بقلم: الشيخ نعيم قاسم(*)
1 - السياسة والعبادة:
السياسة من فعل ساس، وساس القوم أي تولى أمرهم، والسياسة: استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل أو الآجل، وهي أيضاً من الحكم لإدارة أعمال الدولة كما ورد في المنجد وعليه فالسياسة هي كل اهتمام بالشؤون العامة للناس وطريقة متابعتها وإدارتها سواء تمثل بالموقف من القضايا المصيرية أو الداخلية التفصيلية أو المسائل الاجتماعية والاقتصادية أو غير ذلك.
العبادة من فعل عبدَ، وعبد الله أي وحَّده وخضع له وأطاعه، وفي الآية الكريمة: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ ، فالعبادة بالمعنى العام هي الطاعة لله في كل أوامره ونواهيه التي تشمل كل شؤون الحياة، وقد أطلقت لفظة العبادات على بعض الأوامر التي يشترط فيها تفاصيل معينة مع نية القربة إلى الله تعالى كالصلاة والصوم والخمس والحج... والتبس الأمر على البعض فاعتبر أن العبادة لله تقتصر على هذه العبادات ولكنها أعم كما تقدم.
وغني عن القول أن قمة التعبير عن العمل السياسي هو الحكم وإقامة الدولة، وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تحث على الحكم بما أنزل الله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، وحدد كيفية أداء الحكم إذ ليس المطلوب مجرد السلطة بل السلطة بالعدل ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وعندما تربط الولاية بالله تعالى فهذا تعزيز للانقياد في جميع الشؤون لإرادة الله، بل هو خط يميز المؤمن عن غيره، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أما بعد، فإن الله تعالى بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته، ومن عهود عباده إلى عهوده، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته".
وينسحب الأمر إلى ولاية أولياء الله ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾. ويقول الإمام الباقر عليه السلام: "أما لو أن رجلاً قام ليلة وصلى نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان".
2 - العبادات:
ولو نظرنا إلى العبادات بالمعنى الأخص لوجدنا التداخل الواضح للشؤون السياسية فيها فمن شروط صحة الجمعة الخطبتان، "وينبغي للإمام الخطيب أن يذكر في ضمن خطبته ما هو من مصالح المسلمين في دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما جرى في بلاد المسلمين وغيرها من الأحوال التي لهم فيها المضرة أو المنفعة، وما يحتاج المسلمون إليه في المعاش والمعاد، والأمور السياسية والاقتصادية مما هي دخيلة في استقلالهم وكيانهم وكيفية معاملتهم مع سائر الملل، والتحذير من تدخل الدول الظالمة المستعمرة في أمورهم... فمن توهم أن الدين منفك عن السياسة فهو جاهل لم يعرف الإسلام ولا السياسة" (الإمام الخميني).
والحج فيه هذا الاجتماع العالمي للمسلمين "ليشهدوا منافع لهم" وليتداولوا في شؤونهم، ويعقدوا المؤتمرات، ويتعاونوا فيما بينهم، وليعلنوا البراءة من المشركين، وليرجموا الشياطين مستحضرين كل أداء شيطاني في كل حياتهم.
والخمس فيه قوة اقتصادية تصرف على شؤون المسلمين وفي سبيل الله الذي يتسع إلى بناء المدارس والمستشفيات والدعم العسكري لمقاومة الاحتلال وتقوية شوكة المسلمين في مواجهة أعدائهم، وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي يغني عن الانصياع للحاكم الظالم أو لأصحاب الأموال، وكم عمت هذه القوة الاقتصادية حوزاتنا الدينية في تحقيق الاكتفاء الذاتي للعمل الإسلامي، وقطع يد الحكام عن التدخل في شؤونها وتوجيه خططها.
وما قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا رهبانية في الإسلام" إلا التعبير العملي عن رفض الانزواء والانعزال عن الحياة ولو كان العنوان عبادياً، لأن المطلوب هو الاستعانة بالعبادة لتحويل مسار حياتنا نحو الطاعة لله "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، والتلازم بين العبادات وآثارها هو الذي يكشف صحة أدائها، إذ يمكن أداء العبادات بأشكالها الظاهرية دون تأثير وهذا خلاف المطلوب.
3 - تجربة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام:
أما لو استعرضنا تجربة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهي واضحة تماماً في معالمها العبادية السياسية، ففي مكة المكرمة رفض الشرك ونظام العلاقات الاجتماعي والسياسي وقال للناس "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ورفض عروض المشركين للتنازل والمساومة ﴿ِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ... وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ وفي المدينة المنورة أقام دولة الإسلام على أساس الأحكام الإلهية في كل مفردات الحياة، وخاض حروباً ضد المشركين لحماية الدولة ومنطلقاتها، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المبشر والنذير والداعي إلى الله وهو المصلي والصائم والعابد وهو الحاكم وقائد الجيش والمشرف على العلاقات الاجتماعية...
أما أمير المؤمنين علي عليه السلام فقد تصدى للحكم بعد إبعاده عنه للقيام بمسؤوليته الشرعية في الحكم بما أنزل الله بين الناس، وهو الذي أجاب طلحة والزبير عندما عتبا عليه لعدم مشورتهما في موقفه: "والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فأتبعته، وما استن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتديته". واشتهر الأمير أثناء حكمه بعدله وعزل الولاة الظلمة وصحح الصورة التي كادت أن تتشوه عن الممارسات الإسلامية ودور الحاكم فيها.
وثورة الإمام الحسين عليه السلام تصدح عبر الأجيال معلمة ومربية لهم، بأهدافها وتضحياتها ونتائجها، ولم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة لأمر شخصي، إنما رفضٌ للبيعة للحاكم الظالم "ويزيد فاسق فاجر شارب للخمر قاتل النفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله، ولا بدَّ من التعبير العملي عن استمرار الرفض وشحذ الهمم والتعاون مع المسلمين لتشكيل نواة المواجهة الاجتماعية السياسية للحاكم الظالم فكان الخروج "لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". وقد أثبت الموقف الحسيني الذي بلغ قمة التضحية، أن العمل لمصلحة الأمة وتحقيق شريعة الله المقدسة ببقائها في حياة الناس وخاصة على مستوى الحكم هو من الأمور الواجبة الأساسية الذي تهون من أجله كل التضحيات. ورسم معلماً واضحاً للأجيال في وجوب التصدي السياسي وتقويم الانحراف وحماية مصالح الأمة، ولا يكفي التحرك الفردي الضيق في الحياة اليومية إصلاح الأفراد بل لا بدَّ أن يطال كل مواقع الحياة ومفرداتها.
4 - الفصل فكرة غربية:
بعد الذي قدمناه يتضح أن "عبادتنا عين سياستنا، وسياستنا عين عبادتنا" كما قال الإمام الخميني قدس سره وأن لا فصل بين الدين والسياسة، فديننا يدعونا إلى الاهتمام بشؤون الناس وسياستنا لا بدَّ أن تهتدي بضوابط شريعتنا المقدسة.
ولكن ينبري البعض ليدعو إلى "فصل الدين عن الدولة" وهذا يختزن في معناه فصل الدين عن السياسة وعن الحياة العامة للناس، وحصر الحديث الديني والموقف الديني والأداء الديني في داخل المعابد والكنائس والمساجد، واعتبار الشؤون السياسية من مهمة رجال السياسة وعامة الشعب والعلمانيين فيتكون في المجتمع طرفان كل واحد منهما معزول عن الآخر: طرف ديني وطرف علماني، وإذا كانت للمؤمنين علاقة بالسياسة فمن خلال السياسيين العلمانيين، وإذا كانت لسياسيين علاقة بالدين فهي تقتصر على بعض الطقوس الشكلية في المناسبات أو بشكل خاص.
والواقع أن فكرة "فصل الدين عن الدولة" قد انطلقت من الغرب المسيحي، الذي عانى من تدخل رجال الدين في شؤون الحكم في أوروبا، وشكلوا طبقة مميزة تحكم باسم التعيين الإلهي، لكن كل القوانين التي اعتمدوا عليها هي قوانين وضعية وضعها الإنسان، لأن المسيحية تعتمد على الإنجيل ككتاب سماوي وهو يركز على التربية الروحية ولا علاقة له أبداً بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعندما حكم رجال الدين في أوروبا إنما حكموا كأفراد مستفيدين من موقعهم الديني ولم يحكموا بالتعاليم الدينية لأن الإنجيل لا يتضمن نظام الحكم، وفكرة فصل الدين عن الدولة صحيحة بالمنظار المسيحي، ولذا كثيراً ما يكرر رجال الكنيسة رفضهم لزجهم في المسائل السياسية ويقولون بأنها من اختصاص الزمنيين السياسيين وليست من اختصاص رجال الدين الروحانيين.
لكن الأمر يختلف تماماً بالنسبة للإسلام، لأنه دين ودولة، وفيه كل الأحكام والقواعد للشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفردية... وآيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومواقفه ومواقف الأئمة عليه السلام تثبت هذه المقولة نظرياً وعملياً، وعليه يمكن إضافة تعبير يصحح الفكرة لتصبح: "فصل الدين المسيحي عن الدولة"، أما بالنسبة للإسلام فهو براء من هذه الفكرة، بل يحرم العمل بها والترويج لها والدعوة إليها لأنه يدعو إلى "دمج الدين الإسلامي بالدولة" واختيار نظام الحكم المنسجم مع أحكام الشريعة المقدسة.
5 - ماذا يريدون في لبنان؟
لكن لماذا كثر الحديث عنها في لبنان في الآونة الأخيرة؟ ولماذا الإصرار على تثبيتها كمفهوم يسلم به الجميع؟
من المعلوم أن المد الإسلامي قد اتسع كثيراً في لبنان وخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، وتأثير قيادة الإمام الخميني قدس سره على العالم الإسلامي ومنه لبنان، وكذا التأثير المباشر لحزب الله وكل العالمين للإسلام في إيجاد أوسع شريحة منظمة ومترابطة وشعبية في الحياة السياسية اللبنانية. وقد توفقنا لإعطاء تجربة عن الممارسة الإسلامية فاجأت الجميع، سواء على مستوى المقاومة الإسلامية التي أثبتت مصداقية وحضوراً وتأثيراً على مسار الأحداث في المنطقة على الرغم من الثقل العالمي إلى جانب "إسرائيل". أو على مستوى الحضور السياسي والاجتماعي الذي أثبت انفتاحاً وإيجابية وابتعاداً عن الإكراه، وحيوية كبرى في النشاط والتأثير في معادلة الداخل. وخاف المسؤولون والمعادون أن يتم التعاطي مع هذه الصورة الإسلامية الإيجابية بواقعية وتجاوب، ومع سير الإسلاميين بعكس التيار الدولي فإن نموهم لافت وخاصة في بلد طائفي معقد كلبنان لذا كان لا بدّ من شن حملة ثقافية وسياسية منظمة، واستيراد عبارات ومواقف جاهزة ومعلبة للضغط وإيقاف تأثير التيار الإسلامي.
من هنا يجب التصدي لهذه الفكرة من عدة وجوه:
1 - إن فصل الدين عن الدولة يعني المسيحية لخصوصيتها نظرياً وعملياً ولا يعني الإسلام.
2 - أثبتت التجربة أن الحركة السياسية لحزب الله والإسلاميين انعكست إيجاباً على الساحة اللبنانية ولم تؤد إلى أي عمل طائفي أو عصبوي، بل عززت الحياة السياسية والسلم الأهلي، وأثرت أيضاً في جمع اللبنانيين حول شرف وعز المقاومة الإسلامية للاحتلال الإسرائيلي لتعزز قوة لبنان واستقلاله.
3 - إن مجرد القبول بهذه الفكرة يعني إسقاط كل المشروع الإسلامي الذي نحمله، والتركيز عليها في الإعلام ومن خلال بعض المسؤولين لنسلم معهم بها وعندها فلا معنى لكل حضورنا وعملنا وهذا جزء من الضغط الإعلامي والنفسي لإسقاطنا وإسقاط مشروعنا.
4 - إن الادعاء بضرورة إلغاء كل طرح ديني من أي طرف كان ليرتاح لبنان واللبنانيون غير صحيح، لأن المشكلة لم تكن يوماً من الدين والاستقامة بل كانت من قلة الدين والطائفية، ونحن نميز بين الإسلام والطائفية، وندعو إلى الإسلام وننبذ الطائفية بل ندعو إلى إلغائها من الحياة السياسية ونظام المحاصصة، ولو أحصينا كل الجهات والأفراد الذين أساؤوا إلى هذا البلد، لوجدناهم أساؤوا من موقع طائفي سياسي له علاقة بالتجاذبات الإقليمية والدولية ولم تكن الإساءة من الموقع الديني الصحيح.
5 - لا توجد أي فكرة تجمع الناس ولا يستطيع أحد الادعاء بأنه توفيقي، إذا كلما أتت جهة أو فرد بفكرة جديدة تحت عنوان التوحيد والجمع، نرى الفكرة قد زادت البلد شرذمة جديدة. والقيمة دائماً للفكرة الصحيحة التي تؤثر في الناس وتؤطرهم حولها، وقد وجدنا أن طرحنا الإسلامي قد حقق إنجازات كبيرة على هذا الصعيد.
6 - كلما ازداد صراخهم ضدنا فهذا يعني زيادة تأثيرنا وهذا يشجعنا للاستمرار والتوكل على الله جلَّ وعلاَّ "ومن يتوكل على الله فهو حسبه".
(*) نائب الأمين العام لحزب الله