مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

وصايا الإمام إلى السالكين


سيرٌ في وصية الإمام لابنه السيد أحمد
السيد عباس نور الدين


* الاحتجاب:
"بني، نحن ما زلنا في قيد الحجب الظلمانية، وبعدها الحجب النورية، ونحن المحجوبون ما زلنا عند معطف زقاق ضيق".
تكمن مأساة الإنسان في أمرٍ أساسي، وهو احتجابه عن ربه، وأن منشأ جميع أنواع الشقاء يرجع إلى اعراض الإنسان عن الله. وقد يحتجب المرء بواسطة الذنوب والمعاصي والرذائل الأخلاقية، فيكون واقعاً في الحجب الظلمانية أو أنه يحتجب بواسطة أمور شريفة بذاتها كالعبادة والعلم الفضائل المعنوية، فهو أسير الحجب النورية عندئذٍ. أما الحجب الظلمانية فأمرها بيّن؛ والتخلص منها يكون بالقضاء عليها، وهو واضح أيضاً. وقد بينت الشريعة الإلهية الغرّاء كل ما يحتاجه السالك لمعرفة المعاصي وأنواعها. وكذلك قام علماء هذا الدين العظام ببيان الكثير مما يرتبط بالرذائل الأخلاقية، منهم العلامة الفيض الكاشاني في "المحجة البيضاء"، والنراقي في "جامع السعادات" الذي يمثل نوعاً من التلخيص للكتاب السابق. ومن بعدهما مشى العلماء في شرح وتفصيل أو تلخيص ما أثر عنهما. وقد جاء الدور إلى الإمام الخميني قدس سره للحديث عن الرذائل الأخلاقية بأسلوب يتصل منهجه بالسير والسلوك، كما يقول الشهيد مطهري قدس سره عنه: "ولكن الدرس الأخلاقي الذي كنت أستمع إليه من شخصيتي المحبوبة في كل خميس وجمعة كان يسكرني، وقد كان في الحقيقة درساً في المعارف والسير والسلوك، وليس الأخلاق بالمفهوم العلمي الجامد".
وفي "الأربعون حديثاً" تعرض الإمام إلى هذه المعارف والمفاهيم، بطريقة يمتزج فيها الوعظ بالعمق، والسلاسة بالأصالة، وخلاصة الكلام، إن من رام معالجة نفسه، والتخلص من هذه الأمراض الخبيثة، التي هي ظلمات وكدورات، تحجب عن الله تعالى، فعليه الرجوع إلى هؤلاء الأطباء الروحانيين.
وبالنسبة للحجب النورانية، على السالك أن يخترقها، لا أن يزيلها لأنها أمور شريفة بذاتها، وتتحول إلى حجاب بين العبد والمولى عندما تصبح هدفاً ومقصداً. وباختصار، كل ما يطلبه السالك كهدف وغاية لسلوكه سوى الله تعالى فهو حجاب.

* إنكار المقامات:
"بني، إن لم تكن من أهل المقامات المعنوية، إسع أن لا تنكر المقامات الروحانية والعرفانية. لأن الإنكار من أخطر مكائد الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء التي تصد عن بلوغ جميع المراتب الإنسانية والمقامات الروحانية".
للإنسان الكامل مقامات روحانية تحكي عن حالات غير عادية وقدرات ومواهب لا تخطر على قلب بشر. وجود الإنسان الكامل أمرٌ لا ريب فيه، والقرآن الكريم حافل بالتصريح والإشارة إلى مراتبه المختلفة. كما أن صدور الكرامات التي تشير إلى المقامات المعنوية لبعض الأولياء أمر مشهور وواضح عند أهله. والكتب المتخصصة تفسر هذه الحقائق وتبين بعض أسرارها. إلا أن الذين لا يبلغ علمهم أكثر من الظاهر ينكرون هذه المقامات حيث يستطيعون ويؤولون ما يعجزون عن تفسيره. والمشكلة تزداد تعقيداً عندما نعرف أن هذا الانحراف قد دخل إلى جماعة من أهل العلم الذين يتحدثون عن الغيبيات بأنها نوع من الأساطير، فيقولون حول ما سمعوه في هذا الشأن أنه من الغيبيات التي لا تفيدنا.. وهذا ما يذكرنا بالافتراء على الفلاسفة المتألهين واتهامهم من قبل الماديين بالمثالية وإنكار الواقع!

إن الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان في جميع نشاطاته هو الرغبة في بلوغ كمال أعلى والنفور من النقص. وإذا مات هذا الدافع تخمد في نفسه جذوة التحرك والعمل. وهذا قليل، بل نادرٌ بين البشر. إلا أن المشكلة في الأغلب تكمن في عدم معرفة الكمال المطلوب، الأمر الذي يؤدي ذلك إلى السعي نحو كمال موهوم. هذا هو سعي إبليس اللعين بشكل دائم. وهو تزيين ما ليس جميلاً، وإغواء الإنسان، ليظن أن الكمال الذي يريده من أعماقه هو هذا الشيء الذي يكون في الواقع وهماً وسراباً. وإذا نجح إبليس في هذه المكيدة، فإنه سيجر صاحبه نحو التخبط في متاهات الحيرة والضياع. وتكون النتيجة اليأس من رحمة الله تعالى.
ولهذا، فإن إنكار المقامات المعنوية، التي تمثل بذاتها الكمال الحقيقي ـ وهو الكمال الذي ينشده الإنسان من أعماقه ـ يعني إنكار الواقع وقتل الدافع، الذي به يتحرك الإنسان ويسعى ويجاهد.

هذا الإنكار قد يكون بصورتين ـ الأولى: أن ينكر أحدنا المقام دون أن يتصوره على حقيقته. والثانية: إنكاره بعد تصوره. والثانية أقبح وأشنع، وهي التي تنشأ من جراء الذنوب والمعاصي الكبيرة والإيغال في الفتنة واتباع الهوى. قال الله تعالى:   ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ . ففي الصورة الثانية هذه، يدرك المنكِر معنى المقام ووجه الكمال فيه (بشكل إجمالي) إلا أن خبث باطنه وسوء سريرته يجعله معانداً له بحسب ما انجبل عليه من الطباع الدنيئة.
قال الله تعالى حاكياً عن قوم لوط عليه السلام:  ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.

أما في الصورة الأولى، فالمنكِر قد يكون ضحية قاطع من قطّاع طرق المعنويات والسير والسلوك والمعارف الإلهية الحقة. ولمجرد أن سمع واحداً من جهلة أهل المنبر أو شخصاً ممن له مكانة في نفسه فإنه يأخذ ما سمعه منه أخذ المسلمات. وتستقر هذه الشبهة في نفسه دون تحقيق أو تدقيق. فإذا قيل له إن العرفان هراء وشعوذة تراه يصدق ما سمعه دون أن يسأل عن العرفان ما هو؟ وإذا أُخبر بأن من يقول بأن لهذا الدين باطناً هو مبتدع في الدين ومفتون، تراه يسبه ويلعنه تقرّباً إلى الله تعالى. ولا يكلف هذا المسكين نفسه بالسؤال عن معنى البطون وعلاقته بالظاهر، وهل أن أئمته الأطهار (عليهم السلام) قد قالوا به أم لا؟

وهذا الإنكار، وإن لم يكن بمستوى الثاني، إلا أنه قد يجر إلى النفور، الذي يؤدي إلى العداوة، التي توصل إلى المطرودية. وليعلم، بأنه ما من إنسان يضل دون اختياره. فإما أن تكون الضلالة بسبب العناد: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ أو تكون ناتجة عن التقصير في المقدمات، كاتباع الهوى المذكور في الآية الشريفة.
يقول الإمام قدس سره: "وهذا الانكار يدفع الإنسان إلى إنكار السلوك إلى الله والاستهزاء به أحياناً، مما يجر إلى الخصومة والمعاداة لهذا الأمر. وبهذا، فإن ما جاء به جميع الأنبياء العظام(صلوات الله عليهم)، والأولياء الكرام (سلام الله عليهم)، والكتب السماوية خصوصاً القرآن الكريم سيموت قبل أن يولد".
وأنه من الثابت والمشهور أن في هذا الدين حقائق فوق مرتبة الحس. وأن الإيمان بالغيب، الذي لا تدركه الأبصار، من علامات التقوى. كما أن هذا الدين يتضمن أسراراً لو حملت لأصحاب الأذهان العادية لما طاقوها، وأن إنكار هذه القضية كاتهام الشمس بأنها لا تضيء.
إن معرفة المقامات المعنوية هي معرفة الغاية التي جاء من أجلها الدين وضحّى في سبيلها جميع الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، أي أننا إذا أردنا أن نختصر منهاج الدين الإلهي الذي يدعو الإنسان إليه لقلنا بأنه برنامج التكامل وعبور المدارج والمقامات للوصول إلى المقام النهائي الذي هو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع