بقلم: الشيخ محمد يزبك(*)
قبل الخوض بالحديث عن ولاية الفقيه التي أصبحت مُعرفة بالإمام الخميني قدس سره في عصرنا الحاضر لا بد من الاشارة إلى عدة أمور:
* الأول ـ كمال الإنسان كما يعرضه القرآن الكريم:
القرآن الكريم يعرض أن كمال الإنسان ببلوغه مقام العبودية الصرفة لله تعالى وذلك لأن كمال أي موجود يتمثل بحركته على أساس نظامه التكويني والإنسان الضعيف، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير﴾ُ (الروم: 54).
وضعف الإنسان يتجسد بفقره الذاتي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ (فاطر: 15 ـ 17). هذا الفقر الذاتي يدفعه إلى معرفة للسير بحركته على أساس نظامه التكويني لعجزه عن إدراك كنه ذلك من دون إرشاد وهداية يظهر من خلالها حقيقة الإنسان والكون وطبيعة العلاقة فيما بينهما، فإذا وفق الإنسان لمقام العبودية لله تعالى وآمن بولايته ومولويته المطلقة التي لا يحدها حد فسوف يبلغ أفضل صيغ الكمال. ونرى أن القرآن الكريم أشار إلى أن الله تعالى أنزل الكتاب على عبده ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا﴾ (الكهف: 1). والإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بعبده ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ (النجم: 10). هذه البركات وهذا التشريف الإلهي كان ببركة هذه العبودية، والمعارف والعلوم التي يمن الله تعالى بها على عباده لا تختص بعلوم الشريعة وعلوم الظاهر بل مقام العبودية يشمل حتى أولئك الذين حظوا بالعلوم الولائية ويحكمون على أساس الباطن وينتهجون سبيل الخضر عليه السلام، قال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ (الكهف: 65). وقد أمر موسى الكليم عليه السلام أن يستفيد من عبد من خواص عبيد الله له جهة ارتباط بالعلم اللدني ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ (الكهف: 66).
فمقام العبودية من أهم المقامات التي يبلغ بها أفضل صيغ الكمال، واستحقاق العبودية منحصر بالذات الإلهية المقدسة (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) (الإسراء: 23) فلا معبود سواه ولا يحق لأحد أن يعبد إلا الله تعالى.
* الثاني ـ ولاية الله تعالى وولاية أوليائه:
إن الإنسان المخلوق العبد لله تعالى فعبادته وولايته منحصرة ضرورة بالله تعالى ولا ولي للإنسان سواه سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162). ويقول تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الشورى: 9). ومن هنا فما ثبت من ولاية للنبي والأئمة (عليهم السلام) من خلال قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55). وأيضاً بالنسبة لولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾ (الأحزاب: 6). وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب: 36). فالولاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة (عليهم السلام) عارضة عليهم من قبل الله تعالى وهي في نفس الوقت علامة على ولاية الذات الإلهية المقدسة فإن أولياء الله تعالى آيات الولاية الإلهية يشيرون إلى الأوصاف الإلهية في حين أن الآخرين مُظلمون لا يشيرون إلى الكمال الأسمى لا وصفاً ولا فعلاً.
والعلامة الطباطبائي قدس سره كان يكرر كثيراً: ما يذهب إليه الدين من أن ليس ثمة موجود إلا وهو آية الحق وهذا تعبير دقيق جداً فما دام هو آية للحق فلا استقلال له في نفسه ولو كان له استقلال ذاتي لما كان علامة تشير إلى الله تعالى وتدل عليه وبهذا يتضح أن قوله تعالى: (والله هو الولي) أو (إنما وليكم الله) إن الولاية الحقيقية وأولاً وبالذات هي للذات الإلهية المقدسة ومنها تأتي ثانياً وبالعرض لرسوله والأئمة (عليهم السلام) في قوله: (ورسوله والذين آمنوا).
* الثالث ـ الولاية في الأحاديث:
ورد أن أحد معاني الولاية هي إدارة المجتمع وتدبير أمره وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم كما أشرنا في الآيات السابقة في الأمر الثاني وأيضاً وردت في أحاديث المعصومين التي وردت إلينا، ففي نهج البلاغة قال عليه السلام: "ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة".
وقال عليه السلام: "أما بعد فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية.. فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية" (من خطبة رقم 216). وقال عليه السلام في عهده لمالك الأشتر رحمه الله: "فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها فلا تكشف عما غاب عنك منها".
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية" (وسائل الشيعة، ج1).
* الرابع ـ ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليه السلام على العقلاء:
بعدما تبين في الأمر الثاني أن ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة (عليهم السلام) ترجع إلى ولاية الله تعالى لأن كل ما بالعرض يعود إلى ما بالذات وعليه فإن المبدأ أو الدين نفسه هو الذي يتولى قيادة المجتمع وتوجيهه، وما دام للدين الولاية على الجميع فإن الشخصية الحقيقية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولبقية المعصومين (عليهم السلام) تندرج تحت ولاية الدين وكذلك شخصياتهم الحقوقية، لأن عصمة المعصوم تعود لكونه لا يملك شيئاً غير ما لديه من قبل الله تعالى. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لو تلقى حكماً عن الله تعالى أو فتوى بعنوان أنه رسول مؤتمن على الوحي الإلهي مسؤول بإبلاغه إلى الناس فإن العمل بهذه الفتوى واجب على الجميع بما فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فعلى سبيل المثال قوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (النساء: 176). هذه فتوى عليك تبليغها إلى الناس ويعمل بها الجميع حتى انت يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الأحكام الولائية من قبيل قطع العلاقة مع قوم ما أو إخراج اليهود من المدينة أو مصادرة أموالهم فإن العمل بها واجب ونقضها حرام حتى على النبي نفسه. وكذا الحال بالنسبة إلى الحكم القضائي، فشخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحقيقية تندرج مع بقية الناس في كونه جزءاً ممن يتولاه المبدأ، أما بشخصيته الحقيقية فهو الولي وهذه الولاية بهذا المعنى فهي على العقلااء وليست أبداً من قبيل الولاية على السفيه والمجنون والمحجور لأن مثل هذه الولاية الأخيرة يعود شأن التصرف والتدبير فيها إلى الولي بحسب نظره ووفق رأيه بخلاف الولاية المبحوث عنها في المقام، بل ترجع إلى ولاية الله تعالى من خلال ولاية المبدأ والدين. فالولي هو القيم والحافظ لأحكام الدين وقوانينه وليس متصرفاً بما يحلو له وفق رغباته ونظره، فإن الذين شبّهوا ولاية المعصوم عليه السلام والفقيه بالولاية على القُصَّر والمحجور عليهم قد خلطوا بين الأمرين وأفقدوا بذلك حق الولاية للمعصوم عليه السلام والفقيه. فلا بد من التنبه لهذا والوقوف على الاختلاف فيما بينهما لتجلي حقيقة الولاية المبحوث عنها في المقام وأنها لا تسيئ إلى العقلاء ولا تسلبهم إرادتهم وحريتهم بل ترشد وتنظم العلاقات وتحدد القوانين والأحكام على طبق ما جاءت به الشريعة السمحاء. فأحكام الله تعالى تصل إلينا بالوحي إلى رسله وأنبيائه الذين تجب اطاعتهم بما أنهم وسطاء، وليست اطاعتهم أمراً وراء اطاعة الله والأوامر الصادرة عنهم في هذا المجال ليست مولوية بل أوامر ارشادية نظير أوامر الفقيه الصادرة عنه في مقام بيان أحكام الله تعالى، وهناك جهة ولائية لهم تصدر عنها أحكامهم وأوامرهم فتلزم اطاعتها لأنها أوامر مولوية.
