجميع .. وليس هو الله تقدّست أسماؤه" .
بل يمكن القول إنّه بحسب هذه الفطرة التي خُصّ بها الإنسان لا يمكن لأيّ إنسان إلاّ وأن يتوجّه إلى الله عزّ وجل وهذا أمر حتم لا محيد عنه، فالغفلة ليست عن أصل التوبة والعبادة لله فالعبادة موجودة على كلّ حال ولكن الاشتباه يقع في المصداق. إشارةً إلى ذلك كما في بعض التفاسير حيث فُسّر القضاء هنا بالقضاء التكويني الذي لا محيد عنه. وفي مضمون بعض الروايات عن ابن عبّاس أنّ عابد الوثن يعبد الله من حيث لا يعلم. ففطرته تجذبه نحو الله وهو يعبد الله ولكن يشتبه عليه المصداق فيتصوّر أنّ معبوده هذا الوثن أو ذاك. يقول الإمام الخميني قدس سره بعد أن يبيّن أنّ الأمور الفطرية ومنها فطرة عبادة الله لا يمكن أن يبدلها أو يغيرها شيء:
"ولكن ممّا يثير الدهشة والعجب أنّه على الرغم من عدم وجود أيّ خلاف في الأمور الفطرية، من أول العالم إلى آخره، فإنّ الناس يكادون أن يكونوا غافلين عن أنّهم متفقون ويظنون أنّهم مختلفون ما لم ينبهّهم أحد غلى ذلك، وعند ذلك يدركون أنّهم كانوا متفقين رغم اختلافهم في الظاهر. وهذا ما تشير إليه الجملة الأخيرة من الآية الشريفة: ولكن أكثر الناس لا يعلمون" .
* رأي العلم الحديث:
يبقى استفهام أخير حول هذا الموضوع وهو: كيف يمكن أن يجتمع رواد العلم الحديث على إنكار مسألة بمثل هذه الأهمية والوضوح والبداهة؟ فهل جميعهم مكابرون لا يريدون إظهار حقيقة الأمر أم غافلون لم يلتفتوا إليه؟! وهل يُعقل ذلك؟!
في الواقع إنّ طرح السؤال بهذا الشكل فيه مغالطة كبيرة، إذ أنّه يوحي بأنّ الأكثرية الساحقة من علماء العصر لا تعتقد بفطرية التدين ولا الإيمان بالله والارتباط به، وهذا ما كان الماديّون يحاولون الإيحاء به في حواراتهم وكتاباتهم المتعدّدة، ولكن الواقع خلاف ذلك كلياً. يقول الشهيد مطهّري قدس سره:
"ليس الأمر أنّ العلماء في العصر الحديث (الفلاسفة وعلماء النفس) لا يعتقدون بفطرية التدين، ولا أدّعي أنّهم جميعاً مطبقون على القول بفطريته، ولكن يمكن القول بكلّ تأكيد إنّ هناك على الأقل الكثير الكثير من النظريات الرصينة والمتينة للكثير من المحقّقين من الفلاسفة وعلماء النفس تؤيّد وجود الإحساس الأصيل بعبادة الله والتدين لدى الإنسان" ثم ينبري قدس سره لذكر أقوال عدد من كبار الفلاسفة وعلماء النفس حول الموضوع من أمثال أنشتاين وكارل وجيمز وغيرهم.
فعلى سبيل المثال العالم النفساني (يونك) أحد مشاهير تلامذة فرويد يؤيّد أستاذه بوجود شعور باطني لدى الإنسان مغفول عنه. ولكنّه يرفض القول بأنّ كلّ الشعور الباطني مطرود من الجانب الواعي لدى الإنسان، فهناك بعض من الشعور الباطني أصيل ومرغوب به وينجذب إليه الإنسان، غاية الأمر أنّه دفين وغائر في أعماق النفس ويعتبر الإيمان بالله من هذا النوع.
وينقل الشهيد مطهري قدس سره عن العالم النفسي والفيلسوف الأمريكي المعروف وليام جيمز عن كتابه (الدين والروح) قوله: "على الرغم من أنّه كثيراً ما يكون الدافع والمحرّك لميولنا ورغباتنا من هذا العالم الطبيعي، إلاّ أنّ ميولنا ورغباتنا في الغالب هي نحو عالم ما وراء الطبيعة". وكان يعتقد أنّ جذور الدين ضاربة في صميم قلب الإنسان وأعماق روحه ويقول: "إنّ القوانين والدساتير العملية في الفلسفة والعلوم الإلهية مثل المطالب المترجمة والتي أصولها في لغة أخرى"، ويعلق الشهيد مطهري على هذا الكلام قائلاً:
"وهذا كلام متين للغاية، فهو يريد أن يقول بأنّ الفلسفة والعلوم الإلهية وغيرها لم يأتيا بالدين، بل الأصل الأساسي الذي جاء بالدين هو الشعور والإحساس الديني، ومَثَلُ بيانات الفلاسفة والمتكلمين عن الدين مَثَلُ كتاب ترجم من لغة إلى لغة أخرى. لأنّ الذي جاء بهذه البيانات في الواقع هو قلب البشر وفطرة البشر" .
وهناك الكثير من علماء النفس والفلاسفة لديهم نفس هذه الآراء والنظريات حول أصالة التدين عن الإنسان تركناها خشية الأطناب ولكفاية ما ذكر عن هذين العالمين الكبيرين.