السيد عباس نور الدين
وإذا علم معنى التكبير إجمالاً، واتضح أنّه تنزيه عن التوصيف والإحاطة، وإشارة خفية إلى الذات التي لا إسم لها ولا رسم، وإنّ العبادات كلّها تقوم على أساسه، فلندخل إلى الحديث عن بعض آداب التكبير في خصوص الأذان الذي هو إعلان الحضور والورود في محضر الحقّ الربوبي.
إنّ معرفة الله سبحانه التي هي غاية وجود الإنسان ترتبط بوجود هذا الإنسان وسلوكه. لكنّ المطلوب فيها رتبةٌ، بها ينال الإنسان كماله. إذ أنّ كلّ الناس يعرفونه، ولكن القليل منهم من يعرفه حقّ المعرفة. فمنهم من يعرف بآثاره، وبعبارة أخرى لا يعرفون منه إلاّ آثاره، وقد نظروا إلى هذه الآثار نظرة استقلال فأضحت حجباً بينهم وبين الحقّ سبحانه.
ومنهم من يستدلّ بآثاره عليه. وهؤلاء يتفاوتون فيما بينهم بسبب تفاوتهم في إدراك الآثار، وأفضلهم من يستدلّ بآثاره على صفاته الإطلاقية.
وقد جعل الله سبحانه هذا العالم بكلّ ما فيه آية تتضمّن ما لا يحصى من الآيات التي تدلّ على عظمته التي لا حدّ لها. هذه العظمة التي تظهر في كمالات مختلفة كالعلم والقدرة. والذين يعرفون الله بصفاته يسيرون في رحاب صفاته وأسمائه حتّى إذا بلغوا الدرجة العليا في المعرفة المشار إليها هنا اطّلعوا على العظمة التي تظهر فيها كلّ الكمالات دفعة واحدة.
وعندما يستغرقون في سبحات أنوار هذه المعرفة يصبحون مستعدين لإدراك كلّ كمال وجمال، وربّما يطلبون الرؤية: (أرني أنظر إليك)، فيأتي الجواب: (لن تراني)، ويتفوهون بمعدن الحقيقة: "إلهي ما عرفناك حقّ معرفتك"، وينشدون: "ولم يجعل طريقاً إلى معرفته إلاّ بالعجز عن معرفته" (الصحيفة السجادية).
وهم يقولون: "وكمال الإخلاص له نفس الصفات عنه".
فإدراك العظمة اللامتناهية للحق سبحانه، والتي تجمع كلّ كمال وجمال، يوصل العارف إلى مقام الاعتراف بالعجز التام عن إدراك كنه الذات ويخرّ صعقاً من ذلك التجلّي. حتّى إذا استفاق يترنّم قائلاً – والقائل غيره – "إنّي تبت إليك وإنّي أول المؤمنين".
وللعرفاء اصطلاحات تشير إلى هذه المراتب. مثل قولهم حضرة الواحدية والاسم الأعظم ومقام الأحدية وغيرها. وإنّما أرادوا بمثل هذه التعابير تقريب المعاني العميقة إلى الأذهان المستعدّة للقومة من سبات الغفلة في سجن الطبيعة.
ولعلّ تكرار التكبير في بداية الأذان أربعاً يشير إلى هذه المراحل الأربع التي يعبرها السالك للوفود إلى محضر الحق. فالتكبير الأول هو تنزيه الحق عن مجانسة مخلوقاته. والثاني تنزيهه عن محدودية صفاته. والثالث تنزيهه عن تفرق صفاته وأسمائه، والأخير تنزيهه عن الوصف حتّى بصفاته. كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "الله أكبر من أن يوصف".
ويذكر الإمام وجهين للتكبير في الأذان. الأول: أن "السالك يتوجه في بدء الأمر إلى كبرياء الذات المقدّسة على حسب تجليها بالاسم الأعظم الذي هو مقام أحدية جمع الأسماء في الحضرة الواحدية، ومقام التجلّي بالجمع والتفريق والظهور والبطون في حضرات الأعيان والأسماء العينية فيعلن عظمتها وكبرياءها أولاً على قوى مملكة نفسه الملكوتية والملكية. وثانياً على ملائكة الله الموكلة بملكوت السماوات والأرضين، أي أنّه يعلن على حسب التكبيرات الأربعة كبرياء الاسم الأعظم على جميع سكنة عوالم الغيب والشهادة في المملكة الداخلية والخارجية".
ويقصد الإمام (قدس سرّه) بسكان عوالم الغيب الداخلية قوى الإنسان الملكوتية، أمّا الخارجية فهي الملائكة، ويقصد بسكان عوالم الشهادة الداخلية ملكه (أي أعضاءه وجوارحه)، والخارجية هم سكّان العالم المحيطين بنا. فكلّ تكبير متوجّه إلى أحد أنواع هؤلاء السكنة. فإذا كبّر التكبير الأول أعلن لباطن نفسه وملكوته أنّ الله أكبر من أن يوصف. ثمّ يعلن هذا التقصير لظاهر نفسه وملكه. وبعدها ينتقل إلى الملائكة وأهل عوالم الغيب. وفي التكبير الرابع يعلن للملأ من سكان عالم الناسوت والشهادة. وقد تكون كلّ تكبيرة متضمّنة لهذه المراتب والله أعلم.
فهو في كلّ تكبيرة يعلن عن عجزه عن القيام بالثناء على الذات المقدّسة وكأنّه يقول: "لا أحصي ثناءً عليك انت كما وصفت نفسك".
وأرجو من قارئي العزيز أن يلتفت إلى أنّ مدار جميع هذه الأفكار هو غير الألفاظ والمصطلحات، بل المعاني والمعرفة الحقيقية.
وحول هذا الأمر يقول الإمام (قدس الله أسراره):
"وهذا الأمر من الأمور الشاملة في السلوك والآداب المحيطة على الثناء والعبادة ولا بدّ أن يكون في جميع أحوال الصلاة نصب عين السالك. ولهذا يكرّر في الأذان والإقامة، ويكرّرها دائماً في الصلاة ويُعاد في حال الانتقال من حال إلى حال حتّى يتمكّن في قلب السالك القصور الذاتي لنفسه والعظمة والكبرياء للذات المقدّسة" (الآداب المعنوية/ص 249).
أمّا الوجه الآخر الذي ذكره الإمام في كتابه الشريف حول بعض أسرار التكبير في الأذان فهو:
"أن يكون كلّ تكبير إشارة إلى مقام، فالتكبيرة الأولى إشارة إلى التكبير عن التوصيف ذاتاً، والثانية إلى التكبير عن التوصيف وصفاً، والثالثة إلى التكبير عن التوصيف إسماً، والرابعة إلى التكبير عن التوصيف فعلاً، فكأنّ السالك يقول الله أكبر من أن توصف ذاته أو تجليات ذاته والله أكبر من أن توصف صفاته وأسماؤه وأفعاله أو تجلياته بحسبها".
وفيه معاني أخرى للتنزيه عن الوصف. وهو إعلان العجز عن إدراك كنه الموجودات كافة، بل كنه الوجود. فإنّ الإنسان يعجز عن إدراك كنه المخلوقات التي هي مظاهر وتجليات أفعال الله وصفاته. فكيف يقدر على إدراك ذاته حتّى تكون محلاً لوصفه. وفي حديث طويل عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: "والوجه الآخر لله أكبر فيه نفي كيفيته كأنّه يقول – أي المؤذن – الله أجلّ من أن يدرك الواصفون قدر صفته التي هي موصوف بها، وإنّما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته وجلاله، تعالى الله عن أن يدرك الواصفون صفته علواً كبيراً".
ومن كلام له (عليه السلام): ".. كيف يقدر على وصف خالقه من يعجز عن وصف مخلوقاته..".
* آداب التكبير:
يقول الإمام قدس سره:
"ومن الآداب المهمّة للتكبير أنّ على السالك أن يجاهد ليجعل قلبه محلاً لكبرياء الحق (جلّ جلاله) بالرياضات القلبية، ويحصر كبر الشأن والعظمة والسلطان والجلال بذات الحقّ المقدّسة (جلّ وعلا)، ويسلب الكبرياء عن سائر الموجودات..".
وإذا فهم السالك معاني التكبير وعرف المقصود منها في كلّ الأحوال العبادية، فعليه أن يراعي آداب هذه المعرفة في عباداته حتّى تسري من قلبه إلى حاله ومن حاله إلى قلبه، ليصبح القلب سليماً وليس فيه أحد سوى صاحبه الأصلي. قال الله تعالى: (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم).
وتتحول العبادات إلى رياضات قلبية فيما إذا توجّه السالك أثناءها إلى شروطها وآدابها القلبية وقام برعايتها حقّ رعايتها. فبعد القيام بالفعل الجوارحي عليه أن يتوجّه إلى معانيه وأسراره ويراعي آدابه بالتوجه إلى تلك المعاني باستمرار. ومع التكرار تسري المعاني إلى القلب ويصبح القلب ذاكراً بحقيقة الذكر.
ويشير الإمام إلى الطريقة التي ينبغي اتباعها في التوجّه إلى حقيقة التكبير قائلاً:
"فمن آداب التكبير هو أن لا يتوقّف السالك على صورته ولا يكتفي بالتلفّظ به ولقلقة اللسان، بل ينبه القلب في أول الأمر بقوة البرهان ونور العلوم الإلهية إلى كبرياء الحق وأنّ العظمة والجلال مقصورة على الذات المقدّسة جلّت عظمتها، وإلى فقر كلّ سكان عالم الإمكان وقاطبة الموجودات الجسمانية والروحانية وذلتها ومسكنتها، وبعد ذلك فبقوة الرياضة وكثرة المراودة والأنس التام يحيي قلبه بهذه اللطيفة الإلهية ويعطيه السعادة والحياة العقلية والروحانية".
فإذا عبر مرحلة اللفظ والظاهر، عليه أن يتوغّل من خلال العلوم الإلهية والبراهين العقلية في معاني كبرياء الحق وفقر الممكنات وذلتها، وأن يستحضر هذه المعاني في عباداته حتّى يصل الأمر إلى مقام القلب، فلا يبقى فيه إلاّ كبرياء الحق (جلّ جلاله). وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:
"إذا كبرت فاستصغر ما بين العلا والثرى دون كبريائه، فإنّ الله إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال: يا كاذت أتخدعني، وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ولأحجبنّك عن قربي والمسارة بمناجاتي".
ومن الملاحظ في كلام الإمام أنّ الوصول إلى مقام القلب لا يتمّ إلاّ بعد عبور مرحلة البرهان والعلم المشفوع بالعبادة. وقد أشرنا في سالف ما مضى إلى هذا المنهج الأساسي في عرفان الإمام (قدس سره الشريف).
* الموانع:
يقول الإمام قدس سره:
"وإذا كان في القلب أثر من كبرياء أحد لا يُراه ولا يعلمه شعاع كبرياء الحق فهو قلب مريض ومعلول، ومورد تصرف الشيطان، وربما تكون التصرفات الشيطانية سبباً لأن يكون سلطان الكبرياء لغير الحقّ في القلب أكثر من الحق...".
إنّ معنى التكبير – كما ذكر الإمام – هو حصر الكبرياء بالله ونفيه عمّن سواه. فالوجود واحد لا شريك له وهو لله (جلّ جلاله)، وكلّ ما عداه مظهر وجوده المقدّس. ولا ينازعه فيه أحد. ونحن الذين نتوهّم أنّنا نشترك معه في الوجود (سبحانه عمّا يصفون). وقد أثبت الحكماء المتألهون والمحقّقون الشامخون هذه الوحدة الحقّة الحقيقية المعبّر عنها بالكبرياء لا ينازعه فيه أحد.
والإمام يبيّن أنّ الشيطان الرجيم يتصرّف في أوهامنا ويدخل إلى عقولنا فنظن أنّ لغير الله وجود مقابله، ولهذا ينبغي الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيل.
ثمّ يقول الإمام:
"... وقد حجبنا الإخلاد إلى الأرض والاحتجاب بالحجب المظلمة للطبيعة عن معرفة كبرياء الحق وأنوار الجمال والجلال..".
ويقول قدس سره:
".. ففي هذه الصورة يكون الإنسان محسوباً في زمرة المنافقين، وعلامة هذا المرض المهلك أنّ الإنسان يقدم رضا المخلوق على رضا الخالق...".
وتكون نتيجة هذا الاحتجاب:
".. وما دمنا نرى لأحد في عالم الوجود العزّة والكبرياء والعظمة والجلال، ونحن في حجاب أصنام التعينات الخلقية، فلا يتجلّى سلطان كبرياء الحق (جلّ وعلا) في قلوبنا".
* ثمار التكبّر:
بعد أن تعرّفنا إلى معاني التكبير، وذكرنا أهم شروطه المعنوية وآدابه وعرفنا موانعه وعلاماته والآثار السلبية لهذه الموانع، نذكر الآثار الطيبة للتكبير بعد المجاهدة والتلقين، حيث يقول الإمام (قدس سره):
"فإذا صار فقر الممكن وذلته، وعظمة الحق وكبرياؤه (جلت قدرته) نصب عين السالك، ووصل التفكّر والتذكّر إلى حدّ النصاب، وحصل للقلب الأنس والسكينة فيشاهد بعين البصيرة آثار جلال الحق وكبريائه في جميع الموجودات، وتعالج العلل والأمراض القلبية، فيجد لذة المناجاة وحلاوة ذكر الله ويصير القلب مقراً لسلطان كبرياء الحق (جلّ جلاله)، وتظهر آثار الكبرياء في ظاهر المملكة وباطنها، ويوافق القلب واللسان والسر والعلن، فتكبر جميع قوى الباطن والظاهر والملك والملكوت ويرتفع أحد الحجب الغليظة، ويقترب السالك مرحلة إلى حقيقة الصلاة التي هي معراج القرب".
فالشهود وحلاوة ذكر الله ولذة مناجاته والاقتراب من حقيقة الصلاة، كلّ هذه من آثار التكبير الذي يؤديه السالك بالمجاهدة والرياضة القلبية. ولا ننسى أثراً مهماً له وهو علاج الأمراض القلبية. فإنّ جميع أمراض القلب من الرياء والعجب والحسد والكبر والنفاق وغيرها تنشأ بسبب رؤية غير الحق في مظهر الكبرياء ورؤية النفس. أمّا إذا حصر السالك كلّ مراتب العظمة لله وعلم حقيقة فقر الموجودات الإمكانية وذلتها، فلا يتعلّق قلبه بغير الحقّ سبحانه ويشفى من جميع الأمراض. والله الموفق.