* الخامس ـ ضرورة إقامة الحكومة:
إن الدين والإسلام نظام واسع كافل لجميع ما يحتاجه الإنسان ويواجهه في معاشه ومعاده شاملاً لمصالحه الفردية والاجتماعية ويحدد ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان اتجاه خالقه ومجتمعه من علاقات اقتصادية وسياسية وروابط ما بين الحاكم والرعية والعلاقة مع سائر الأمم، ولا ينحصر دور الإسلام في عالم التقنين والتشريع من دون الالتفات إلى القوة المنفذة وشرائطها ومن هنا كانت الضرورة الفعلية قاضية بإقامة الحكومة العادلة لحفظ النظام العام وبدون ذلك يختل النظام وتسود الفوضى والاضطرابات في المجتمعات بل تضمحل المجتمعات ولا يبقى من روابط. والقرآن الكريم قد حذّر ونهى عن حكومة الفاسقين والظالمين والكافرين بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44). وقال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة: 45). وقال تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ (المائدة: 47). إذاً لا بد من حكومة ولكن يجب أن تكون حكومة العدل الإلهي ولهذا الإمام الخميني قدس سره قال في كتاب الحكومة الإسلامية: (وقد بلغ اهتمام الإسلام بالإمامة والحكومة حداً ورد أنه لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما).
وقد ورد في حق الإمام العادل الكثير من الروايات منها ما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إمام عادل خير من مطر وابل" (الغرر والدرر 1/386، ج149).
وقد ورد عن علي عليه السلام: "أفضل ما منّ الله سبحانه به على عباده علم وعقل وملك وعدل" (الغرر والدرر 2/439، ج3205). وورد عن علي عليه السلام: "ليس ثواب عند الله سبحانه أعظم من ثواب السلطان العادل والرجل المحسن: (الغرر والدرر 5/90، ج7526).
فإذا كانت الحكومة بهذه الضرورة العقلية إذاً فما هي الأسباب التي أدت إلى نفور المسلمين من اسم الحكومة والسياسة، وفي الحقيقة هناك أسباب يمكن اجمالها لا على نحو الحصر بالأمور التالية:
أولاً: ما رآه الناس وعاشه وعاناه من عقلية الطواغيت وحكومات الظالمين طيلة القرون الماضية فإن ذلك سبب صدمة وبؤساً في القلوب وكرهاً لما يسمى بالحكومة والسياسة.
ثانياً: ما ارتكبه علماء السوء طلاب الدنيا من التقرب إلى بلاط سلاطين الجور وتحرف الأحكام بما يبرر أحكام الظالم وجوره.
ثالثاً: حركة الاستكبار الغربي والشرقي والحركة الصهيونية العالمية وتشعباتها تحت تسميات عدة ومختلفة ومن أبرزها العولمة والعلمنة في مواجهة الدين والدعوة إلى التفكيك بين الدين والسياسة فإن هذه الحركة أثرت في قلوب وعقول الكثيرين حتى غدا الدين غريباً والبحث في المسائل السياسية والحديثة عن قيام دولة وحكومة إسلامية من الانحراف عن الدين، وأصبح حملة الدين يعيشون في عزلة عن مجتمعاتهم والحياة العملية اليومية بعدما قصروا حركتهم على طقوس خاوية.
ولكن هذه الأوهام والدعايات والحملات المشوهة سقطت بوقفة الإمام الخميني قدس سره الخالدة التي أثبتت أن لا دين من دون سياسة وأن لا سياسة من دون دين ولكن على أصحاب الدين أن يفهموا الدين وعلى رجال السياسة أن يفهموا الدين وعلى رجال السياسة، ولذا كان التركيز على أن سياستنا هي عين ديانتنا وأن ديانتنا هي عين سياستنا. وأدرك العاملون والمجاهدون وحملة الدين الأوفياء ضرورة قيام حكومة إسلامية فتحققت الأمنية وحلم الأنبياء الطويل على يد الإمام الخميني قدس سره بجمهورية إسلامية وحكومة قرآنية فتبددت بذلك الأوهام وزالت المخاوف وعظمت التجربة وتحولت منهجاً ونوراً يستضاء به وأخذ الحديث عن ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية ينمو ويتسع وبهذا كان الارتباط بين الإمام الخميني قدس سره وولاية الفقيه..
* ولاية الفقيه:
البحث في ولاية الفقيه كان نظرياً وقد تعرض إليه الفقهاء في خضم أبحاثهم الفقهية في أبواب متعددة، ولكن على مستوى إدارة الأمة والحكومة لم يُعط حقه لأن يد الباحثين والقيمين لم تكن مبسوطة لإقامة حكم عادل بل كان الخوف يلف الساحة وتقية الأعداء والظالمين هي الأصل الحاكم ومع هذا قد نرى بعض الكلمات لأرباب هذا الفن كصاحب الجواهر قدس سره في بحث الولاية بجنبة إدارة الأمة والحكومة حيث يقول: "مما يظهر بأدنى تأمل في النصوص، وملاحظتهم حال الشيعة وخصوصاً علماء الشيعة في زمن الغيبة، وكفى بالتوقيع الذي جاء للمفيد من الناحية المقدسة، وما اشتمل عليه من التبجيل والتعظيم بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً ولا تأمل المراد من قولهم إني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم" (جواهر الكلام، ج21، ص397). فالشيخ الجواهري قدس سره يؤكد أن هذه المسألة عقلية إذ يلزم من عدم وجود متول ومجر للأمور أن تعطل الأحكام في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.
والإمام الخميني قدس سره كشف الستار عن هذه الولاية وأخرجها من عالم النظرية والقوة إلى عالم التطبيق والفعل وخصوصاً بعدما تصدى بالبحث التفصيلي لهذه المسألة في منفاه في النجف الأشرف على مشرفه السلام، وأعطى لهذه الأبحاث قيمة عملية وحركية لمّا سمّاها باسم الحكومة الإسلامية.
فولاية الفقيه كما حققت في محله هي امتداد لولاية ولي الأمر عجل الله فرجه الشريف فهي في الحقيقة تعود لولاية (الفقاهة والعدالة) في نطاق ولاية المبدأ والدين الذي يتولى قيادة المجتمع وتوجيهه. وما دامت هذه الولاية على الجميع فالفقيه بشخصيته الحقيقية يندرج تحت ولاية الدين وكذا شخصيته الحقوقية في حفظ أحكام الله تعالى وتطبيق شرعه وحمايته بمباشرة العمل بنفسه أو بمن يكلفه بالنيابة عنه. ولا بد أن يكون من يكلف بهذه المهام الكبرى ـ ولاية الأمر ـ على درجة من التقوى والورع والاستقامة والعلم والزهد والخبرة بأهل زمانه وأن يكون مجتهداً جامعاً للشرائط. وولاية الفقيه ليست من باب ولاية شخص على آخر حتى يقال: الأصل عدم ولاية أحد على أحد لأن الناس أحرار كما خلقوا، بل هي في الحقيقة الولاية للدين من خلال (الفقاهة والعدالة).. وحينئذٍ هذه الولاية للفقيه ليست من نمط ولاية الأب على الابن الذي تلزمه بإطاعته ولا يحق للابن أن يقول لأبيه افعل أو لا حتى أفعل أنا بل إذا أمر الفقيه القائد بشيء يتحتم عليه أن يعمل به مع الأمة وإذا تخلف عن ذلك فمن حق الأمة أن تعترض عليه. وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول للأمة أنه لا يأمرهم بشيء حتى يكون قد سبقهم للعمل به. وهذا نبي الله شعيب عليه السلام على ما يحكي القرآن عنه بقوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: 88). فولاية الفقيه بباعث شخصية الولي الحقوقية هي عبارة عن (الفقاهة والعدالة) وهذه الولاية لها جنبتان، إحداهما كانت ميسرة تمارسها المرجعية في دائرتها المحدودة من التصدي للإفتاء وأخذ الحقوق الشرعية والتصدي للأمور الحسبية من تعيين قيّم على أموال الغائبين والأيتام والتحجير على السفهاء وتعيين القيّم على المجنون، ونحوها مما ذكر في محله لأن مثل هذه المسائل لا تتعارض مع صلاحية الحاكم ولهذا كانت اليد فيها مبسوطة.
وأما الجنبة الأخرى وهي الحاكمية والحكومة فلم تكن ميسرة لأن يد المرجعية كانت مغلولة حتى قيّض الله تعالى الإمام الخميني (قدس سره) ووفقه لانجاز هذا الأمر بإقامة الحكومة الإسلامية في إيران وعمدة هذا النظام وعموده الفقري (ولاية الفقيه) التي كانت أبحاثاً نظرية فتحولت إلى نظام ونهج وخط في قيادة المجتمع إلى شاطئ الإسلام والسلام في هذا العصر مع كل تحديات الاستكبار العالمي. وهنا أحب أن أذكر بكلمة في المقام لآية الله السيد محمود الهاشمي (دامت إفاضاته): (أعتقد أن قداسة ولاية الفقيه واضحة جداً وانطباقها على القائد المعظم أيضاً واضح جداً واهتمام الإمام الراحل وأحاديثه حول ولاية الفقيه واضح أيضاً..) وقال: (لقد كان الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) عندما يسمع أقل كلمة تصدر من شخص ينال من ولاية الفقيه، كان (رحمه الله) يربط القائل (بأنه يتحدث بما يوحى إليه من قبل الأعداء من حيث يشعر القائل أو لا يشعر). ويقول: (راجعوا أحاديث الإمام الراحل حول ولاية الفقيه المدونة في كتاب "صحيفة النور").
وبالنسبة لولاية الفقيه بعدما كان منطلق البحث كما مرّ في الأمر الخامس (من ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية) فتكون الأدلة والروايات التي بحث عنها الفقهاء للاستدلال على الولاية هي ارشاد لذلك الحكم العقلي ولتلك الضرورة، علماً بأن مقبولة عمر بن حنظلة التي قبلها الأصحاب من حيث الاعتبار دلالتها على الولاية والحاكمية واضح كما ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في كتاب القضاء حيث فرق في المقبولة بين قوله: (فارضوا به حكماً) وقوله عليه السلام: (إني جعلته حاكماً)، ما بين الحكم والحاكم، الأول في القضاء والثاني في الحاكمية والولاية. والقضاء في الحقيقة إنما هو منصب من المناصب التي يعينها الولي والحاكم. ورواية أبي خديجة أوضح في هذا المضمار، إلى غيرهما من الروايات الكثيرة التي تعرض لها الباحثون في أبحاثهم.. وعليه هذه الولاية نرى فيها وجودنا وكرامتنا وعزنا واستقلالنا وارتباطنا بالله تعالى فعندما عشنا هذه الولاية عملياً وجدنا ما كنا نفتقده واستقامت المسيرة، ولذلك يجب الالتزام بنهج ولاية الفقيه والعمل تحت راية ولي الأمر القائد المفدى الإمام الخامنئي (دام ظله) الذي نهض بالأمر وقاد المسيرة بحسن تدبيره ووعيه وعلمه وخبرته وتقواه وزهده وجسّد بسيرته سيرة أجداده الطيبين الطاهرين، ويمثل بمرجعيته اليوم المرجعية الرشيدة في تاريخنا وقد قال عنه آية الله السيد محمود الهاشمي (دامت إفاضاته) المطّلع الخبير: (السيد القائد الأفضل والأجدر). وقال: (فلا أظن أن أحداً في هذه الأيام يشك في أن السيد القائد المعظم سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي هو أفضل إنسان في المجتمع والأجدر لرفع راية ولاية الفقيه). ويقول: (وبعدما أظهر هذا القائد العظيم سماحة آية الله العظمى الخامنئي من سلوكه ونهجه ونفسيته لدى تحمله لأعباء القيادة الجسيمة ومسؤولياتها لم يبق مجال للوقوف والسؤال حتى لدى الأعداء فكيف بالأصدقاء).
السيد القائد الإمام الخامنئي (دام ظله) المرجع والولي الذي يحفظ به الإسلام وثورته المظفرة والمسلمون وحركاتهم المباركة والمستضعفون وتطلعاتهم إلى الغد الذي سيشرق بالإسلام العزيز إن شاء الله تعالى، فنسأله أن يوفقنا لأداء حق الولاية وحق ولي أمرنا وقائد مسيرتنا ومرجعنا الإمام الخامنئي (دام ظله) بالالتزام بأوامره وتوجيهاته، نجاهد تحت رايته بكل وسائل الجهاد وفي شتى الميادين حتى تصل الراية إلى الولي الأعظم الذي تشرق الدنيا بنور طلعته البهية مهدي الأمة أرواحنا لتراب مقدمه الشريف الفداء، من يملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً إنهم يرون بعيداً ونراه قريباً.
(*) الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي.